-
إبراهيم العريس
بدا المشهد غريباً حقاً في تلك العشية الباردة من نوفمبر (تشرين الثاني) 2008 في مدينة ستوكهولم عاصمة السويد، سيارات الشرطة السويدية تجوب المكان، وما لا يقل عن 10 حراس طوالاً عراضاً قساة الملامح عابسين يفتشون الداخلين، لكن الداخلين لم يكونوا مجهولين أو إرهابيين محتملين، بل كانوا من الأدباء والصحافيين المعروفين، ومع هذا فإن الحراس لم يدخروا مجهوداً في تفتيشهم أحداً، فالأوامر هي الأوامر والحراسة هي الحراسة. ثم إذا كان الضيفان الرئيسان في الحفلة كاتبين وكل منهما مهدد في حياته، وإن ليس للأسباب نفسها سيبدو جيداً أن ليس في الأمر مزاح، بخاصة أن من يهددانهما أطراف من النوع الذي لا يجامل في مثل هذه المسائل، كما سنرى بعد سطور.
بين مشاكس هندي ومجازف إيطالي
أول الضيفين كان سلمان رشدي الكاتب الهندي – الإنجليزي المسلم الأصل، الذي بعد مجد كتابيّ كبير حققته له روايتان أوليان هما “أطفال منتصف الليل” و”العار”، كبت به فرسه بحسب مناوئيه ومنتقديه على الأقل، وأصدر رواية جاءت جديدة في ذلك الحين، لكنها شُتمت كثيراً لافترائها على الإسلام هي “الآيات الشيطانية” سيئة الذكر، التي على أي حال وفي رأي كثر من النقاد كان يمكن أن تُنسى بسرعة، لأنها أصلاً لم تكن في قوة وجمال سابقتيها لولا أن زعيم الثورة الإيرانية في ذلك الحين الإمام الخميني أمّن لها حين صدرت وانتشر أمرها ما كان يلزمها، بل ما كان يفيض عن حاجتها من الدعاية والشهرة، حين أفتى رسمياً بقتل مؤلفها، فباعت ملايين النسخ، فيما كان سلمان رشدي يتنقل من مخبأ إلى آخر، وظل ذلك دأبه لسنوات طويلة تالية. أما ثاني الضيفين فكان الصحافي والكاتب الإيطالي الشاب روبرتو سافيانو الذي انفجر كتاب كان قد نشره قبل ذلك بعام ونيف بعنوان “غومورا” كالقنبلة وسط الحياة الاجتماعية والسياسية، خصوصاً الأدبية الإيطالية، قبل أن يتحول إلى ترسانة من القنابل حين اقتبس فيلماً بالعنوان نفسه.
هل قضية الخميني شخصية؟
وإذا كانت حياة رشدي هددت بفعل فتوى الخميني بزعم إساءة روايته تلك إلى الإسلام، فإن ما أثار الزعيم الإيراني يومها وحرّكه كان في الحقيقة إشارات ومشاهد في الرواية تناولته شخصياً، وإن لم تسمّه، أما حياة سافيانو فكانت مهددة من قبل عصابات المافيا (الغومورا) التي تتحكم بحياة الناس ورقابهم في مدينة نابولي الإيطالية، فأتى كتاب سافيانو ثم الفيلم المقتبس عنه ليفضحها حتى وإن كانت لا تحتاج إلى فضح، وهي التي تعمل وتتحرك علناً وبغطاءات سياسية ضخمة.
ومع ذلك وجد الكاتبان نفسيهما، على تفاوت السن والهوية والموهبة والمكانة بينهما، يعانيان وضعية متشابهة ويعيشان رعباً مماثلاً، حتى وإن كان في وسع سلمان رشدي أن يؤكد حينها على سبيل المجاملة مثلاً أن وضعية سافيانو أخطر من وضعيته، ومكاسبه مما يحدث له أقل كثيراً من المكاسب التي حققها هو بفضل مبيعات ملايين النسخ من كتابه، ناهيك عن أن الخميني كان حين حصل اللقاء قد رحل عن عالمنا منذ زمن طويل، وبدأ الناس ينسون الرواية والفتوى ليعودوا إليهما في حالات متقطعة حين راحت السياسات الإيرانية تتبدل بتبدل الحكام هناك، وضرورات الانفتاح على العالم الخارجي الذي لا بد من القول إنه احتضن سلمان رشدي بقوة، صارفاً نظره عن ارتباك روايته نفسها وتهافتها، مقارنة بروايته الكبيرتين السابقتين كما أسلفنا.
كتاب عن “جوزف أنطون”
والحقيقة أن السنوات التالية أتت حينها لتؤكد ما ذهب إليه رشدي الذي راح على أي حال يصدر رواياته متتالية بعد “الآيات الشيطانية”، مخففاً من غلوائه ووصولاً حتى إلى إصداره قبل سنوات قليلة كتاباً عنونه بـ “جوزف أنطون”، اقتباساً من الاسم المستعار الذي تسمى به في تنقلاته حول العالم متخفياً، ليروي فيه حكاية كتابه وحكاية الفتوى غير مخف سروره بما حدث، طالما أن تلك الفتوى كانت خير دعاية لكتابه، بل لكتبه جميعاً طوال ما يزيد على ثلاثة عقود.
ومن المؤكد أن الخميني وجمهوريته لم يحسبا حساباً لموقفهما الذي خدم رشدي بشكل لم يخدم فيه أحد كاتباً من قبل، ولنضف أن سلمان رشدي حين أصدر “جوزف أنطون” كان استعاد حياته العلنية بموافقة السلطات الإيرانية نفسها التي أعلنت رسميا “إسقاط الفتوى عنه”.
المصائب تجمع
لكن ذلك كله لم يكن قد تحقق بعد حين عقدت ندوة النقاش بين سلمان رشدي وروبرتو سافيانو في تلك السهرة المحروسة بشكل جيد في ستوكهولم، ويومها كان من الواضح أن الرعب يهيمن على المكان والحضور، إذ جمعت المصيبة والتهديد لهذين الكاتبين اللذين ينتميان إلى جيلين مختلفين ونوعين مختلفين من الكتابة، فجلسا في مواجهة جمهور يعد بالمئات، وراح كل منهما يعزي الآخر ويشكو همه، فتعاطف معهما الحضور الذي ما كان يمكنه إلا أن يتعاطف، حتى وإن كان كثر يرون فارقاً بين من كتب مستفزاً أصحاب دين يعدون أكثر من مليار إنسان، معطياً فرصة لبروز شيخ الثورة الإيرانية قبل رحيله مدافعاً عن الإسلام، ومن كتب فاضحاً فساداً وتطاولاً على حياة الناس في بلد ينهار أكثر وأكثر تحت ربقة حكم المافيا التي تتجاوز الدولة، لتصبح وحدها الدولة الحاكمة بأمرها.
أسئلة حول احترام عقائد الآخرين
طبعاً لم يخل الأمر خلال الجلسة الحوارية من مرح وحديث عن الأدب، لكن الجانب الأساس منه ظل ذلك المتعلق بحرية التعبير، والحقيقة أن الوصول إلى قناعات مشتركة في هذا المجال لم يكن سهلاً، ذلك أن كثراً من الحضور طرحوا، لا سيما على رشدي، أسئلة محيرة حول أين في رأيه تنتهي عقائد الناس؟ وأين تبدأ حرية الكاتب في أن يستنفرها؟ وهي أسئلة عرف رشدي على أي حال كيف يتملص من الإجابة عنها، مفضلاً أن يوجه الحديث ناحية كتاب جديد له هو “ساحرة فلورنسا”، الذي كان في تلك الآونة لا يتوقف عن القيام بجولات للترويج له، ولكن دائماً تحت الحراسة المشددة، إذ إن الفتوى كانت لا تزال قائمة ولكن مفاوضات وتعهدات كانت تتم تحت الطاولة، ويعمل عليها رشدي بدأب كي يتخلص من تلك “الورطة” مستعيداً حياته العادية، وهو أمر كان يبدو من نوع التكهنات في ذلك الحين، ولكن كان ثمة من بين العالمين بالأمور، لا سيما في ستوكهولم نفسها، من يعرفون أن المفاوضات سائرة إلى الأمام، وأن مداخلة رشدي في تلك السهرة كانت أشبه بغناء البجعة لحال كان قد مضى عليها نحو ربع قرن، وآن أوان إيجاد خاتمة لها من قبل رشدي الذي كان يعرف أنه لن يعيد الكرّة بعد الآن، ومن قبل الإيرانيين الذين كانوا يتلقون بقدر كبير من الغضب والندم الأخبار المتتالية عن تزايد مطرد في أرقام مبيعات مؤلفاته، وتصاعد ترجمات “الآيات الشيطانية”، متسائلين أوليس علينا أن نضع حداً لذلك؟
الرجل الذي أهان المافيا
ولكن في المقابل، كان سافيانو لا يزال يعاني تهديدات “الغومورا” له، بل إنه لا يزال يعيش المعاناة نفسها حتى اليوم الذي نكتب فيه هذه السطور، ولا يزال يعيش متخفياً متنقلاً بحذر من مكان إلى آخر، وهو واثق كما قال غير مرة من أن الأمر سينتهي بالمافيا إلى التخلص منه، ليس طبعاً لكونه يشكل خطراً عليها، بل لأنه تعمد في كتابته عنها أن “يهينها”. ترى أفلا يجدر بنا أن نذكر مرة أخرى هنا بأن محدثه في تلك السهرة كان على حق حين أكد أن حال سافيانو أشد خطراً من حاله؟
- عن اندبندنت عربية