في ذكرى محمود درويش: عندما تحرّر فضاء الذاتية من شرك الأيديولوجيا

  • عبد اللطيف الوراري

في وَقْتٍ حاسمٍ من تطور تجربته الشعرية، شعر محمود درويش بثقل الزمن التاريخي الذي كان الاحتلال يفرضه على الأرض بآلته، وعلى اللغة بقاموسه وإيقاعه وروايته؛ ولهذا، تَوجه إلى مواجهته عموديا عبر بلبلة نسقه الكرونولوجي وتقويض إحداثياته المتراصة، عبر خلق أزمنة مضادة تؤزم ـ داخليا- مسار العلاقات اللغوية والرؤية التي تعبر عنه. وقد صاحب خروج الشاعر، أو برره بالأحرى، ما كان يصوغه من عالم بديل شعريا، يؤالف بين المأساة الفلسطينية بأوضاعها الإنسانية المعذبة، والحقيقة الشعرية بحساسيتها الكثيفة في الأسلبة واجتراح الموضوع الغنائي.
ثمة حكايات وسرود تكشف عنها هذه الأوضاع، وهي لأبطال هذه المأساة المعروفين والمغمورين، والحقيقيين والذين ارتقوا إلى مصاف الرمز والأسطورة (أحمد الزعتر، عز الدين قلق، ماجد أبو شرار…) حيث يضرب أنا الشاعر عن الرثاء العادي، ويرتفع بالمعطى الجنائزي السائل إلى مادة خصبة لمديح الكينونة المهدورة ظُلْما، التي مضت دون أن تكمل حلمها، ومن زخمها يَتخذ من معاني الخسارة والفقدان حوافز داخلية لاستبطان مشاعر الذات الدفينة واستعادة ذكريات طفولتها.
في هذا السياق، نتتبع خيطا رفيعا يعبث بالحدث التاريخي، كما يعبث طفل ملول بقماش لعبته، ويستعيض عن هذا الحديث بتاريخ الأنا من أسفل كما ينكتب عبر استيهاماته وهواجسه ومجازاته، مكبا على جراحه الشخصية ومستضيئا بـ«غيرية» الأصدقاء؛ فالشاعر يجري حوارا مع غيره، ومع كل شيء، ومع نفسه في الطريق إلى جماع ذلك. وقد عبّر عن كُل ذلك بـ«لغز اختلاط الأزمنة» في إحدى قصائده.

وعي جديد

ابتداء من ديوانه «هي أغنية، هي أغنية» (1986) أخذت قصيدة محمود درويش تنحو نحو القصر، ويتعالق عبرها الشعر بالسرد، ومعها أخذت تخف اللهجة الملحمية التي ميزت القصائد الطويلة. وحاولت هذه الأخيرة أن تكون مُعادِلا للتاريخ وتجاري أصواته وجراحاته ومآسيه، وأن تنقل الواقع إلى مستوى الأسطورة، في ما كانت الشخصيات التي تحتشد بها، إما أبطالا أو ضحايا تسعى إلى الحرية. في آخر حواراته، يرشدنا محمود درويش إلى هذه المسألة؛ حين اكتشف أن مشروعه يتجه نحو ما يشبه الملحمة، التي لا وجود لها، وكان عليه أن يجد معادلا له في اللغة والبناء الشعري، ينهض وحده بمهمة التفاوض مع عناصر وجوده من الذاكرة والنسيان، ومن الواقعي والخيالي، في آن.
لم تعد القصائد الجديدة تبني رؤيتها إجمالا على وعي التاريخ، أو تقيس قامتها بقامته؛ فزمنها محدود وبالغ الكثافة حينا، ويومي عادي حينا آخر. وداخلها، نكتشف أناها العادي والبسيط والشخصي، الذي يتلمس أشياءه وتفاصيله الصغيرة، بعد أن ملّ لعب دور الضحية والبطل أو المراوغة بينهما، وأدرك أنه ليس بوسعه أن يظل تحت صفات النبي والـمُخلص والأسطورة إلى ما لا نهاية. فالتاريخ نفسه صار يعمل بطريقة مختلفة، والشاعر الآن هو الفرد الذي يتمتع بعاديته وعزلته، بشكل يتيح له النظر من جديد في فرديته وفي ذاته وفي العالم الذي حوله، ومن ثَمة يكون التعبير عن كُل ذلك بجماليات جديدة، لكن من دون أن يحدث هذا التحول قطيعة كلية بين الفردي والجمعي، وإنما يعني ـ بالأحرى- القطع مع تمثيل الجماعة شعريا بالطريقة التقليدية.

لقد أخذ الشاعر ينقل التجربة الفلسطينية إلى صعيد أدنى وهو يبرزها بوصفها تجربة شخصية خالصة، إلى الحد الذي سمح له باستنباط ما خفي من التجربة، بتناقضاتها وتمزقاتها وهمومها الشخصية، التي تضارع تجربة الإنسان الذي سُلب منه كل شيء. إنه يستبق بحدسه مأزق التنميط الذي يمكن أن يسقط فيه شعره، إذا استمر على ترديد لهجته الشعرية الاعتيادية، بل صارت لهجته في رفضه أداء دَوْرٍ ليس من عمله، بوصفه شاعرا قبل أي رهان آخر.
ابتداء من الثمانينيات، بدأ يعلن محمود درويش تحرره من إرث القضية التي غدت تبعاتها السياسية والأيديولوجية ضاغطة عليه وعلى شعره، وبدا أنه مع بعده عن هذا الإرث يزداد اقترابا من سيرته وأحوال أناه الشخصي، حتى إن كان من الصعب الانفكاك منه ومقاطعته جذريا. ومن الموحي، هنا، أن يصدر الشاعر «هي أغنية، هي أغنية» بشطر المتنبي الشهير: «على قلقٍ كأن الريح تحتي»؛ فقد يكون ثمة ما يشي بـ«أزمة ذات» عنده، ومعها نشأ قلقٌ ووعيٌ مضاد للتاريخ الذي فتح عينيه عليه، ولاحقته هزائمه المتتالية. فأخذ ينقل مشروع قصيدته الجديدة من دور المقاومة والنضال إلى سياق بحث الفلسطيني عن إنسانيته عامة، ثُم البحث تاليا في سيرته الشخصية على نحو خاص.

الغنائية الجديدة

من هنا، أخذت تتشكل الغنائية الجديدة التي تخففت من «الأنا الجمعي» بوعيه التاريخي ودوره الرسالي الجارف، من مجموع نصوص وشذرات شخصية وسيرذاتية، متقشفة وجانحة إلى القصر والتسريد وأقل حماسة و«صراخا» وكأن «أنا» هذه الغنائية لا يبوح وحسب، بل يبحث عن ذاته ويمزج هذا البحث بأساليب من التأمل، والتذرع بالحلم، وسؤال الكينونة، وحكمة الخسارة، والتشظي والسخرية بقدر العبث مع معطيات الواقع الذي ران عليها أو نُفي إليه، مثلما يفسح المجال للتعبير عن حريته بجلاء، والمجال شيئا فشيئا لآخر يناديه ويحاوره عبر رهان الغيرية، بشكل يعكس مأزق الكينونة عنده وخوفه من المجهول.
تترددُ متواليات هذا البحث في قصائد كثيرة، مثل: «عزف منفرد» و«هذا خريفي كله» و«أربعة عناوين شخصية» و«آن للشاعر أن يقتل نفسه» و«أنا من هناك» و«لديني… لديني لأعرف» و«أنا يوسف يا أبي» و«رباعيات» و«شتاء ريتا». داخل هذه الغنائية، لم يعد ممكنا النظر إلى الذات بمصطلحات نابعة من داخل الشاعر وهويته الجماعية، وعلاقته بالقضية الفلسطينية، وذلك لأنها لم تعد تتأسس إلا في علاقتها بالخارج، الذي يُغيرها (من الغيرية) أي في عطش كينونتها للغيرية. وبالتالي، لن يكون المهم هو الطريقة التي يُعبر بها هذا الـ»أنا «أكثر من الكيفية التي يبتعد بها عن قيده التعاقدي الضاغط، ويزيحه من ثقل المركز. فالذات لا تعتبر كحجةٍ تعبر عن نفسها بنفسها بكثير من الامتلاك، وإنما هي بالأحرى نتيجة الحوار الذي تحافظ عليه مع غيريتها الخاصة.
إن الأمر غدا بالفعل يتعلق بنمط تلفظي خاص بهذه الغنائية، حيث تتم مَوْضعة الشخصية الغنائية من جديد، وحيث هذا الانتقال إلى طور آخر، جماليات الكتابة التي تبدلت داخلها وضعية الدال الشعري وممكنات عمله، وتخص اللغة والبناء والإيقاع والمتخيل، بوصفها عناصر متحولة في القصيدة لها أثرها وقيمتها في تجربة الغنائية الجديدة:
الاشتغال على البناء بشكل أكثر وعيا وملموسية، وقد انتقل إلى هاجسٍ معرفي من عمارة القصيدة إلى عمارة الديوان/ الكتاب.
ولوج المعنى الشعري في عملية خلْقٍ جديدة ومدهشة من الاحتمالات تجعل المعنى لانهائيا، وهو يتوتر بين الغنائية والسرد بما كل ما ينغلق من خواص فنية تستوعب بنيته من حوار وتعليقات ووصف وسخرية مُفارِقة.

صعود الأنا وقيمه التبادلية من أنا الجماعة إلى أنا الفرد، الذي يعيد التأْريخ لأشجار نسبها الرمزي، الشخصي والجمعي عبر سيرته الذاتية. وبالنتيجة، تعيد النظر إلى الآخر في صوره وهجراته بين الواقعي والأسطوري.
تقديم مقترحٍ جمالي ثالث في سياق الشعر العربي المعاصر يُصالح بين خيار الوزن وخيار النثر، بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، اللذين أنتجا سائدَيْهما؛ بموازاة مع تدشين وعيٍ اِنْتقالي ومتطور، يعبر اللغة ويتمرد على القيمة الاستعمالية لها، من خلال الانتقال من مفردات المنافي والاغتراب والحنين، إلى أخرى تُمكن الذات، داخل شعورها بحكمة الخسارة، من بحث أشكال هُويتها الجديدة، وإنجاز العادي والمألوف بمنأى عن وهم البطولة.
تطور قيم الغنائية من الموضوع المركب إلى الموضوع البسيط، الذي يركز على ما هو إنساني وعادي وهامشي، في تَجْربة قلقة تُريد امتلاك التسمية من جديد خارج الصور الجاهزة والقوالب المكرورة، على الأقل بالنسبة إليه وإلى مجموع «شعر الأرض المحتلة».
في سياق هذا الإبدال الجمالي، الذي أخذت تتوجه إليه تجربة الغنائية، كان محمود درويش واعيا به ومُصرا عليه؛ ففي المقالات التي كان ينشرها في هذه الحقبة، بين عقدي الثمانينيات والتسعينيات، بموازاة مع ترتيبات السلام والعودة وقتئذٍ، نكتشف تمظهرات الإبدال الجديد وأسئلته، سواء في رؤيته للذات وتحريرها من مسكوكية الوعي المتوتر بين صورتي الضحية والبطل، أو للأنا في علاقته بالآخر الذي هو»أنا« بدروه، أو لمفردات العالم في محسوسيته وخارج عماء الثنائيات، أو لأدوات القصيدة وعناصرها التبادلية، ضمن ما سماه »البحث عن الطبيعي في… اللاطبيعي«، متسائلا: «إِنْ كان الشفاء من الصورة الجاهزة عن أنفسنا، ومن جرح ذاتٍ نأتْ عن ذاتها… ممكنا؟».
امتحان جراح الهوية قاد الكتابة ذاتها إلى تدوين سيرتها عبر رهان الغيرية، على نحو يعلن صراحة عن تأفف الشاعر من استعمال التأويل الأيديولوجي في قراءة شعره، والاستمرار في تنميطه داخل مسميات ذابت في الماضي كأن ليس لها ما تقوله، ثُم لأنها تُصادر حرية الذات وتغتال عمل معناها في المجهول، مثلا، في قصيدة «اغتيال« من مجموعته الشعرية ما قبل الأخيرة «أثر الفراشة« (2008) يكتب الشاعر: «يغتالني النقاد أحيانا/ يريدون القصيدة ذاتها/ والاستعارة ذاتها…/ فإذا مشيتُ على طريق جانبي شاردا/ قالوا: لقد خان الطريقَ/ وإن عثرتُ على بلاغة عُشْبةٍ/ قالوا: تخلى عن عناد السنديان/ وإن رأيت الورد أصفر في الربيع/ تساءلوا: أين الدم الوطني في أوراقه؟».

شعرية التعاقد

ينثر محمود درويش عبر نصوصه الشعرية شذراتٍ من سيرته الذاتية، ويمكن لنا أن نكتشف مثل هذه النصوص التي تُوجهها إحالات مرجعية لها صلة بطفولة الشاعر، ومسقط رأسه، وعلاقاته بأفراد الأسرة، ونزوحه بعد النكبة. نُمثل، هنا، بقصائد دالة تُمَفْصل شريط هذه السيرة الـمُشظاة داخل التوتر، بين وعي الحاضر واستدعاءات الماضي المخيبة، بين المنفى والوطن، مثل: «أحن إلى خبز أمي» و«جندي يحلم بالزنابق البيضاء» و«بين ريتا وعيوني بندقية» و«قصيدة بيروت» وغيرها. وعلى نحو يرد فيه الاعتبار إلى تاريخية شعره والتصاقه الصوفي به، يعترف الشاعر بقوله إن «ما يعني القارئ في سيرتي مكتوب في القصائد» غير أنه ترك لنا مع ذلك مراجع سيرذاتية تفيدنا في الاقتراب من سيرية هذه القصائد وتأويلها ضمن خطاب الشعر، مثل: «يوميات الحزن العادي» (1973) و«ذاكرة النسيان» (1987) و«في حضرة الغياب» (2006).
يمكن القول إن كل قصيدة غنائية هي، على نحو ما، قصيدة سيرذاتية بما ينطوي عليه التوصيف من مغامرة التحديد، يتحمل التعيين الأجناسي للشعر جزءا كبيرا منها، إلا أن القصيدة كانت تتسع لاستيعاب شرط السيرة، كلما هاجرت «صفاءها» المفترض وانفتحت أكثر على السرد وضايفت عناصره الموازية من استرجاع وتناص وحوار ومونولوغ وتعليق وغيرها، حتى كتب ديوان «لماذا تركت الحصان وحيدا؟» (1995) الذي يمثل ذروة العمل الشعري السيرذاتي؛ إذ نضج الشرط وتضامتْ فيه هذه العناصر السردية مع بعضها بعضا، بشكلٍ أتاح لأنا الشاعر أن يكتب سيرته بوعي وقصدية بارزين. فالشاعر لم يكن يفصل بين الغنائية في شعره وكتابة ذاته، إلا أن طموحه كان يتجاوز ذلك إلى عمل شعري يكرسه بأكمله لسيرة الذات والمكان، وقد عبّر عنه في إحدى رسائله إلى سميح القاسم، المؤرخة في (22/9/1986) وهو يقول: »وسأبدأ في هذا الخريف بكتابة الكتاب الذي يلاحقني هاجسه منذ أربع سنوات، كتاب البيوت، التي عشت فيها في الوطن والمنفى، من البيت الأول إلى الآن، وهو شيء من سيرة البيوت الذاتية».
غير أن الواقعة التي عجلت بصدور السيرة في هذا التاريخ، تتعلق بتوقيع اتفاق أوسلو (13/9/1993) الذي أثار حفيظة الشاعر مما سمعه فيه من لغة ملتبسة ساوت بين الضحية والجلاد، وقال يخاطب نفسه: «لكن اللغة التي تسمعها تعيد قلبك إلى صوابه: لا، ليست هذه لغتي. فأين بلاغة الضحية التي تسترجع ذاكرة عذابها الطويل، أمام شقاء اللحظة التي ينظر فيها العدو في عين العدو ويشد على يده بإلحاح؟ أين أصوات القتلى السابقين والجدد الذين يطالبون باعتذار لا من القاتل فحسب، بل من التاريخ؟ أين حيرة المعنى في لقاء الضد بالضد؟ وأين الصرخة الملازمة لعملية جراحية يُبْتَرُ فيها الماضي عن الحاضر في مغامرة السير إلى غد ملتبس… وأين لغتي؟ ألهذا كان ردك الشخصي هو الدفاع الشعري عن الحبكة والذاكرة؟ فكتبت أصداء سيرة شخصية – جماعية، وتساءلت: لماذا تركت الحصان وحيدا؟». وفي مناسبة تالية، زار الشاعر حيفا لتأبين إميل حبيبي الذي عاجله الموت قبل أن يلتقيه، فوجدها سانحة لرؤية أمه وزيارة قبر أبيه قريبا من المكان الذي قامت عليه قريته البروة، قبل أن تسوى بالأرض، وكتب: «لا أثر «للبروة» على يمين الشارع المقبل من الناصرة، غير صورتها في خيالك المطعون بقرون الثيران التي تمضغ وتجتر علف الذكريات. قلتُ: أَمر بها عند الغروب لأدخر لخيالي غموضا يُعينُ الغريبَ فيك على ابتكار الصور من ثنايا الحجر» (في حضرة الغياب).
دشن ديوان «لماذا تركت الحصان وحيدا؟» طورا جديدا في شعر محمود درويش داخل هذه الغنائية الجديدة، بل في تاريخ الشعر العربي، حين صار من الجائز أن نتحدث ـ ابتداء من هذه اللحظة – عن حقبتين كبيرتين من علاقة الشعر العربي بالسيرة الذاتية؛ حقبة الما قبل، وحقبة الما بعد التي أرست الوعي بمشروع الشعر السيرذاتي، التي دشنها الديوان، وأطلق من خلالها دواوين وقصائد كثيرة أعادت ـ لاحقا- ترتيب العلاقة المتوترة بين المرجعي والتخييلي لكتابة الذات الشعرية على صُعد اللغة والإيقاع والرؤيا ومرجعيات البناء النصي.

كاتب مغربي

  • عن القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *