-
جاسم عاصي
إذا ما علمنا أن تركيبة الملك (جلجامش) تتشكل من ثلثين من خصائص الآلهة، وثلثٍ من البشر. لذا لا يتوجب خلوده كالآلهة، أو ممن استكمل ذلك عبر منجزه مثل (اتونبشتم) لذا حاول الحيازة على خلوده في الحياة العليا، وتخلصاً من الموت الذي أودى بخله أنكيدو.
ولهذا أسباب ومبررات خاصة بعد رحيل (أنكيدو) إلى العالم الأسفل، وبقائه كما كان يشعر بالوحدة والوحشة في غيابه. فقد كان له تأثير كبير في حياته كملك، وحياته المعرفية وما يخص تصعيد وعيه الاجتماعي والسياسي، لأنه غيّر الكثير من سلوكه في ما يتعلق بعلاقته برعايا (أوروك).
لقد كانت الأسباب ذاتية وموضوعية، لذا كانت الدوافع الأساسية للبحث عن استكمال التشكّل الذاتي للملك (جلجامش) والصعود إلى مرتبة الآلهة، كذلك التواصل مع متغيراته جرّاء علاقته بأنكيدو القائل، وهو بصحبة الغانية (شمخت):
سأصرخ وسط أوروك أنا الأقوى
وأنا الذي أُغيّر المصائر
وهذا الوعيد يُقدم صورة ناصعة على أن أنكيدو لم يكن حيواناً يمشي على أربعة بين حيوانات البرية، حيث روضته (شمخت) بالتقدمات واللذة الجنسية، بل هو وافد ثقافي معرفي مؤثر. لذا كان تأثيره مباشراً بسبب حمولاته الفكرية، فهو العارف بكل ما يدور في الحاضرة. وهذا ما أغاض مجمع الآلهة، كما جرى في سياق الملحمة.. ولعل المراجعة الذاتية لما كان يقوم به الملك، كأعلى سلطة في حاضرة أُوروك، واعتدال سلوكه مع رعايا مملكته، من بعد وعيه المتأخر ضمن دائرة (أنكيدو) المعرفية، وتأثيراته المهمة، خاصة الإله (أنليل) واعتباره عاملا يزحزح سلطة المعبد. لقد كان سلوك جلجامش في الحاضرة يسّر بعض الآلهة، لأنه يُديم من سلطة المعبد، ويقلل من هيمنة الملك كسلطة سياسية. بينما الذي حدث من متغيرات أحدثت شرخاً في هذا المفهوم من قبل آلهة المعبد، فاعتدال الملك في سياسته لا يروق لآلهة المعبد فهو الذي كان:
لم يترك جلجامش ولداً لأبيه
واستمر ظلمه بالزيادة ليلاً ونهاراً
لم يترك جلجامش (بنتاً) عذراء إلى أُمها
أو زوجة محارب (أو) زوجة بطل
وظل الآلهة يسمعون بكاءهن باستمرار
وهذا يسير لصالح رجال المعبد بالتأكيد.
وثمة عامل آخر أثّر وصعّد فكرة البحث، وهو موت (أنكيدو) ونزوله إلى العالم الأسفل، ما شكل له شرخاً في حياته ورعباً وهو يندب خله لسبعة أيام عصيبة، حتى خرج الدود من أنفه. فواراه التراب. ومن بعد ذلك اندفع لفكرة التساوي مع الآلهة كي تكون له حظوة بينهم. فمحاولة الذهاب إلى غابة الأرز، وقتل (خمبابا) حارس الغابة. الفعل الذي حذره منه أنكيدو:
لماذا تريد عمل هذا دون جدوى
سيكون تحطيم خواوا نزالاً غير متكافئ
فرد عليه جلجامش بوعي واضح:
خواوا المحارب… وسوف نحطم
حتى يختفي الشر من العالم
أُريد جبلها الغني
ثم إن موقفه من الإلهة (عشتار) من بعد العودة من غابة الأرز وقتله الوحش (خمبابا) الذي يشكل رمزاً للسلطة الأُنثوية. إذ أثاره سلباً طلبها الزواج، وحاولت إغراءه بصنع سرير الزواج من خشب شجرة (الخالوبا) بعد قطعها، كذلك صناعة الآلات الموسيقية (البوكوكو والمكوككو). لكنه تصدى لها بقوة الرفض وعيّرها بسلوكها المشين مع عشاقها، وآخرهم الراعي (دموزي/تموز) فخاطبها:
….. ماذا سأحصل إن أخذتك كزوجة
أنت (مثل) المدفأة الخامدة في البرد
(أنت) مثل باب خلفي لا يحجز الريح (ولا يصد) العاصفة
(أنت) (مثل) القصر الذي (هو) مذبح الأبطال
وإلى ما هذا من توبيخ، دفعها إلى محاولة الانتقام منه، فعملت على التذرع للإله (شمش) لإعطائها الثور السماوي الذي تُحارب به جلجامش، فكان الإله متردداً، لكنها عقدت صلة مع الإله (أنليل ) للتشفع عند الإله (آنو) من أجل الحصول على الثور السماوي:
وراحت أمام أُمها أنتوم وقالت يا والدتي إن جلجامش قد شتمني
إن جلجامش قد عدد لي أعمالي النتنة وأدراني
يا أبي اخلق ثور السماء حتى يقف في وجه جلجامش
ويملأ جسد جلجامش (بالجروح)
وفعلاً نجحت في مسعاها هذا، لكن خيبة الأمل لاحقتها أيضاً، والخسائر لازمتها، بعدد الانتصار على الثور من قبل (جلجامش/ أنكيدو) فراحت تصرخ:
منادية الويل إلى جلجامش الذي أهانني وقتل الثور السماوي
فرد عليها أنكيدو بأن:
قطع فخذ الثور السماوي الأيمن ورماه في وجهها
وأتت سيصيبك مني ما أصابه
سأجعلك (مثله) وأُعلق أحشاءك إلى جنبك
ما أغاضها وكمن في ذاتها حقد على الاثنين، ولما كان جلجامش ملكاً لا يمكن التطاول على حياته، بسبب الحصانة التي يمتلكها كملك، فقد انصبت النقمة على أنكيدو لأسباب فكرية خالصة، فهو وافد معرفي، ووجوده في الحاضرة يزحزح سلطة المعبد، وتغيير الأمور كانت لغير صالحها وصالح آلهة المعبد، حيث حكم عليه بالموت من قبل مجمع الآلهة. هذه التفاصيل اقترنت بمسعى جلجامش للحصول على مرتبة مجمع الآلهة كما ذكرنا، ذلك من أجل أن تتساوى أطراف المعادلة، ويكون له صوت مؤثر ضمن الجميع وله حق التصويت على القرارات.
إن هذه الأسباب كانت الحجر الأساس لدوافعه في البحث عن الخلود، فقد شكلت ضاغطاً نفسياً على وجوده، كذلك كانت عامل يقظة لبنيته الفكرية التي تحولت إلى منجز حياتي يخص سياسته كملك، في كل ما يخص الحاضرة. كما حصل من إضفاء أنكيدو على وجوده، وهو استنبات الوعي الصاعد. فقد ذكر بعد أن حصل على (نبتة الخلود) أنه لا يكتفي بتناولها كي يُجدد حياته ويستكمل وجوده الإلهي الصرف، بقدر ما أكد على إكثارها عبر زرعها وتوفيرها لشيّبة أُوروك، كي يُعيد الشباب لهم. فمن مواصفات النبتة كونها (تُعيد الشيخ إلى صباه). لقد اجتمعت هذه العوامل أو الأسباب ودفعته إلى أن يولى وجهه صوب بحر الظلمات، حيث يُقيم الجد (أتونبتشم) يرافقة (أور شنابي). وقبل ذلك مرّ على حانة (سيدوري) التي تقع على مفترق الطرق، ودار بينهما حديث طويل حول مرماه من الذهاب إلى بحر الظلمات لحيازة خاصية الخلود كالآلهة. فصاحبة الحانة تتميّز بشخصية معتدلة، تمتلك الحكمة، حيث قالت له:
إلى أين ذاهب يا جلجامش
إن الحياة التي تبغيها سوف لا تجدها
عندما خلقت الآلهة البشر فرضت عليها الموت
واحتكروا الحياة في أيديهم
وأنت يا جلجامش اجعل بطنك مملوءة
وكن فرِحاً ليلاً ونهاراً واعمل طرباً في كل يوم
ارع الصغير (الذي) يمسك يديك
ولتبتهج زوجتك في حجرك
فهذا واجب البشرية
هذه الأسباب مجتمعه كانت تضع الملك ضمن دائرة الصراع النفسي، لكنه من بعد ذلك، وحصراً حين سرقت الأفعى نبتة الخلود من على شفة البئر، حيث كان يستحم. لقد انتبه الملك ووفق وصايا جده (أتونبتشم) وصاحبة الحانة؛ أن الخلود كامن في المنجز المادي والمعنوي، فعمّر سور المدينة، وحسّن علاقته الدولية مع جيرانه، ومنح رعايا أوروك الحياة الكريمة، متخلصاً من كل العادات السيئة في حياته السابقة. والتي كان رجال المعبد يهملونها ولا يتصدون إليها، على الرغم من أنها تُسيء إلى وجود الملك وحاضرة أوروك ورعاياها
ملاحظة:اعتمدت القراءة على ترجمة الدكتور سامي سعيد الأحمد للملحمة. الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 1990
- عن القدس العربي – لندن