على دُرُوبِ القَوافــــِــــلِ – نص شعري

(ثقافات)

 

*الأديب السُّوري موسى رحوم عبَّاس

 

 نعم، أعرفُ أنَّ هذي الرمالَ لا تحفظُ آثارَنا

وأنَّ السَّوافي خلفَ هذا الكثيبِ

ستمحو ظلِّيَ من على خدِّها

وتبقيه جُرْحًا بنصفِ اندمالٍ

وأعرفُ أنِّي مازلتُ استأنسُ بهذا العُواءِ

فالذِّئبُ مِثلي

وحيدا يخافُ الظلامَ … فيَعْوِي!

لِتَسْمَعَ كلُّ ضَواري الفَلاةِ، لعلَّ العُواءَ

يكون صدىً، أو قصيدة!

 

قالتْ: لا تقطَعَنَّ هذه البِيدَ غِبَّ المطر

فخيطُ دِماكَ سَيُرشدُ عنكَ

الصَّعاليكَ والفاتِكين …

وابتعِدْ عن دُرُوبِ القوافلِ

فليسَ لكَ من القَيْظِ إلا احمرارُ عُيُونِ الوحوشِ

وظمَأٌ يُشْبهُ المِلحَ

قلتُ: وهذه قسمتي من تراثِ القبيلةِ!!

أحملُها على منكبيَّ كَنِيرِ الحِراثةِ!!

 

رأيتُ الفُراتَ يسيرُ أمامي

تنكَّرَ في زِيِّ بدويٍّ يجوزُ الفيافي مُشْتمِلًا حُزْنَهُ

حاذيتُهُ، يبتعد!

صرختُ، صرختُ، تعالَ لِنَمْكثَ في تِيهنا، يا فراتُ!

تعالَ، نقتسمِ الوجْدَ لتلكَ الضِّفاف!

لنصنعَ عُشًّا لطيرِ القَطَا الهاربِ مثلنا

أو شِبَاكًا لأسماكِ خوفِكَ!

” أضحى التَّنائي بديلًا من تدانينا”[i]

وكان الفُراتُ أمامي كخيطٍ من الدَّمعِ

يَهْمِي في حنايا النُّفوذِ

عباءتُهُ الخوفُ، كأنِّي بهِ قد يراوغُ

 رَشْقةً من رصاصٍ

قلتُ: لا تتركنِّي وحيدا؛ فيأكلني السّبُعُ وسطَ هذا الظَّلامِ!

سمعتُ صدى صوتِه في أعالي الكَثِيبِ

يقولُ: ” إنَّكَ لنْ تستطيعَ مَعِيَ….” [ii]

قلتُ: لا تُكْمِلْ، فقد قتلتني مَرَّتَيْنِ

تلفتُّ لم أجِدْ إلا الظِّلالَ

لا نهرَ

لا ماءَ

لا شمسَ

لا صَحْبَ

 مازلتُ أعرفُ أنَّ هذي الرِّمالَ لا تحفظُ آثارَنا

وأنَّ السَّوافيَ خلفَ هذا الكثيبِ

ستمحو ظلِّيَ من على خَدِّها

وتبقيه جُرحًا بِنصفِ انْدِمَالٍ

وليس لي سوى بنتِ نَعْشٍ رفيقًا

ترقبُ دربي، تحاذيه نحوَ الشَّمالِ

وترسلُ ضوءًا شَحِيحًا، لِتهديَ طيرًا يُحَاولُ

الاختباءَ

على عاتقي صُرَّةٌ من العِشْقِ، والرُّعبِ، والألمِ المُشتهى

وخلفي بقيةٌ مِنْ رِمَال!

حينها يُصْبِحُ الدَّرْبُ والقَدَمُ التي تَعْتَلِيهِ

نخيلًا، وسدرًا، وطيرَ يمامٍ

يَفرُّ لأعلى السَّماء

لعلَّ الرَّصاصةَ تُخْطِئهُ مرَّة ثانية!

وتلكَ عصاي أهُشُّ بها على حُلُمي

ولا مآربَ أخرى بهذا الفضاءِ الوَسِيعِ

فالبيدُ نَطْعٌ، وقلبي ذبيحٌ، وسيفٌ، وبرقٌ

يشقُّ الجهاتِ، ورائحةُ الغَيْثِ ليست بعيدة

فنحنُ البُداةَ نعرفُ متى شَبَقُ التُّربِ للهَطْلِ يسري

ونُصغي لصوتِ الرِّياحِ، يُوشْوِشُنا الرَّملُ سِرًّا

نعاقرُ ذَرَّاتهِ خَمْرَها، نُهدهدُها تارةً

ونسألُ أخرى

متى تزهرُ الأرضُ من دمِنا

وتملأ الدنَّ نبيذا حلالا تطُوفُ بهِ

 في القصورِعلى وقعِ رقصِ السَّماحِ

الجَواري؟!

هذا غناءُ النَّوارسِ التي هَجَرتْ بَحْرَها

أو هُجِّرَتْ

وصارتْ نُجومًا تُجاورُ القُطْبَ

أو منارًا لمقبرةٍ قادمة!

تُراني أرْقُبُ دربَ القَوافلِ ؟

ولكنَّني

مازلتُ أعرِفُ أنَّ هذي الرِّمالَ لا تحفظُ آثارَنا

وأنَّ السَّوافيَ خلفَ هذا الكَثِيبِ

ستمحو ظلِّيَ من على خَدِّها

وتبقيه جُرحًا بِنصفِ انْدِمَال!

 

                                                                        الرياض، 2021

[i] ابن زيدون، الشاعر الأندلسي

[ii] سورة الكهف 67 ، القرآن الكريم

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *