مُؤْنِسُ المَلِكِ: عندما يحترق الهامِشُ في أتُون المركز

مُؤْنِسُ المَلِكِ [i]

عندما يحترق الهامِشُ في أتُون المركز

 

الأديب السُّوري موسى رَحُوم عبَّاس

  كثيرا ما نتبادل التُّهم نحن أبناء المشرق العربي وأبناء المغرب العربي، حول تجاهل منتجاتنا الإبداعية، وكلٌ منا يسوق ما يثبت رأيه، بعيدا عن هذا التجاذب العربي، وهو قديم في تاريخنا الأدبي، أقدم قراءتي لرواية جعلتني أقرؤها مرتين، بينهما سنة، لا أعرف تماما لمَ فعلت ذلك، قد أكون وقعت في حبائل مؤلفها الذكي الذي نصب شراكه في كل زاوية منها، وقد أكون وجدت المنطقة المشتركة بيننا إبداعيا، وربما كنت أحد أبطالها، … لست متحمسا لاكتشاف ذلك، الروائي المغربي  ماحي بينبين ( مراكش 1959- ) فنان تشكيلي اقتنى بعض أعماله متحف غوغنهايم- نيويورك، وهو أستاذ للرياضيات تخرج في الجامعات الفرنسية، وله أكثر من عشر روايات، منها ” نجوم سيدي مؤمن” التي تحولت لعمل سينمائي، وقد نال جائزة البحر المتوسط 2020 عن روايته (( RUE DU PARDON وكان يقول عن نفسه” ” ولدت في عائلة شكسبيرية، بين والد عاش أربعين عاما في خدمة الملك، وشقيق سجين بتهمة  محاولة قتل ذلك الملك ! “

ثم يصف حياة والده بقوله: ” غريبة هذه الدنيا، وغريبة كانت الحياة التي اختارها أبي” ويكمل : ” لِمَ يزجُّ إنسانٌ بنفسه في العزلة، ويرمي بنفسه في أحضان العبودية” وهو سؤال أراه يقربني أكثر من روح هذه الرواية، سؤال الأسئلة المحيرة التي تجلب لي الكوابيس منذ سنوات، وأنا أعيش في أرض تحترق!

أحاول أن أشرك السَّيدات والسَّادة  القراء ببعض من قراءتي لهذا العمل، ولا أطمح لتقديم نقد أكاديمي ألبتة، بل جل ما أوده الإضاءة على رواية أراها متقنة، بذل فيها مؤلفها جهده، لتأتي بهذا التكثيف واللغة المقتصدة، بعيدا عن الثرثرة، وفضول القول، واللغة الفضفاضة، التي اعتدناها ممن كرسهم الإعلام والمؤتمرات والأحزاب كتابا ” كبارا”  – لن أدخل في لعبة الأسماء اتقاءً لشرِّ المُريدين – علما أنَّ الرواية كتبت بالفرنسية، ونقلها للعربية المترجم أدونيس سالم، ولا أبالغ إذا قلت أنني لم أشعر بأنني أقرأ نصا مترجما، ولم أرصد له خطأ لغويا أو أسلوبيا إلا ماندر!

الواقع والمتخيل الروائي:

تدور أحداث الرواية في القصر الملكي الذي جلبت الصدفة المحضة والد الروائي، وهو الفقيه محمد بن محمد بينبين إليه، متسلحا بذاكرة حديدية تستوعب كل ما يسمعه أو يقرؤه، عرف قيمة ثروته هذه في سن مبكرة عندما كان يرافق والده الحلاق المحب للشعر والموسيقا إلى الحفلات والمناسبات، والتقى الشاعر المبدع ابن إبراهيم ورافقه إلى الحانات والشوارع الخلفية، واحتمل إدمانه الكحولي ومثليته الجنسية، حبا بالشعر، وكان يحفظ قصائده التي ينشدها حال سكره، ثم يبيعه إياها صباحا إذا غادره الخدر وعاد للوعي، انتهازيةٌ ومكرٌ قادتاه للقصر الملكي، ذلك المكان الذي يعجُّ بالمؤامرات الصغيرة بين أفراد الحاشية من موسيقيين، وعرافين، وسحرة، ومختصين بالأعشاب أو بالطب الحقيقي، وحراس شخصيين، وعشرات غيرهم…، حروب صغيرة تُخاض يوميا من أجل البقاء والحظوة، فخطؤك الأول هو الأخير في أعراف سيد القصر، كلمة قد تكون سببا في فقدان عنقك، ثقافة الوالد وذاكرته وحضوره الأنيق وشدة ذكائه مكنته من التربع على عرش قلب سيده، وأصبح الفقيه المؤنس، وهي وظيفة عرفها شيوخ عشائرنا وأمرائنا في الشرق باسم ” المُفرِّح” لكن المؤنس هنا مثقف من الطراز الرفيع، له دراية عميقة بالتاريخ والاجتماع والفقه ومخاطبة أهل السلطان، شفعت له غير مرة اقترب فيها من حبل المشنقة، تتحول هذه النعم التي يتقلب فيها إلى مشروع نقمة كبرى، عندما يشارك ابنه الضابط هابيل ( عزيز) في محاولة انقلابية مسلَّحة، ولكن المُؤنس اختار الوقوف في صف سيده ضد ولده، وتبرأ منه؛ ليزجَّ في سجن من أبشع سجون العالم هو سجن ” تازما مارت” والذي يسميه هابيل ( عزيز) لاحقا في مذكراته بسجن ” تازما مَوْت” وله مثيلات كثر في عالمنا العربي من أبي غريب إلى تدمر إلى أبي زعبل … الخ، ومع كل هذه التفاصيل يبقي الكاتب على لعبته الإبداعية، فلا تركن إلى أنه يوثق حدثا حقيقيا، أو يمارس حقه في خلق منتج إبداعي، بذكاء وشغف وبساطة تجعلنا ندهش لقدرته في ربط الخيوط جميعا بحبكة المبدع الذي يحسن حياكة رواية تجذبك حتى الذهول، فإذا هي مفصلة على جسد الحكاية تماما، لا زيادة و لا نقصان، لا يمكنك الاستغناء عن جملة واحدة منها، وحتى الإفراج عن شقيق الكاتب ظِلَّ إنسانٍ مُحطَّمٍ جسديا ونفسيا، لكنه لم يستسلم لهذا المصير أبدا!

