دانتي وبياتريس

  • عيسى مخلوف

لم يخفت نجم الكاتب الإيطالي دانتي أليغييري (1265-1321) بعد سبعمئة عام على وفاته، بل ازداد سطوعاً. إيطاليا خصّصت عاماً كاملاً للاحتفال بشاعرها الأَشهَر، بالتزامن مع مرور الذكرى السنوية لرحيله، من خلال فعاليات تشهدها مدن إيطاليّة عدّة وخصوصاً فلورنسا، مسقط رأسه. وهناك دول أوروبية أخرى تحتفل به، خصوصاً فرنسا التي أسّست مشروعاً جديداً يهدف إلى تحقيق بحث شامل حول أثر دانتي في المشهد الثقافي الفرنسي، ونُظّمت مطلع هذا الشهر، بالتعاون مع جامعة “السوربون”، ندوة شارك فيها متخصّصون من العالم أجمع عنوانها “عَولمة دانتي”. وقد أصدرت مؤخّراً دار نشر “غاليمار” الباريسيّة، ضمن سلسلتها المعروفة “لابلياد”، ترجمة كتاب “الكوميديا الإلهيّة” للمترجمة المتخصّصة في نتاج دانتي جاكلين ريسّيه التي أخذت في الاعتبار قراءات نقديّة تناولت هذه التحفة الأدبيّة، منذ سبعة قرون حتى التسعينات من القرن العشرين، حين فرغت من ترجمتها التي استغرقت قرابة عقد من الزمن. بهذه المناسبة، تُعرَض أيضاً لوحات ورسوم لبعض الفنانين التشكيليين القدامى والمُحدثين الذين استوحوا من هذه الملحمة الشعريّة المتفرِّدة.

تُعَدّ “الكوميديا الإلهيّة” أحد النصوص المؤسِّسة للأدب العالمي، فهي تمثّل رحلة مجازية في مجاهل الحبّ والإيمان والخَلق، وتختصر ما وصلت إليه المعارف في القرون الوسطى، خصوصاً في أوروبا، كما تفتح آفاقاً إبداعيّة جديدة تركت أثراً حاسماً على المشهد الأدبي والفنّي، وطبعت المخيّلة الغربيّة في نظرتها إلى الماوراء، من خلال تَصَوُّر جديد للجحيم والمطهر والسماء. أمّا البنية الفنّية المُحكَمة السّبك لهذا النتاج فهي تمثّل بناءً مركّباً لا سابق له في الأدب الغربي. في هذا الكتاب، بلغ التخيُّل والشطح أقصى ما يمكن، لا سيّما في فصل “الجحيم” حيث ورد في النشيد الثالث منه تلك العبارة المزلزلة: “أيها الداخلون اتركوا وراءكم كلّ أمل”. تطالعنا في هذا الفصل أيضاً، أسماء فلاسفة وعلماء من اليونان القديمة، وفي مقدّمهم سقراط وأفلاطون، كما يطالعنا، من جهة الشرق، ابن سينا وابن رشد. وفي فصل “المطهَر”، يحضر لبنان في إحالة إلى “نشيد الأناشيد”: “هلمّي معي من لبنان أيّتها العروس”.

كتاب “الكوميديا الإلهيّة” الذي وُلدت معه اللغة الإيطالية ثانيةً، مثَّلَ في زمانه نظرة روحيّة متكاملة للعالم، وبَلْوَر رؤية للأماكن الماورائيّة الثلاثة (المطهر والسماء والجحيم) التي تحدّثت عنها الكتب السماوية، ولقد قدّمها دانتي وفق رؤيته الخارقة التي اعتمد فيها رمزيّة الأرقام. وهذه الرؤية لا تنهل من المسيحيّة وحدها وإنما تنفتح، بحسب بعض دارسيها، على جميع التقاليد الروحية الكبيرة بما فيها الإسلام. هكذا يشكّل هذا النصّ، بفضل فنّيّته وسِعة آفاقه والأحاجي التي ينطوي عليها، مرجعاً مهمّاً للكثير من الكتّاب والفنّانين والسينمائيين، والمبدعين بعامّة. مِن الذين استلهموا من كتاب دانتي: فيكتور هوغو وشارل بودلير وجيرار دو نيرفال ووليام بلايك وأوغست رودان وسلفادور دالي.

ثمّة كُتُب لا نقرأها فقط بل نعترف أمامها. نتأمّلها. نصغي إليها ونناديها. نمرّغ وجوهنا في عتباتها. نشكو أمامها ونبوح. تصير كائناً حيّاً، أعمق وأصفى ما في الكائن. نتواطأ معها على كلّ شيء حتّى على الحياة نفسها. نعيش عمراً واحداً في الحياة الواحدة، أمّا في بعض الكتب فتكثر الأعمار.

الفنان الإيطالي جيوتّو، وهو أحد الفنّانين الذين تركوا أثراً عميقاً في الفنّ الإيطالي، رسم صديقه دانتي، لكنّ الرسم ضاع قروناً عدّة. ستّة قرون اختفى فيها وجه الشاعر في إحدى جداريات كنيسة قصر “برجيلّو” في فلورنسا، إلى أن اكتُشِفَ في القرن التاسع عشر تحت طبقة من الدهان. حين رسم جيوتّو دانتي، لم تكن وُلدت بعدُ “الكوميديا الإلهيّة”، لكنّ الشاعر الإيطالي كان يحملها في قلبه وكان يترقّب حدوثها. وقصّة الحبّ التي غيّرت حياته كان لها اسم واحد: بياتريس.

يتلفّظ دانتي بأسماء جميع النساء واسمها يلمع وراء كلّ اسم، وكان يطمح أن يكتب عنها ما لم يكتبه رجلٌ في امرأة. استرجعَ قصص جميع العشّاق ليحكي قصّته. تحدّث عن عاشقين يتقاسمان الجحيم: باولو وفرنشسكا. يتعرّضان لآلام عظيمة لاتّهام بالزنا، لكنّهما معاً في مكان واحد، بينما هو، الناجي من النار، وجد نفسه بعيداً عمّن يحبّ. بعيداً عنها لكنّها تطالعه في جميع الكائنات والأشياء. بياتريس تسطع أنوارها في كلّ مكان، في الكُتُب كلّها، وكذلك، كما جاء في النشيد الثامن والعشرين من “المَطهر”، في “الحقّ المُطلَق الذي يحلو لنفسه”.

  • عن نداء الوطن

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *