( ثقافات )
*إنتصار بوراوى
نشر أول عمل أدبى للكاتبة العربية غادة السمان عام1962 م وهى مجموعة قصصية بعنوان” عيناك قدري “،تلتها مجموعتها القصصية الثانية” لا بحر فى بيروت” أما دخولها لعالم الرواية فقد كان في عام 1974م عندما أصدرت روايتها الأولى “بيروت 75” وتتابع إنتاجها القصص والروائي الذى اتسم بالغزارة ولم تقتصر فيه على كتابة القصة القصيرة والرواية بل خاضت التجربة الشعرية من خلال المجموعات الشعرية التي أصدرتها وكرستها للبوح بما يختلج عواطفها تجاه الرجل فى غزل شعرى رقيق الذى ندر أن تبوح به المرأة بكل جرأة فى تلك المرحلة الزمنية التي نشرت فيها غادة السمان كتاباتها.
بالإضافة لكل ذلك قامت الكاتبة بنشر العديد من المقالات فى مختلف المجلات والدوريات العربية التي تجاوزت فيها الهم الخاص المغرق فى ذاتيته إلى هموم عامة وطنية وإنسانية.
ورغم أن قصة “لعنة اللحم الأسمر” ،تعتبر من البدايات القصصية الأولى للكاتبة ضمن مجموعتها الثانية “لابحر فى بيروت” ، ولكنها تحمل في ثناياها وجه وحياة وفكر الكاتبة على مدى تاريخها الأدبي الطويل الذى يدخل في قرابة ستين عام من الكتابة والإبداع .
تبدأ القصة بصوت فتاة تحدث نفسها مخاطبة حبيبها الغائب بقولها: “في كل ليلة ياصديقى حينما تنزلق المدينة فى أحضان الظلمة وتنام عيون أهلي أنسل أنا من فراشي لأهاتفك”
وتستغرق بطلة القصة في وصف تسللها من غرفتها لمحادثة الحبيب الذى لا تعرفه إلا عبر أسلاك الهاتف :لماذا كل ليلة أحدثك بالهاتف وأحيلك إلى رجل مقطر في صوت ولا أريد منك إلا الصوت ص 19
فبطلة القصة ترفض ان تقابل من تحبه كى لا ترى في عينيه نظرات الشهوة والرغبة التي تجدها في عيون كل الرجال الذين لم يروا فيها إلا جسدا فقط
ثم تقطع سيل أفكارها والحوار الداخلي، الذى يبدو كهذيان وتمضى الكاتبة في تصوير ورسم قصة بطلة القصة بكلمات موحية بالجو النفسي الذى تعيشه الشخصية حين تتساءل بطلة القصة عن السبب فى توقف رنين الهاتف” الهاتف ميت العالم الذى ابتدعته بك ومن أجلك يهتز” ص12
ومن خلال هذا الموقف الدرامي، يدور نسيج القصة حول شخصية واحدة وهي الفتاة الوحيدة التي تخاطب نفسها، بمنولوج داخلي ترصد فيه عالمها الذي تعيشه، وفى المقطع التالي نلاحظ توظيف الغرائبية والفانتازيا أي عبور الواقع وربطه بالخيال في صورة تحمل شفافية الكلمات ورقتها
قال:( تعالى أنا أبدع نجوم المدينة، وكان له متجر كبير ورائع فى زاويته قالب حلوى لامرأة قال”انصهرى ، فانصهرت ، قال انسكبى فانسكبت قال”وكونى “فكنت)
فى هذا المقطع من القصة تصور الكاتبة المجتمع شبيه بمتجر كبير والنساء فيه مجرد دمى جميلة، وهذا الصوت الذى انطلق يأمرها بفعل الامر “كونى ” فكانت ، وأنصهرى فانصهرت وأذعنت له هو صوت كل الرجال المحيطين بالشخصية بطلة القصة.