الرواية قطعة من الحياة، أو حياة ممكنة:

في جامعة حلب وفي كلية الآداب درست النقد الحديث على يد الأستاذ الدكتور فؤاد مرعي – مد الله في عمره – وكان يركز على مدرسة الواقعية الاشتراكية، والبطل الإيجابي، ورواد الماركسيين من الأدباء …  وهذا لا يغيظني مطلقا، أومن أنَّ الجامعة يجب أن تكون من كل الأطياف الفكرية، فهي ساحة حوار وصناعة المفكر الناقد، فلسنا نسخا باهتة من بعضنا، لا أدري لمَ تذكرت ذلك بعد عشرات السنين وأنا أقرأ هذه الرواية، شخوصها مسحوقون، فاقدو الهوية تماما، يكافحون لبقاء رؤوسهم فوق سطح ماء الحياة؛ ليتنفسوا هواء شبه نقي، ساقتهم أقدارهم لعبودية مُقَنَّعة، أو مشوا إليها بأقدامهم، خلعوا كرامتهم خارج أسوار القصر، حتى سيدهم تنهشه الأمراض والشكوك ومسؤوليات إدارة بلاد مُثقلة بالمشكلات الاقتصادية والسياسية … لكنك لا تصل للحقد على أحدهم، هم بشرٌ، لا أكثر، فالقزم ” بودا” الكريه المنظر والمخبر، يبكي بحرقة غير معتادة على الموسيقي عند وفاته، وهو من حاك له عشرات المؤامرات، الملك نفسه يقدم عصاه الأثيرة لديه لمؤنسه، عندما شعر بدنو أجله، مفضلا له على ولي العهد، هذه هي الحياة لا تقتصر على لونين الأسود والأبيض بل تحتوي على كل درجاتهما، الشياطين والملائكة تتناوب علينا هذه هي الحياة كما يرسمها الفنان التشكيلي والروائي ماحي بينبين، تراني سأعتذر من أستاذي الجليل؛ فلم أستطع الحكم مَنْ مِنهم البطل البروليتاري الإيجابي الذي يجب على الكاتب أن يبرزه!!

خطاب الكراهية أم التسامح العادل؟

 بعد كل الحروب تدخل المجتمعات في ثنائيات قاتلة، منها : ( الداخل| الخارج) ( الموالي | المعارض) الثائر| الخانع) ….الخ شروخ في جسد هذه المجتمعات تكاد لا تندمل، تهدد كيان البلاد وتنذر بزوالها، يختم المؤلف روايته بعودة شقيقه من سجنه محطما – كما أسلفت- لكنه يسأل عن والده، ذلك الوالد الذي تخلى عنه عشرين سنة، ويقبله، يسامحه، ويلتقيه في الرباط ، ويرفض أن يكتب أخوه الأديب قصة سجنه وتفاصيلها، ويقول عبارته الحاسمة: ” إنني من دخل تازما مارت وخرج منه، بينما أنت لا تزال داخله”

ترى كيف لنا أن نهمل كل هذا الجمال في مغربنا العربي، مبدعون أشبه بالنجوم الزاهرة، ما كتبته اليوم تحية محبَّة لأهلنا في مغرب الوطن، أما لأهلي في المشرق: هل نحن قادرون على أن نفعل مثل هابيل، وهو الاسم الذي أطلقه المؤلف على شقيقه عزيز؟ شاق هذا العمل، لكنه ليس مستحيلا!!

[i] ماحي بينبين، رواية، نوفل هاشيت أنطوان، بيروت، 2019 ، نقله عن الفرنسية أدونيس سالم.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *