أنس الغوري

المسافةُ ما بيننا برزخ

( ثقافات )

* أنس الغوري

مَر وقتٌ ليس بالقصير وأنا أمسك قلمي متأملًا صفحاتي البيضاء. أود أن أُفرغ شيئًا مما في داخلي؛ وإلا انفجر قلبي!

آه، ما أشقّ البدايات، وما أضيق لغتي إزاء الشعور الذي يكبُر ويتنامى وخصوصاً اليوم!

من أين أبدأ وكيف؟ كيف لي أن أكتب وقلبي مقيد؟ أخشى من استفاضتي بمكنون القلب الصغير فأخسر من منحتني حياة!

سأكتب، هكذا، ببساطة الجَدّات، ودون أيّ ديباجةٍ لغوية، سأبوح بشيء من المكنون، سأكتب باقتضاب قدر الإمكان بانصياع للعقل لا للقلب عن الزيارة وأثرها.

زارتني اليوم؛ فزارني الفرح الذي آمنت به واستوطنني من خلالها، شعرت بالمكتبة وكأنها باتت ربوة خضراء، نعيمًا مقيمًا، خانني توازني الهَش ونطقت عيناي، والطفل الذي أأسره بقلبي كي لا يفضحني ظلّ  يركل قلبي وينازع القيد، يريد الفرار واللجوء إليها.

يود لو يخبرها أنه يبحث عن وطنٍ لا تتجاوز حدود مساحته منكبين، يريد أن يعترف أنها قِبلة روحه ومحراب قلبه، أيضاً يستكمل ويُفصح لها أنه ابن قلبك أنت، لكنني صرعته آخراً، وأحكمت الإقفال عليه وإخراسه.

كيف لي أن أصفها بكلها؟ هذا تاللهِ فوق مقدرتي!، حرفي فقير جداً وأبجديتنا إذا ما تجرأت لوصفها فهي أبجدية عاقر.

إنني في حيرةٍ تامة!، أقفز هنا وهناك لأبحث عن حرفٍ يسعفني في هذا الفضاء الشاسع، ينصف الشعور الذي غمرني حتى بلّلَ روحي، لكن ما من جدوى.

يا إله السماوات أدركني وأسعفني!، ولا أُسعف إلا بتنهيدة أقول من بابها كل شيء.

صورتها لازالت مُلتصقة تحت أجفاني وفي عيناي، ولا أرى سواها. أبتسامتها الرقيقة تذيب القلب، عطرها ناعم فواح ورقيق، نعومتها، أناقتها الأخآذة، روحها زادتها ألق وجمال فوق الجمال الذي يستوعبه العقل البشري. يا ترى هل هيَّ مثلنا من ذات الطين؟ إنني أشك بهذا ولا أبالغ!

ثمة سحر يكتنفها؛ أشبه بتعويذة.

في حضورها يُشل لسانني، تخونني عيناي، اضطرب أكثر؛ لكن أعماقي تفور وتغلي. سأقفز وأتجاوز بكتابتي ليقيني بعجزي، وأقف لأتحدث عن ما حلّ بي بعد خروجها، وقبله أضيف استدراك صغير.. قبل خروجها واتتني الجرأة لأطلب ( شالها) وكم أنا مدين لهذه الجرأة!. ما أن خرجت حتى رنوت إليها كزهرة عباد الشمس، أتابع سيرها؛ إنها شمس وكيف لا ولأسمها منها كل النصيب.

عدت للمكتبة، أمسكت شالها برعاش ووجل بعدما لفّته على رقبتي النحيلة، قربته من وجهي أشمه. عطرها، رائحتها فيه يتوغل إلى كل ما فيّ. أشمه مرّات عدّة، أستنشقه، أقبله، أتنفسه. شعور غريب فريد مسّني وأنا على هذا الحال، أبعد من الثمالة والنشوة، عصي على الوصف ياربي!

أغلقت الباب الداخلي للمكتبة وهرعت إلى الداخل، فردت على سريري شالها، طويته إلى النصف تقريبًا، لففته حيث تحول اشبه بمجسم خلقته يداي الراعشة وعقلي المشوه، وبعدما خانتني قدماي عن الوقوف أكثر لتأمل المشهد استلقيت جانبه، احتضنته بعاطفة جيّاشة، عاودت استنشاقه، تقبيله، أمرره على ملامحي اليباب فتعود إلى الحياة وتزهر ويحلُّ ربيعها، أعرج به لسماوات الدهشة الأولى.

بعد هذه الرحلة أصحو، لكنني لازلت ثَملًا برائحتها، كُلُّ جسمي في خَدَر تامّ. ما كل هذا؟

هل هذه ولادة جديدة ( حياة ) أبرر لنفسي بجواب يقفز من أقصى قاع في ذاكرتي، قول للحكيم الهندي “نيسار مهراج”، الذي سأقتطع جزئية منه لتوافق ما أنا به ” الحب هو الحياة “.

أخرج وأفتح باب المكتبة، أُسرع للكرسي الذي جلست عليه، أتلمس أثارها كالمجنون، وخشية أن يسبقني أحد الزوار إليه، أعود بعدها لكرسيي، أمامي فنجان قهوتها الذي أمقته لأنه بشهد ثغرها يَسعَد وأنا بحسرتي أتلوى. لازال في قعره بقايا من قهوتها، أُمرر أصابعي عليه، أقتفي أثر أناملها، فأنظر لأصابعي بتمعن وأشعر أنها أزهرت، أحمله الآن نحو نصب ناظريّ، ثمة آثار ثغرها عليه، أُمعن الموضع الذي لامس شفاهها، أرتشف من ذات الموضع الذي ارتشفت منه حيث لون آثار أحمر شفاهها خلّف عدة ألوان ( أحمر، زهري، فوشي )، أرتشف وألعق حتى لم يبقَ له أثر، وكأنني أنتقم بغيرتي الطفولية من القهوة والفنجان. تطرق بوابة خيالي عدة تخيلات، ومن ضمنها أتمنى لو أنني فنجانها؛ من هذا الباب أعيش المشهد كاملاً. قد كانت أخبرتني هذه الشمس بصيغة تحذير بعدما أبلغتها أنّي سأرتشف بقايا قهوتها – أن لا أفعل؛ كي لا أتعلق بها حسب الخرافة المحكيّة. لا تعلم حلوتي، شمسي، أنني غارق حدّ….!

هذه المرّة أقسم وبصدقٍ خالص أنها لم تكن قهوة بطعمها الأصيل، طعم أنّى له من وصفٍ منصف. للسكارى ما يثملون به، أما أنا فأثمل بآثارها.

أوه يا إلهي ما كل هذا؟!

هل هو حب؟ عذراً سقراط ليس جنّيًّا عظيمًا؛ بل لايوصف ولا يُختزل بكلمات. كيف لشعور بشساعة مداه الرحب أن يُأَطر بحروف؟

بيد أنّ المسافة مابيننا برزخ!

ما هذا الذي بحت به؟

حب؟

ازدحامُ جنون؟

وقاحة مِن قِبلي؟

* شاعر سوري يعيش في الأردن

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

تعليق واحد

  1. خاطرة رائعة وتصل من القلب إلى القلب، ربما الحب هو ما أمساك مجنوناً وأظهر مافي جعبتك من التمادي فقط لأجل من تحب، أبدعت…

    كل الاحترام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *