يوميّاتُ شتاءٍ قارس

*فراس حج محمد

(1)

هل يعلّمنا الشتاء سرد القصص؟ أكثر شيء أتذكّره من طفولتي الشتاء والقصص، قصص جدّتي التي ترويها بحماسة بالغة، الشتاء القارس كان دائماً عاملاً مساعداً على تلاوة تلك الحكايات. الشتاء له قدرة تدفع المرء ليتذكّر، ويكتب الحكايات أو يقولها أو ربما فقط الاستماع إليها. في الصيف تنشغل جدّتي في أمور أخرى، وتقلّ الحكايات، وينضب سحرها.

جدّتي كانت تروي القصّة في كلّ مرّة بطريقة مختلفة حسب حالتها النفسيّة. عندما تكون غاضبة تدخل في السياق بعض العبارات التي تومئ فيها لأحدنا، على طريقة “إيّاك أعني واسمعي يا جارة”. وعندما تكون مسرورة تروي وهي تضحك وتسرد الحكاية ذاتها بطريقة ساخرة وفكاهية تجبرنا على التفاعل معها ضحكاً وتعليقاً.

أحياناً، كنت أشكّ في أنّ تلك القصص تراثيّة، لم أجد لها مثيلاً أو شبيهاً في كتب الحكايات الشعبيّة أو عند الجدّات الأخريات من “عجائز قريتنا”. بتّ على قناعة أن جدّتي تؤلّف القصص أيضاً حسب المواقف. تريد أن تقول شيئاً فتقوله في الحكاية. كنّا نفهم قصدها على نحوِ ما. وأحياناً نتغابى وندّعي البلادة، ونتجاوز عن قصدها. إنّها مجرّد حكاية عابرة. ربّما قلنا هذا في مرّات كثيرة. نادراً ما كانت تنشب بيننا وبين الجدّة مشاجرات بسبب تلك القصص. ربّما بعض عتاب خفيف. وينتهي الأمر، وتُنسى الحكاية. جدّتي امرأة مسالمة، تلوذ نحو القصص لتفرغ حمولتها من الغضب.

ما شجعني على هذا الاستناج أنّ هناك مجموعة من القصص لم أسمعها من جدّتي إلّا مرّة واحدة، لم تعد إليها مرّة أخرى، لقد ألّفتها وألقتها على مسامعنا ثم نسيتها، لم يعد لها حاجة، هل أدّت تلك القصص الغاية من سردها. يبدو أن جدّتي كانت حريصة على ألّا نحفظ عنها تلك القصص، تريد أن تظلّ سيّدة الحكاية، ولها وحدها حقّ التأليف والسرد والتأثير والنقاش.

كنت في كل مرة أستمع فيها إلى أقاصيص جدّتي في الشتاء أنسى أنّني أسبح في العتمة أو في البرد. جدّتي تقاوم البرد والعتمة بضياء الحكايات، حكايتها دائماً نهاريّة، وإذا كان الحدث ليليّاً لا بدّ من أن يكون هناك بطل يحمل مصباحاً يضيء طريق الحكاية. أحاديث جدّتي الشتائيّة لم تكن تخلو من النار والدفء. دائماً هناك مصدر دفء في حكاياتها، عادة ما كان مصدراً بدائيّاً. فجأة دون سابق إنذار تشعل النار، فيعمّ الضوء والدفء في فضاء الحكاية. بالفعل أشعر بالدفء على ضوء تلك القصص.

