ملحمة جلجامش وثيقة البحث الإنساني عن الخلود

ملحمة جلجامش وثيقة البحث الإنساني عن الخلود

شاكر نوري *

 ملامح ثراء وتميز، عديدة، تشتمل عليها ملحمة جلجامش، فإلى جانب قيمتها التاريخية والفكرية، تعد أطول نص أدبي وصل من ثقافة المشرق العربي القديم.. وهو نص شعري مكتوب باللغات السومرية والأكادية والبابلية، وموزع على أثنى عشر لوحاً فخارياً. وتعالج الملحمة، قضايا إنسانية مركزية، كمشكلة الموت والخلود، والصراع بين الحياة والموت.

وانتقل أثر الملحمة إلى آداب الأمم القديمة، وشاعت مفاهيمها في أساطير الشعوب المجاورة لحضارة بلاد الرافدين. ولكن هذا المفهوم الملحمي، لم يتأصل في الأدب العربي، كما في ملاحم اليونان والرومان، وآداب أوروبا في القديم والحديث، كالكوميديا المقدسة لدانتي، والفردوس المفقود لجون ملتون، وملحمة أورلاندو التي تصور معارك المسيحية والوثنية، إبّان انتشار المسيحية في أوروبا، فضلاً عن الشاهنامة التي صوّرت عبقرية الفردوسي.

تحكي الملحمة قصة جلجامش، الفتى السومري، الذي أراد أن ينجز شيئاً بطولياً، يخلد ذكراه، ويجعله مثار إعجاب الأبطال، فقرر أن يفاتح (أنكيدو) صديقه، وندّه في القوة، باعتزامه تنفيذ مثل هذا الفعل الشجاع، الذي تمثل بقراره محاربة الغول (خمبابا) في غابة الأرز. وبعد مغامرة إقناع لأنكيدو، وكذا حكماء المدينة، ومن ثم رحلة سفر خطير، اجتازا، جلجامش وأنكيدو، المخاطر العظيمة.

فأفلحا في قطع رأس الغول في الغابة الغربية، وقدّماه قرباناً إلى الشمس، فتعشقت الآلهة عشتار جلجامش، وأرادت إغراءه. فرفض؛ ذلك لأنه يعتقد أنها خانت معشوقيها السابقين، ورداً على الإهانة، دبرت له عشتار مكيدة، وبعثت (الثور السماوي) ليعيث فساداً في مدينة أوروك، فتصدى له الصديقان: جلجامش وأنكيدو، وقتلاه، ثم قدّما قلب الثور السماوي قرباناً، ولكن الآلهة، غضبت فقررت وجوب موت أحد البطلين؛ لأنهما قتلا ثوراً سماوياً، واختير أنكيدو لذلك، وهكذا كان الموت من نصيبه، بعد تلك المغامرة.

وفي أعقاب ذلك، حزن جلجامش، وبدأ يفكر في الموت وسرّ الحياة، وازداد قلقه لهذه الفكرة، وانطلقت في حياته، مرحلة رحلة جديدة، وأخذ يطلب الحياة والشباب، ففكر في الوصول إلى الإله أوتنابشتم ليسأله عن سرّ الخلود، الذي هو فيه. وبدأ السعي الفعلي لهذه الرحلة الخطرة والعجيبة. فتعرف على ساقية الآلهة (سيدوري) التي تعرف الطريق إلى جزيرة أوتنابشتم.

وهكذا فإنها تخبره بوجود الملاّح الخاص الذي يعرف طريق الجزيرة التي يسكنها أوتنابشتم، مع زوجته، خالدَين. فيأتي جلجامش إلى الملاّح: أورشنابي، مسرعاً. فيتعثر ويدوس على الألواح السحرية التي تحتوي على الطلاسم والكتابات الحامية والحافظة لسلامة المركب بينما يمخر عباب المياه في بحر الموت، وبذا تتكسر الألواح التي فيها الطلاسم الحافظة للمركب من مخاطر الموت في البحر.