قال :اقتربى أحب لحمك الأسمر ،صرخت دعنى هناك أشياء كثيرة هى انا ص21
هناك أشياء كثيرة هى أنا ، هذا ما تصرخ به بطلة قصة غادة السمان فى وجه الكل وهذه هى المعاناة التي تحملها البطلة ، التى تواصل بحثها عن رجل عيناه نجمتان تمطران حنانا ولكن إلى متى ؟
بعد كل صراعها مع الاخرين ومع نفسها تفاجئنا بطلة القصة، بإلقاء سلاحها، ورفعها لراية الاستسلام مناجية نفسها: لماذا أحقد عليك وانا بعض لعنة اللحم والدم، لماذا أحقد على الظلال الحمر في عيون الأخرين )ص 22
وبعد كل تلك الرحلة المضنية الطويلة والصراع بين ما تتمنى والواقع المسيطر حولها، تذعن الفتاة في النهاية وتعلن انها ستضرب له موعدا للقاء ولكن يبدو ان قرارها جاء متأخراً، فلا صوت يرد على الرنين الذى يملأ سمعها ، وتنتهى القصة عند هذه الصورة التي ترتسم في مخيلة القارئ :”اضغط بأصبعي على زر الهاتف غيثا لا صوت ولاصدى ” ص23
السرد الذاتي على لسان البطلة يشكل المحور العام للقصة ، التي تنسج حول شخصية واحدة هي الفتاة بطلة القصة التي لا اسم لها ولا عنوان ،وكل الشخصيات الأخرى هي من صنع خيال بطلة القصة نفسها التي تحاور ذاتها وتصارعها أيضاً ، وغادة السمان في هذه القصة تنزع الدناسة والخطيئة عن جسد المرأة المستقاة من التصورات العميقة الكامنة في الوجدان الشعبي والديني بارتباط جسد المرأة بالشهوانية والخطيئة ، وتضع الرجل في حلقة المواجهة ، حين تنزع عنه القناع ، وتعرى حقيقته الباحثة دوما عن جسد المرأة ، دون اهتمام بعقلها وفكرها ، لذلك تصرخ بطلة القصة في وجه الرجل ” هناك أشياء كثيرة هي أنا” ، ولكنها حين تعلن ذلك يختفى الرجل تماما ، وتختفى اتصالاته ويختفى صوته، لأنه لا يبحث إلا عن جسدها وإرواء عطش شهوته ، فالمرأة بالنسبة له ليست إلا وعاء للشهوة فقط و لكن بطلة القصة تريد من الرجل أن ينزع غلالة الجسد ويدخل إلى العمق …عمق فكرها ..عمق روحها ،عمق عواطفها ولايلهث خلف شهوة الجسد فقط .
قصة لعنة اللحم الأسمر هي مانفيستو الكاتبة غادة السمان لأنها تعتبر من بواكير أعمالها القصصية التي عبرت من خلالها عن فكرها ورؤيتها لجسدها وعقلها وفكرها ، وكذلك علاقتها بالرجل ، لذلك عنونت قصتها بعنوان صارخ جارئ فالجسد الأسمر هو موطن للشهوة فقط ، لذلك هي تلعنه لأنها تريد التحرر من لعنته ، وتحلق خارج إطار جسدها الأسمر الذى على أساسه يتم رسم صورة ذهنية لها عند الأخرين فبطلة القصة لا تتهرب من جسدها ولكنها لا تريد ،أن تتشكل في ذهن وفكر الرجل بناء على شكل أو لون جسدها ، هي تبحث عن التحرر من كل هذه الصور النمطية المعلبة للمرأة والمتوارثة عبر الموروثات الدينية والاجتماعية إلى رحاب سماوات كبيرة ، لأنها من تريد الرجل أن يشاركها في التحليق لا أن يحصرها في زاوية الشهوة الضيقة .
قصة ” لعنة اللحم الأسمر حملت في مضمونها مشروع ” الفكر السمانى” _إذا لنا التعبير_ الذى أخلصت له غادة السمان، في مشروعها الأدبي الكبير عبر مجموعاتها القصصية والروائية طيلة ستين عام، من الكتابة في الشعر والقصة والرواية والمقالة وأدب الرحلات وأدب الرسائل .
فالبناء الفكري في أغلب قصص، غادة السمان هو بناء يفتح أبواب الأسئلة التي تتشكل عبر قصصها التي تتشكل في الغالب، من شخصيات نسائية تمتد إليها قلم الكاتبة بكل وعيها الفكري والإنساني، وتقدمها في لوحات قصصية بارعة محللة نفسياتهم التي تقفز بين الإحباطات والخيبات يساعدها، في ذلك مخزون لغوى هائل وقدرة فائقة على تطويع قوالبها، بسهولة في صورة حميمية مثيرة للانبهار
وطرح غادة السمان لموضوع الجسد في قصصها ورواياتها ليس مبتذلا أو أباحيا بل هو موضوع فكرى في الأساس ، ودائما يقع ضمن سياق قصصها ورواياتها وليس محشوا أو محشورا كما نقرأ في بعض القصص و الروايات الجديدة للأجيال التي كتبت ونشرت بعدها ، فالهم الإنساني والبحث عن الحرية والعلاقة المشتركة المتوازنة بين الرجل والمرأة هو الأساس في مشروعها الأدبي وكما تقول في إحدى كتاباتها :لن تنال المرأة قضمه من رغيف الحرية إذا لم يتحرر الرجل العربي أيضاً إنه مظلوم في حقل حرياته، والمرأة مظلومة المظلومين والرجل ليس عدوها بل حليفها الممكن من أجل نيل حقوقها في أوطان عربية بعضها لا يحترم حقوق الطرفين.
ومن منطلق هذا الوعى والفكر ،كتبت غادة السمان قصصها ورواياتها التي حاولت من خلالها البحث عن علاقة سوية بين الجنسين بعيدا عن الظلم والقهر والشعور بالامتهان في العلاقة بينهما .
- كاتبة ليبية