جدّتي تسرد حكايتها وهي متدّثرة في فراشها، تلفّ كامل جسمها من أخمص قدميها وحتّى رأسها باللحاف الصوفيِّ الثقيل مع بطّانيّتين أخريين. نحن أيضاً مثلها. تتحدّث بإيقاع هادئ طوال الوقت، كنّا نعلم أنّها كانت تقطع الوقت بالحكايات. كنّا في الثمانينيّات وأواسط التسعينيّات عائلة فقيرة جدّاً، وكانت الحكاية زاداً رئيسيّاً لنا في الليل والنهار وعند الإفطار والغداء والعشاء وعند النوم. كنت سعيداً جدا بحكايا جدّتي الحقيقيّة والمخترعة. أشعر أنّني كنت أكبُر كلّما حدّثتني جدّتي قصّة جديدة. جدّتي كانت أيضاً تخلط الحقيقة بالخيال، لديها فنتازيا عجيبة، وتعجن الحكايات بالأغاني والتراويد الحزينة، كانت تسرّب بطريقة ناعمة بعض التعابير المحرّمة جنسيّاً وسياسيّاً. لم نكن نشعر حيالها بالامتعاض أو النفور ولا حتّى الضحك. تمرّ العبارات بسلاسة حتّى أنّني لم أُعِد التفكير فيها وأنا وحدي. التعابير لم تكن فظّة، بل كانت فضّيّة جميلة برّاقة، تبرق في جوانب الحكايات. وهناك تموت دون أن أقوم بإخراجها من حكاية جدّتي ليعبث بها رأسي الصغير أنذاك بالتفكير أو بالتخيّل. عندما أخذت بإدراك تلك اللغة الملفوفة بالصوت الخافت والتورية لم ألتفت إلى عمري، انتبهت وإذ بقاموسي اللغوي العقلي مليء بهذه الألفاظ.

هل طمحت جدّتي أن تورّثني تلك الحكايات، هل خيّبت أملها؟ فأنا لم أستطع أن أعيد سرد حكاياتها، نسيت كلّ ما حدّثتني به جدّتي من حكايات بأحداثها وشخصيّاتها ومواقفها. علّمتني جدّتي أن أصنع حكاياتي الخاصّة، ولذلك أعتقد أنّني الوحيد الذي لم أخن رسالتها، ولم أخيّب أملها بالتأكيد، بقيت محافظاً على استعادة روحها في كلّ ما أكتبه من سرد وقصص وما أخترعه من حكايات. جدّتي لم تكن مجرّد حكّاءة ماهرة وحسب. بل معلّمة بارعة أيضاً، فليس المهمّ أن تسرد الحكايات، لكنّ الأهمّ من ذلك كيف تُسرد ومتى ولمن ولماذا.

(2)

عندما غادرتنا جدّتي كان الوقت صيفيّاً، وقد امتنعت عن الكلام والأكل والشرب والمشي ما يقارب أسبوعاً. ربّما مكثت أكثر من أسبوع على هذه الحال، توقّف جهاز الحكاية عندها، لم تعد تقول لنا شيئاً. كانت تتابعنا بأعينها، كنّا نعلم أنّها تودّعنا وداعها الأخير. انشغلنا بها، راجين لها الرحمة والسكينة والسلام. كنّا نعلم أنّه مرض الموت.

غادرتنا جدّتي بالتدريج، كأنها لا تريد أن تذهب وتتركنا وحدنا أو نتركها وحدها، كانت طوال عمرها ترفض أن تكون وحيدة، بقي معها بعض الحكايات لم تقلها. من يعرف جدّتي جيّدا يدرك أنها كانت تريد أن تقول حكايتها الأخيرة، لكنّ الأقدار كفّت لسانها عن الحديث، فحاولت أن تقول بعينيها ما عجزت أن تقوله بلسانها.

جدّتي تجاوزت التسعين عاماً على ما يقول من يعرفها من الجيران. أبي هو الابن الوحيد البكر لها، ولد بعد النكبة بشهرين، وشارك في حرب الأيّام الستة، كانت خائفة عليه جدّا، فهو ما خرجت به من هذه الحياة. يعود أبي إلى القرية سالماً، ولكنه كأبناء جيله وأفراد الجيش العربي الأردني، عاد مهزوماً من حرب تمسرحت لتذهب بقية البلاد، وصرنا تحت الاحتلال. أبي ظل طوال حياته وشبابه بعيداً عن العمل الفدائي والعسكري، لم يكن يرى فيه أي نفع أو فائدة. وأن البلاد “مبيوعة”.