وحين يطلب من الملاح الوصول إلى أوتنابشتم، يجيبه: “إن الألواح الحافظة للرحلة تكسّرت. ولا يمكن الآن”. ولكن الملاّح، تخطر له فكرة: “أن يقود جلجامش المركب بطريقة تجعله لا يمس الماء المميت، وهكذا اخترع له أعواداً طويلة:

(وهي: المردي في أهوار العراق الجنوبية)، ليدفع بها المركب، وهكذا وصل جلجامش إلى (أوتنابشتم) وسأله عن سرّ الخلود، فحدّثه الثاني عن قصة الطوفان. وبعد إلحاح جلجامش في طلب سرّ الخلود، أشفقت زوجة أوتنابشتم، فناشدت زوجها أن يعلمه طريقة معرفة سرّ الخلود، فأطلعه على طريقة أخذ عشبة الخلود من قاع البحر. وبذا سارع جلجامش إليها، فوصلها وحازها، بعد آلام وجروح.

ولكنه وهو في طريق العودة، نزل ليستحم في النهر، جاءت أفعى وسرقت العشبة تلك. فخسر جلجامش الخلود بهذا، ذاك نتيجة تفريطه واستهتاره إلى حد ما، وشعر، متيقناً وحزيناً، أن مصير الإنسان، ولا بد، الفناء.

فرادة

خلص الباحث الأثري العراقي، الراحل طه باقر، إلى أن ملحمة جلجامش، والتي كان قد ترجمها من لغاتها الأصلية، ودرسها بعمق وتفصيل ودقة، أقدم نوع من أدب الملاحم البطولية في جميع الحضارات، وأنها أطول وأكمل ملحمة عرفتها حضارات العالم القديم، وليس هنالك ما يقرن بها أو ما يضاهيها من آداب الحضارات القديمة، قبل الإلياذة والأوديسة في الأدب اليوناني، اللتين ظهرتا بعدها بثمانية قرون.

لا تزال هذه الملحمة، التي دونت قبل أكثر من أربعة آلاف عام، مثار اهتمام واسع على الصعيد العالمي. إذ استوحت منها كل شعوب العالم، إبداعات شتى، مع اعتماد صياغات أدبية حديثة لحكاية الملك جلجامش، تحتفظ للنص الأصلي بعناصره الأساسية ومخزونه الثقافي الحضاري.

وكل شعب يرى في هذه الملحمة، جذور وصور تراثه في حيثيات وحقول تساؤل الإنسان وسعيه إلى الخلود، هذه الفكرة الكونية التي تخص الجميع بلا استثناء. وهكذا ظهرت المسرحيات والأفلام والأعمال الأوبرالية والمسرحيات الإذاعية، التي تنهل من هذا الينبوع الساحر، ذاك كون الملحمة تحتوي على جميع عناصر الحياة.

ويرى متخصصون، أن الملحمة تلك، تمثل وثيقة إنسانية كونية بامتياز، حملت لنا عبر العصور والأزمنة المتعاقبة، علامات بارزة في الابتكار والتوليف والسرد والبناء الدرامي والإيحاء الرمزي، التي كان يتمتع بها الكاتب العراقي القديم. كما أنها عكست لنا بأسلوب فني شيق، وببراعة مدهشة، شواغله الوجودية ورؤيته للحياة والموت والجمال والخير والعدل.

ويقال إن الفراغات في النص، تعطي مسحة من الغموض والإبهام الجليل الملهم والمستفز للخيال والإبداع، وكأن الملحمة تريد من خلال هذا البياض، أن تدفع القراء إلى إكمال النواقص.

تمتد وتتشعب ملحمة جلجامش لتبلغ مستويات رفيعة في رحاب عوالم الفكر والفلسفة، بشتى صنوفها. إذ يجد فيها الفلاسفة، البعد الصوفي الهيغلي، تحديداً ضمن شخصية جلجامش، وكذلك البعد الفاوستي والفرويدي.

كما رأى الشاعر الفلسطيني الراحل، محمود درويش، أن ملحمة جلجامش السومرية، التي يعود تاريخها إلى مدينة أوروك في الألف الثالثة قبل الميلاد، تحتوي مادة غنية لمناقشة ثيمة الموت والخلود، وعبر عن ذلك برمزية قوية في قصيدته” الجدارية”، وكأنه يشارك في إضافة (توليفات) على هذه الملحمة، التي خضعت عبر الزمن إلى الكثير من الزيادات عبر العصور، حتى وصلت إلى بابل الكلدانية.

حوار النور والعقل

تجليات وفكر أخاذة، نتبينها في عمق نص المحلمة، بعد أن عجن خامة نصها المبدع محمود درويش، ليصوغ رؤى نافذة عميقة:

“.. أنكيدو! خيالي لم يعُد يكفي لأكملَ رحلتي. لا بدّ لي من قوة ليكون حلمي واقعياً. هاتِ الدمعَ، أنكيدو، ليبكي الميتُ فينا الحيَّ. ما أنا؟ من ينامُ الآن أنكيدو؟ أنا أم أنتَ؟…”.

وهكذا أدخل الشاعر نفسه في التجربة ذاتها، وهو بين حدود الوجود والعدم، ولكنه يخلص إلى مفهوم الخلود، في صيغة جديدة ضمن الملحمة السومرية:

“هزمتكَ يا موتُ الفنونُ جميعها/ هزمتكَ يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين. مسلّةُ المصريّ/ مقبرةُ الفراعنة/ النقوش على حجارة معبدٍ هزمتكَ/ وانتصرتْ، وأفلتَ من كمائنكَ/ الخلودُ…”.

ثم يقول: “.. من أنا في الموت/ بعدي؟ من أنا في الموت قبلي/ قال طيفٌ هامشي: كان أوزيريسُ/ مثلكَ، كان مثلي. وابنُ مريم/ كان مثلكَ. كان مثلي…”.

ملهمة روح الإبداع

كان الفنان عابد عازرية أول من اعتمد الميثولوجيا للتلحين. وقدمها في أسطوانة خاصة بعنوان “جلجامش”. ففتح أذهان المثقفين عليها، وكان أول من لحّن أشعار المتصوفة، وكان أول من مزج في موسيقاه، بين الألحان العربية والإسبانية.

كما استحضر المسرحي المغربي سعيد الناجي، النصوص الأسطورية، في إبداعاته.. وجسد ملحمة جلجامش من خلال إلقاء الضوء على ما يعانيه العراق في الوقت الحاضر، رابطاً بين الماضي والحاضر، ومستشرفاً آفاق المستقبل.

وكذلك، أثرت الملحمة على الثقافات اللاحقة وعلى الإبداع التشكيلي. لذلك نرى الكثير من الفنانين في العالم العربي، تخيلوا هذه الملحمة ورسموها في لوحاتهم. كما قرأوا الملحمة بعمق، من أجل استنباط المعاني والدلالات. انعكست في الفن التشكيلي بشكل كبير وبقيت عبارة عن مؤثرات أو عناصر متناثرة على لوحات الفنانين التشكيليين الذين استلهموا الملحمة. وهناك بعض المتاحف التي تحتفظ بتمثال جلجامش، بعيونه ولحيته ومواصفاته، حسب ما ذكرت الملحمة.

وقدم كل من عازف الكلارينيت، كنان عظمة والفنان التشكيلي كيفورك مراد، عرضاً حيّاً للملحمة في دار الأوبرا في دمشق، قبل أعوام، في عرض حيّ مثير ومتجدد، تجتمع فيه ألحان آلة الكلارينيت مع الرسم الحيّ، إلى جانب أشكال التقنية الحديثة، لتروي هذه العناصر مجتمعة، قصة رحلة الخلود التي لا تتقادم مع الزمن.

في المسرح

1989 عمل للمسرحي الأميركي روري وينستون

2003 عمل للمسرحي السوري هاشم غزال

2007 عمل للمخرج الأميركي بيلك بودين وريجينا بوغ

2007 عمل للروسي ساش وجيسيكا كوبزانسكي

2009 عمل للأميركي ميكائيل رو

2013 مسرحية «شظايا طين ــ جلجامش» تأليف واخراج المغربي طارق الرياحي

أدب الأطفال

1991 “جلجامش الملك”- لوديملا زيمان

1993 “انتقام عشتار”- كتابة ورسومات: لوديملا زيمان

2003 “جلجامش البطل”- كتابة: جيرالدين ماككوغهرين. ورسومات: ديفيد باركنز

2005 قصة “الإنسان الأول”- كتابة ورسومات: بيرناردا بريسون

2006 “الرجل الذي ألقي القبض عليه في الحرب”- لكاثي هندرسون. رسومات: جين راي

في الأوبرا

1955 أوبرا تشيكية: الموسيقار التشيكي بوهوسلاف مارتنيو.

1972 أوبرا دنماركية: بير نوغارد.

1986 أوبرا صربية: الموسيقار رودولف بروسي.

1992 أوبرا إيطالية: الموسيقار فرانكو باتايتو.

في السينما

1985 فيلم من إخراج الأخوة كي

1990 فيلم لسوسيتاس رافيليو سانزيو

2013 فيلم للمخرج العراقي الدانماركي طارق هاشم

* روائي وصحفي عراقي يعيش في دبي

البيان

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *