أمبرتو إيكو: “الكذب أو الخطأ يغيّران العالم”

(ثقافات)

مدني قصري

 

يقول أمبرتو إيكو: إننا نعيش منذ قرون طويلة تحت إمبراطورية الزيف. في تحليلاته الأدبية الأخيرة، يُثبت مؤلف الروايات الشهيرة، أنّ الكذب أو الخطأ يغيّران العالَم. مع أمبرتو إيكو تبدو المعرفة أشبة بِلعبة دروب سعيدة ووعرة. فهو يستعمل سِعة الاطلاع بكثير من الفرح الذي تنتقل عدواه بسرعة، وتحت وجهٍ مزدوج أيضاً: فمن ناحية نجد صاحب الروايات الناجحة، مثل “اسم الوردة” الذي جعلت قراءه، وعددهم 16 مليوناً عبر العالم، مولعين بالقرون الوسطى. ومن الناحية الثانية، نكتشف اختصاصياً في الرموز والعلامات التي جعلت منه خبيراً في فنّ التفسير والتأويل. درس إيكو في بولونيا، وفك طلاسم اللغة والنقد النصي في مقالات عديدة، مثل “الأعمال المفتوحة وخلد الماء (الخلد حيوان لبون). وفي روايته الأخيرة “مقبرة براغ” يُثبت إيكو، مرة أخرى، أن الكلمات تغيّر العالم، وأحياناً نحو الأسوأ.
عاش أمبرتو إيكو فترة من عمره في ظل الفاشية التي جعلته أكثر تيقظاً إزاء التلاعب بالأشياء، إذ يقول: “هذه الفترة جعلتني أكثر تيقظاً وانتباهاً. وهذا صحيح بالنسبة لكل الشذوذ الدكتاتوري. فحتى يستعرضوا أمامنا مظاهر القوة والسلطة، وصفوا لنا كل الذين قاموا بالمسيرة نحو روما لتنصيب موسيليني في السلطة العام 1922، بالأبطال! وكان ذلك شأن أستاذي في المدرسة الابتدائية – الذي لم يكن شخصاً رديئاً- كان طوله 165 سنتيمترا! وأذكر أنني عندما كان عمري خمس سنوات كنت أقول لنفسي: يا له من حظ سعيد أن أولد في إيطاليا، ولم أولد كهؤلاء الفرنسيين البؤساء، والإنجليز، والأميركيين! كنت تحت وطأة القومية – دولتنا هي أفضل دولة في العالم-، وكنت أؤمن بوجود عدوّ صنعوه لنا صنعاً، مجسّداً في الديمقراطيات المختلفة. كان يُروَى لنا أن الناس هناك يتناولون خمسة أطباق كل يوم! تصوّروا! فأنا لم أدرك أنني أنا أيضاً أتناول خمس وجبات طعام في اليوم إلا فيما بعد! فالآخر كان كريهاً ممقوتاً بالضرورة. يجب أن أقرّ وأقول إنني وأنا في السادسة من العمر لم أدرك أشياء كثيرة.. أشياء لم أفهمها إلا بعد انتهاء الحرب.
ولا شك أن خط التوجيه في أعمال إيكو هو تدريب قرّائه على حسّ الريبة والخشية. في هذا الشأن يقول “بالطبع، ما دام كل متخصّص في علم الدلالات يمارس الشك المتواصل بدافع الموهبة! مِهنتي هي اشتمام ما هو مختبئٌ وراء الخطاب. لا يعني هذا أني أمارس الشك القائم على الهوس أو الوسواس، بل أمارسه لمعرفة كيف يوظف الناس الخطاب لكي يقنعوا سامعيهم، وكيف يخبئون الأشياء، أو كيف يقولون الحقيقة. فهذا الشك صحي، فهو شك رجل العلم الذي يتجول في غابة، ولأنه يرى فيها أشياء غريبة بالقرب من الأشجار، يسارع إلى اختراع البنسلين!”. لكن، لماذا المزيّفون هم المحرك الحقيقي للتاريخ؟ هنا يرد إيكو قائلا: “ولِم لا؟ فالتاريخ ليس فيه من الفضيلة أي شيء! فهو يتنقّل عبر الزمن بواسطة الإبادة، والجريمة. بناءُ الأشياء المزيّفة واحد من الوسائل التي تلجأ إليها الدول والأفراد على السواء، لتغيير مجرى التاريخ. ربما من أجل الأفضل أحياناً (كما تفعل العلوم، والفنون، وما إلى ذلك)، لكن بصورة سلبية في أغلب الأحيان. والحال أن أكاذيب البعض هي حقيقة عند البعض الآخر. لنفرض أنك من ديانة معيّنة: فكل ما يقوله أصحاب الديانات الأخرى تراه أنت غير صحيح. إذن، على أي حال، 90 % من البشرية تقع في الخطأ. والحال أننا نعيش على الخطأ المتكرر منذ آلاف السنين. والتاريخ كان دوماً مسرحاً للوهم. فالديانات الكبرى تحمل أخطاءها أيضاً، فهي التي دفعت التاريخ إلى الأمام، نحو الخير (الأخلاق وقيمها)، أو نحو الشر (نحو الحروب الدينية)”.في إحدى كتاباته وصف إيكو الكاتب بورجيس Borges بـ “الأرشيفي المجنون”). لماذا ترى؟ في هذا الشأن يقول: “صحيح أنني أتغذى من القواميس ومن الموسوعات. فلا يسعني أن أتصور عملي بدون توثيق مسبق. توثيقٌ قد يدوم سنوات عديدة. فالقاموس لا يصنع الكاتب الجيد، لكن الكُتاب الجيّدين يخالطون ويحتكّون بالقواميس. أما الموسوعة فهي الأرضية التي نجد حولها الوفاق الذي يفيدنا في المناقشة والتحاور. إن ما يخيفني في الإنترنت حقاً أن كل واحد، من بين المليارات السبعة في الكرة الأرضية، قد يصنع من الإنترنت موسوعة خاصة به. وهذا مستحيل! لأن ثمة دائماً مراقبة اجتماعية، لكن لو كان عندنا سبعة مليارات موسوعة لما استطعنا أن نتفاهم!”، ومع ذلك لا تخلو أيّ موسوعة من الأخطاء التي نرى إيكو يُطاردها باستمرار. حول هذا الموضوع يُعلّق إيكو قائلا: “حتى وإن كانت الموسوعات تتضمن أخطاء، فهي تتيح لنا إيجاد لغة مشتركة بيننا. أنا أقصد الموسوعة المثالية، أي مجموع المعارف في فترة محددة، التي لا تنطبق على الموسوعة الحقيقية التي نشتريها من المكتبات. إنها عنصر من عناصر البعد الاجتماعي في الثقافة. فلكي يثبتوا أن الأرض تدور حول الشمس، كما فعل كوبرنيكوس وغاليليو، كان لا بد من الانطلاق من علم مشترك، هو علم العالم بطليموس. وربما تتضمن الموسوعة بعض الأفكار الخاطئة. ولذلك فليس مستبعداً أن نكتشف ذات يوم أن اليوم الذي مات فيه نابليون ليس هو التاريخ الصحيح. لكن، مع ذلك، تبقى الموسوعة نقطة الانطلاق لثقافة مشتركة، إلى حين التصحيح القادم للخطأ”.
وفي سياق آخر يؤكد أمبرتو إيكو أن الكتاب قد أثبت وجوده، ولذلك لا يسعنا أن نبتكر أفضل منه، إذ يقول: “الكتابُ سلسلة من الصفحات أو الصور مجتمعة بواسطة تقنية معينة، تجعل تصفّحه ممكناً. هذا هو سرّ الكتاب. سواء أكانت الصفحات من الورق أم من الرق، أم من ورق الخشب كما هو الحال اليوم. فالأمر سيان. فحتى الكتاب الرقمي (الإلكتروني) الذي حاول أن يقدّم نفسه على أنه مبتكر واختراع فريد، فهو يسعى لتقليد الكتاب العادي. وإلى حد من الحدود فقط! لأنه لا يضاهيه من بعض الأوجه: الكتابُ الورقي مستقِلّ بذاته، فيما الكتاب الإلكتروني تابع، ولو إلى الكهرباء على الأقل. روبنسون كروزو كان يستطيع وهو فوق جزيرته، أن يغرق في القراءة ثلاثين عاماً متواصلة، يقرأ كمّاً هائلا ممّا أنتجته مطبعة غوتنبرغ! أمّا لو قرأها على جهازه المحمول لما استطاع أن يقرأ أكثر من ثلاث ساعات، أي المدة التي تتحملها بطارية جهازه المحمول! فنحن الآن نستطيع أن نقرأ كتباً عمرها خمسة قرون، لكننا لا نملك أي دليل على إمكانية قراءة كتاب رقمي عمره أكثر من ثلاث أو أربع سنوات! فعلى أي حال لنا أن نشك، بحكم طبيعة الكِتاب الرقمي إنْ كان سيحتفظ بحدته المغناطيسية على مدى خمسة قرون؟ فالكتاب الورقي إذًا اختراع لن يتجاوزه الزمن، مثلما لم يتجاوز الزمنُ العجلة!”. لكن، ألسنا نميل إلى عدم تكريس الكتاب، رغم ما في باطنه من حقيقة وثقافة؟ هنا يقول إيكو: “يبهرني الخطأ، والعلوم الإخفائية، والأفكار المزيفة! أحب أن أؤكد لكم أن في الكتب من الأخطاء ما هو موجود منها في أي مكان آخر. إن ما يشل الثقافة ليس الحفظ بل الغربلة. فلن نعرف أبداً إن لم يكن من بين آلاف الكتب التي احترقت في مكتبة الإسكندرية العريقة، أعمالٌ عن البشرية أهم من أعمال هومر؟ ففي قصائده يذكر أرسطو مؤلفي تراجيديات لا نعرفهم نحن. فمن يقول لنا إنهم لم يكونوا أهم من أوريبيد، أو أن سوفوكل لم يكن سوى عربيد مخادع استطاع بفضل أصدقائه أن يبني شهرة لم يكن جديراً بها؟ فالمؤشر الوحيد الذي نملكه أن سقراط هو الوحيد الذي تحدث عن هؤلاء التراجيديين الذين لا نعرف عنهم شيئاً. وأنا أفترض أنهم لو كانوا عباقرة حقاً لكان كاتب من الكُتاب تحدّث عنهم ذات يوم، أو كتب مثلهم.
أمبرتو إيكو على حقّ بالتأكيد. ونستنتج من كل ذلك أن ثقافتنا هي نتاج لمِا كُتب له أن يعيش ويبقى، ويفلت من الغربلة، ومن النيران، المقصودة منها وغير المقصودة، ومن الرقابة، ومن التلف والفقد والضياع.

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *