-
عزيز الحدّادي
أجمل سنوات السينما هي التي واكبتها أجمل المدارس النقدية؛ إنهما حليفان، الإخراج والرؤية النقدية العميقة، لكن ما يجعل السينما فنا هو التصوير، فسلطة الصورة على روح المشاهد تدفعه لأن يقبل الفيلم الصامت، وغياب الألوان، ذلك إن الفن يبدأ حيث تنتهي التقنية، لأن الصورة إبداع للرؤية العميقة، ولعل هذا بالذات ما يكشف عنه نقاد السينما، فالناقد لم يعد فيلسوفا كأفلاطون وأرسطو أو فنانا مثل، دافينشي وكيتس، ولأن النقد ظهر في الدراسات الجامعية والمعاهد العليا للفن.
وبما أن هدف النقد ليس هو محاكاة الواقع، كما جاء في كتاب «الشعر» لأرسطو، فإن السينما ظلت تتحرك على سطح الواقع، ولا تتخلص منه إلا بفضل الرؤية العميقة، ولذلك نجد بعض نقاد السينما، تأثروا بأفلام الواقعية الجديدة، ويأتي أندري بازان في مقدمتهم، فافلام الواقعية الجديدة مثل «مدينة مفتوحة» لروسيليني و»سارق الدراجة» لدي سيكا و»المواطن كين» لويلز كانت تبدع الواقع برؤية فنية غاية في الروعة «فالرؤية والواقعية لديهما الهدف نفسه؛ الالتصاق بالواقع وشعريته».
بيد أن واقعية السينما ليست هي ذاتها واقعية التصوير، لأن السينما ليست ببساطة صور معروضة على شاشة، مثل ألوان الرسام على القماش، فالسينما تخلصنا من الواقع عن طريق الواقع، بلغة بازان، ذلك أن المخرج لا يأخذ مرآة ويدور بها ليقدم صور الأشياء، بل إنه يسعى إلى إبداع صورة شعرية منبثقة عن الروح، ليوقظ العالم من حالة السبات، ولذلك نجد بازان يقول «إن واقعية الفيلم هي بمثابة تعبير عن الروح الأسطورية، ووظيفتها ليست إعادة الواقع المادي، ولكن تخليصنا من مصيرنا المادي». والحال ان جدل النقد والسينما هو ذاته جدل الصورة والميتافيزيقا؛ إنهما الشيء نفسه وخصام الشيء مع ذاته، فالميتافيزيقا ترى أن الفكر ينتج الوجود، ولا يمكن فهمه إلا من خلال الصورة، أما السينما فإنها تبدع الواقع على شكل صور، سواء كانت شعرية، أو تشكيلية، أو فيلمية، لأن أصلها فن، والفن ليس معاديا للواقع، ولكنه مجرد قلق تجاهه غايته جمالية الوجود المادي، يرغب الخيال في منحه تأشيرة الروح، التي لا تجد عنصرها إلا في الصورة، أو كما قال هيغل في «فينومينولوجية الروح»، «لقد انفصلت الروح عن العالم الذي كانت تسكنه وتتخيله، وهي عاقدة العزم على أن تتركه يغوص في الماضي، لأنها مشغولة بتشكيل ذاتها من جديد».
من أجل أن تصبح السينما مرآة للفن، لا بد من نظرية لسينما المؤلف، ولعل هذا ما قامت به مجموعة مخرجي السينما، التي كانت تضم نخبة من السينمائيين كبازان، وغودار، وتريفو وشبرول، وباستثناء بازان، الذي احترف النقد السينمائي، فإن هذه المجموعة مارست الإخراج والنقد، كما أنها تأثرت بالفلسفة الوجودية التي كان يتزعمها سارتر، ولم تكن السينما سوى مقاومة ثقافية للهيمنة السياسية، ولذلك كانت تؤمن بأن ما هو عقلي فهو واقعي، وما هو واقعي فهو عقلي، لكن بأي معنى يمكن للنقد السينمائي أن يصبح هو الوجه الآخر للنقد الفلسفي؟ وإلا ما معنى جدلية الفن والواقع؟ وهل هي ذاتها جدلية الفكر والواقع كما حددتها الفينومينولوجية؟
ينبغي أن يكون الناقد السينمائي ملما بتاريخ الفن والفلسفة، لكي يصبح أقرب للإبداع والمشاركة بالنسبة لصانع الفيلم والجمهور، فالناقد المغرم بالسينما الذي يقضي وقته في مشاهدة الأفلام، ولا يقرأ كتب الفلاسفة فإنه سيكتب عن فن لم يفهمه بعد، وتكون كتاباته مجرد انطباعات لا غير، «يكرر؛ هذا الفيلم يبدو لذيذا، هذا الفيلم يبدو رديئا، أعجبني، لم يعجبني». هكذا تمسي السينما وسيلة للتسلية، في حين أن الطموح الفلسفي للسينما هو الوصول إلى ماهية الفن، وما الفن سوى وضع الحقيقة في العمل الفني، كما قال هايدغر.
ليست غايتنا هي تقديم نظرية في النقد السينمائي، أو كيف يصبح المرء ناقدا سينمائيا في أسبوع، بواسطة تطبيق قواعد وايت ماكدونالد الذي قام بتلخيص وظائف الناقد الثلاث؛ أولا الحكم على قيمة الفيلم، وثانيا إثبات قيمة الفيلم، وثالثا مقارنة الفيلم بأفلام أخرى ووضعه في تاريخ السينما، بمعنى يجب أن نفحص ملكة النقد وننظر في ما إذا كانت قادرة على القيام بالنقد أم لا، وهذا يشبه قول القائل؛ إنني لا أستطيع النزول في الماء قبل أن أتعلم السباحة عبر المراسلة.
وفي الحقيقة إن أعمق ما في الواقعية الجديدة التي أسسها بازان هو اعتمادها على الفلسفة الفينومينولوجية التي تتأسس على مقولة، إن المعقول واقعي والواقعي معقول، ولذلك فإن حقيقة الأشياء هي الأشياء نفسها، حيث أن الدياليكتيك سيتحول إلى منهج نقدي في السينما الجديدة، أي سينما المؤلف، التي تستجيب لنداء الفن، باعتباره مقاومة للهيمنة والقمع من خلال نشر الوعي الذاتي وهدم الوعي الشقي، فالصورة أداة لنشر التنوير مثل العقل، جدل الصورة والعقل، فكل مدرسة في النقد هي نتيجة لمدارس سابقة، إذ تحمل في جوفها مبادئ فلسفية، خاصة فلسفة الجمال فالجمال يعلم الإنسان كيف يكون حرا حتى في ارتباطه بالحس، لأنه يقوده نحو الصورة التي يدركها الفكر «ففي النفس الجميلة يحدث الانسجام بين الحس والعقل وبين الواجب والهوى» كما قال كانط.
كاتب مغربي
- عن القدس العربي