* رضا عطية
ينتمي الكاتب المصري بهاء عبدالمجيد إلى جيل الكتّاب الذي بزغ في تسعينيات القرن الماضي، ليراكم تجارب إبداعية ومحاولات للتعبير عن الواقع المصري من ناحية همومه الحاضرة وتحولاته الاجتماعية، وكذلك السعي للتجريب الجمالي لدى الكثيرين، من أبناء هذه الجيل من ناحية أخرى. نوَّع عبدالمجيد في كتابته بين الرواية والقصة، إلا أنَّ البؤر المكانية الغالبة في سرد عبدالمجيد تتمحور في عدد من محدود من أحياء القاهرة كحي شبرا، حي الطبقة البورجوازية العتيق، والمعادي، حي الطبقة الراقية، أو في المكان الآخر الغربي الأوروبي أو الأمريكي، استثماراً لتجربة بعثته للحصول على الدكتوراه من إسكوتلندا.
في روايته الأخيرة (القطيفة الحمراء) يُقدِّم الكاتب الراحل بهاء عبدالمجيد، ما يشبه السيرة، سواء سيرة بطل حكايته الروائية أو سيرة الجماعة ممثلة في العائلة، التي هي نموذج للعائلة المصرية التي تنتمي إلى طبقة البورجوازية الصغيرة التي تسكن في واحد من أكبر أحياء القاهرة ومصر، شبرا، هذا الحي الذي يمثِّل النسيج الاجتماعي المتنوع الخيوط للهوية المصرية.
وإذا كانت حياة العائلة في (حي شبرا) بإحدى الحواري بشارع (السد) هي البؤرة المركزية المكانية للحكاية المسرودة عبر الرواية، فإنَّ ثمة تفريعات كثيرة في البنية السردية تتمثل في وفرة من الحكايات التي يرويها السارد، بطل الحكاية الرئيسي عن أفراد عائلته والجيران والأصدقاء والزملاء، وتتراوح تاريخيّاً من التركيز على عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وصولاً إلى التحولات السياسية الكبرى في المجتمع المصري، بأثر ما حدث في الخامس والعشرين من يناير (2011م). غير أنَّ ثمة بعض الارتدادات البعيدة التي تستعيد تاريخ العائلة في صعيد مصر، وتحديداً منذ حادثة (دنشواي) وإعدام عدد من المصريين في مطلع القرن العشرين.
يتسم سرد الحكايات لدى بهاء عبدالمجيد بتشعُّب الحكايات التي تكوِّن كلُّ منها وحدة سردية، تشغل فصلاً صغيراً ومكثَّفاً من الرواية له استقلاليته وبنيته شبه المكتملة، وفي الوقت نفسه هو حلقة في سلسلة يمرُّ السارد على حلقاتها في عقد سردي، يمسك الراوي بالخيط الجامع لحلقاته والناظم لحبّاته.
يجتر بطل رواية (القطيفة الحمراء)، الصوت السارد عدداً وفيراً من المشاهد والمواقف، التي تكوِّن حكايات يجمعها وعي السارد، مشكِّلاً من تتابعها نسقه الروائي، ومنها ذكريات الطفل مع أبيه:
من عادة أبي الجلوس خارج المَقهى المجاور للمصنع، ينظر إلى العمال وهو يدخلون من البوابة. رائحة الشاي بالنعناع تعطيه إحساساً بالانبساط والفرح، وينتظر حتى اللحظة الأخيرة لإغلاق البوابة فينهض مسرعاً يستمع إلى أغنية (صباح): «أنا هنا يا ابن الحلال». صوتها يجعله منتشيّاً، ويدندن معها اللحن نفسه بصوت جميل.
قطع المذيع صوت أغنية (صباح) معلناً بياناً مهمّاً. «لقد اعتدت القوات الإسرائيلية على مدرسة بحر البقر وبعض المواقع الاستراتيجية في (أبو سلطان)». شعر أبي بالانقباض، وقال «لن ننتهي من هذا العدوان الغاشم والعدو رابض على الحدود وعلى أرضنا».
يغلب على سرد بهاء عبدالمجيد الأسلوب الغنائي ونوع الحكاية التي تستدعي مواقف ومقولات لشخصية ما، واستعادة مقولاتها دونما جدل درامي أو مواجهة بين شخصية وأخرى. ويقوم سرد عبدالمجيد على التمثيل الجمالي للهوية الاجتماعية والثقافية والتاريخية للمجتمع المصري، فيبدو هذا (الأب) نموذجاً لشخصية الأب المصري، بخاصة في عهد جمال عبدالناصر، بانتمائه إلى الطبقة المكافحة التي تؤمِن بالمبادئ الوطنية العليا.
ويبدو البيان الإذاعي العاجل، الذي حمل أنباء الاعتداء الإسرائيلي على مدرسة مصرية للأطفال في بلدة (بحر البقر) بالشرقية، هذا البيان الذي قطع استمتاع الأب بأغنية صباح تمثيلاً لآثار الحرب المكدِّرة للصفو الاجتماعي العام والمنغِّصة على الأفراد حياتهم الخاصة، حيث يربط بهاء عبدالمجيد، في سرده الشأن الخاص بالشأن العام.
للمرأة حضور كبير ومتنوع الصور والأشكال في سرد بهاء عبدالمجيد، كالأمهات اللائي يمثّلن الجيل السابق بأفق وعيه للعالم، كما في رواية (القطيفة الحمراء)، وحديث الأم إلى ابنها عن أسباب وفاة أحد أبنائها:
قالت أمي في لحظات تبرير خطيئة إهمالها له: «الحسد هو الذي قتل (حسن)». ودائماً تُردِّد: لو عاش الآن لكان سيفوقكم جمالاً وذكاءً. ثم أصبحت من عاداتها إذا مرضنا بعد أن نذهب للطبيب لا تطمئن حتى تقطع ورقة من كراستي، وتحدد فتاة أو ما تسميها (عروسة)، ثم تشبه عليها من حجمها مما تعرفهم من النساء، والتي رُبما حسدت أخي وتتعرف عليها، ثم بسن الإبرة تخرم جسدها كله، وتُردد: «من عين فلانة وفلانة… وكل اللي شافوا ولادي وما صلوش على النبي». ثم تحرق العروسة وتلقيها في صحن به ماء؛ لتحرق العين.
يبرز الخطاب الروائي لبهاء عبدالمجيد، ملامح الوعي الجمعي الشعبي، لا سيما عند السيدات من جيل الأمهات والجدات، المعتمد على الخرافة والغيبيات أساساً لتفسير العالم وحل أزمات الوجود. وتقوم بعض ممارسات هذه الأمهات على ما يشبه طقوس السحر، عبر وسائل مادية يعتقدن أنَّ لها مفعولاً باتراً وأثراً ساحراً في مقاومة أخطار القوى الغيبية وحماية الأبناء والذات منها، في إعلاء للخرافة على العلم في بعض الأحيان.
وتحفل روايات بهاء عبدالمجيد بعدد وافر من الشخصيات، التي تحمل كل شخصية منها حكاية تشغل حيزاً من فضاء السرد، كما يغلب على الشخصيات النسائية في روايات عبدالمجيد، حالة من الشتات والاغتراب الوجودي، فتأتي معظم بطلات حكاياته كفتيات معذَّبات أو تلقين صدمات كبرى، كما في شخصية (سوسن) إحدى شخصيات روايته سانت تيرزا:
«أشعر بالغربة تقتلني»
هكذا اخترقت المرارة روح سوسن، وباتت الشكوى قاموسها الأثير. سليم رهن الحبس وقد طال غيابه. تزوره من حين إلى آخر في سجن طرّة السياسي، تقطع المسافة في ساعة ونصف، تخرج من منزلها في التاسعة، حيث تنتظر الميكروباص في ميدان رمسيس. تتأمل التمثال الواقف منتصباً يغطيه التراب وتعلوه الحسرة لما آل إليه حاله في هذا الميدان.
يقدِّم بهاء عبدالمجيد في حكاياته السردية نماذج للمرأة التي تكابد اغتراباً نفسيّاً وتعاني شعوراً بالفقد وعدم تحقق أحلامها، كما تكثر في رواياته قصص الحب، التي باءت بالإخفاق أو حالة قطيعة ما بين المرأة والرجل في منحى رومانسي، يختلط ببعد واقعي يكشف عن قسوة هذا الواقع الذي يشتت شمل الأحبة.
ولا يخلو سرد بهاء عبدالمجيد الحكائي من وصف المكان الذي لا يأتي وصفاً محايداً في الأغلب، إنَّما يجيء مُشبَّعاً بانعكاسات الأحوال النفسية للذوات على عناصر هذا المكان من ناحية، وجلاء آثار التحوُّلات التاريخية أو الاجتماعية عليه، من ناحية أخرى، كما في وصف الصوت السارد لحالة تمثال الملك رمسيس البالية والرثة في الميدان، الذي يحمل اسمه في قلب العاصمة المصرية.
في قصص عبدالمجيد غنائية بادية كما في مجموعة (ورق الجنة)، خصوصاً في التعبير عن علاقة الذات بالعالم أو تمثُّلها له:
سكن الخريف المعادي وسقطت ملايين أوراق الشجر صرعى وأنهيت حياتها بقدمي أثناء مروري عليها، وسمعت صراخ احتضارها ولم أبال… وباتت الأشجار خاوية على عروشها تذكرني بالفراغ الواسع الذي يسكنني من الداخل، ويرجع صداه في مسام روحي وتقف الأشجار تحت نافذتي كأنَّها أشباح تهدد وجودي وتبث الرهبة في بدني.
ثمة حس رومانسي في تمثُّلات المكان في قص بهاء عبدالمجيد، بإسقاط مشاعر الذات النفسية وما تكابده من شعور اكتئابي يضيق بالعالم الذي لا تجد نفسها فيه، على المكان وفي تأملها لعناصره، فيتبدى تفاقم الشعور بالاغتراب الوجودي لدى الذوات في قص بهاء عبدالمجيد، الذي تطغى فيه مركزية الذات في رؤيتها للعالم، الذي يمسي كأنَّه مرآة تنعكس عليها انفعالات الذات ومواجدها.
هذا وقد رحل الدكتور بهاء عبد المجيد إلى جوار ربه في نوفمبر (٢٠٢٠)، رحمه الله.
- عن الشارقة الثقافية