لحسن حظّ جدتي أنّها رأت أحفادها يرقصون حولها، بل رأت أبناء أحفادها، لقد شهدت ولادتنا جميعاً. كانت سعيدة بنا. عندما رحلت جدتي أخذت معها الفانوس السحري، وشعلة النار والضوء، وبقينا تحت رحمة الفراغ الشتويّ من الحكايات وضوئها ومصابيحها. الآن لا شيء في المكان سوى صمت الفوانيس.

(3)

في الحقيقة، نحن نسبح في البرد والعتمة مع انقطاع في التيّار الكهربائي، نفكّر على نحو أكثر عقلانيّة هذه المرّة. جارنا الذي يعمل موظّفاً في المجلس القرويّ يتوقع الآن أن أتّصل به مستفسراً عن السبب، سأخلف توقّعه هذه المرّة، ولن أسأله. إذ إنني لم أنس قوله لي ذات مرّة: “الحمد لله على انقطاع الكهرباء لنسمع صوتك”؛ لذا قررت إثر هذا التعنيف المبطّن ألّا أسأله، مهما طالت مدّة السباحة في الظلام والبرد القارس.

في الواقع، هممت أن أتّصل على غير جارنا غير مرّة، وفي كلّ مرّة أتراجع عن ذلك، ربّما خوفاً على نفاد ما في جهازي المحمول من بقيّة كهرباء. كم أنا نادم الآن إذ لم أقم بتوصيل الجهاز ليلاً بـ (كابل) الشحن. إنّه العجز الكسول وأنا تحت الأغطية الدافئة؛ لم أجد رغبة في فعل ذلك.

أولادي يتحاورون بشأن الكهرباء، ثمّة برنامج تلفزيونيّ قريب الموعد، يسألون عن ذلك الساحر تذمّراً. تبدو الفكرة عقلانيّة جدّاً أن أتّصل بموظّف المجلس القرويّ- شخص آخر بديل عن جارنا- ليخبرنا شيئاً ما، لعلّه يطفئ حيرة مكوثنا دون كهرباء.

زوجتي المحتارة التي بدت قلقة على انقطاع خدمة الإنترنت ومتابعة الفضائيّات، تعزّي نفسها والأولاد وتعزّيني: “لا حاجة أن نتّصل بأحد، فكثيرون غيرُنا قاموا بهذه المهمّة عنّا”. تقفز إلى الرأس فكرة عنيدة وعصيّة على المكوث حبيسة في الصدر، وتجبرني على الكتابة وترك القراءة الصعبة في كتاب مترجم: “ماذا لو أنّ كلّ سكان القرية امتنعوا عن الاتّصال بموظّفي المجلس، واعتمد كلّ واحد منهم على الآخرين من أجل هذا الفضول غير المفيد في حقيقة الأمر، أو أنّ موظّفي المجلس لم يقوموا بمتابعة الأمر مع أصحاب الشأن، بدعوى أنّ كثيرين سيتّصلون؟ ماذا ستكون النتيجة؟ ربّما سيخيّب الجميع ظنّ الجميع. ولكن هل من الممكن أن يتمتّع جميع أهل القرية بهذا القدر من البلادة واللامبالاة والكسل كما أنا أتمتّع، وبالدرجة نفسها من الركون إلى الآخرين”.

لا أدري إن كان ذلك سيحدث، وكيف لو حدث فعلاً، فهل سيكون الأمر مرعباً حقّاً. بقي أن أقول لكم إنّني لم أستطع الاستمرار في لعبة عضّ الأصابع هذه، وأنجزت مهمّة الاتّصال بخيبة كبيرة، دون حدوث تطمينات ذات جدوى.

وما هي إلّا بضع دقائق وإذ بالحرارة تسري في كلّ موجوداتنا الباردة. تذكّرت على الفور ما كانت تقوله جدّتي في حالات مشابهة: “لو صبر القاتل ع القتيل..”، ولكنّني تذكّرت أيضاً حكمة بالغة قديمة “ربما هَمُّ امرئ فيما تمنّاه” مع الاعتذار للقائل بسبب هذا التحريف الاضطراري، وهذا ما حدث بالضبط في الواقع، لأفاجأ بما لم يسرّني عند هذه العودة غير المذمومة بالمطلق، وغير المحمودة بشكل كليّ. ثمّة أمر يزعجك في كلّ شيء تنتظره بشهوة عارمة.

(4)

في الواقع هي امرأة قاسية لكنّها لا تشبه الحجارة الملساء اللازورديّة أو الفيروزيّة فقط قد تتخايل شوكة في وردة جافّة حطّمها الشتاء.

وفي الواقع أيضاً قد يبدو هذا الوصف السابق سلبيّاً، أو هكذا قد تتصوّر، إذ إنّ معجمها المعنويّ المبرمج في اتّجاه المعاني الرومانسيّة المثلى الريحانيّة، الياسمينيّة قد يجد غرابة أو ضيقاً حين استعمال هذا اللفظ أو هذا الوصف أو هذا السرد. إنّما في الحقيقة هو مجرّد وصف محايد لما هي عليه في هذا الشتاء.

لا أرى نفسي مضطرا للدفاع عن سابق لغتي التي فَرضت عليّ أن أكتب على هذا النحو التأثريّ الحادّ، كما قد يُوصف بلغة الآخرين، ولكنْ على ما يظهر لي أنّ ثمّة تغيّراً طرأ على المزاج العامّ لهذا الشتاء الذي جعلني في حالة برد دائم في أضلعي، إذ لم أشعر بالدفء وأنا كالعادة أستحضر حالتها المائيّة الساخنة المعتادة كحمّام متأنٍ في غرفة حمّام محكمة الإغلاق تماماً كأنّها مهيّأة لتكون لنا.

ربّما فاجأها الشتاء بقوارسه، وفاجأتها اللغة بأنيابها المدبّبة، ولكنْ سيفاجئها الواقع في حقيقة الحال لو قرأت كلّ تاريخ مرّ سابقاً بيننا منذ ما يزيد عن بضعة مئات من الأيّام.

(5)

الذاكرة المثقلة بثمار ليست ناضجة كأنّها متعفّنة تماماً، ما الذي يدعو الذاكرة إلى التعفُّن في مثل هذا الشتاء المستبدّ؟ تغدو الأشياء ذات سطوح خشنة كرؤوس الدبابيس، ويصبح السير عليها شبه ممكن أو شبه مصطنع، الحالة الآن كأنّها واقعة في شرك ما بعد عملية صيد خيالي بعيد المنال نوعاً ما.

تحدوني الرغبة في نحت أشكال ثلجيّة على هيئة صوف ناعم، ما الفرق إذن بين الصوف المنفوش وبين الشيء البارد المركون في زاوية ما من الذاكرة الملبّدة بخيوط من الثلج الناعم كأنّه الصوف؟ تبدو المسألة غامضة وهي تحاول أن تأخذ بعداً واقعيّاً مشتبهاً بالذاكرة المستندة إلى أشيائها المتعفّنة.

أفكّر على نحو جادٍّ جدّاً بتغيير الذاكرة وتنظيفها من كلّ ما تعلّق بها من عفن الصوف البارد الناتج عن أشكال الثلج المندوفة عشوائيّاً في الطريق الطويل بين نقطتين في مسافة ملتوية، وأفكّر جدّيّاً بتغيير الجمل الصائبة القصيرة إلى جمل طويلة خاطئة خالية تماماً من علامات المرور بين خلاياها المتصالبة، فالشتاء الثالج بياضاً أسود الذاكرة لا يمنحني فرصة لجعل علامة الترقيم مناسبة بين الكلمات. سيلومني كثيراً الحُذّاقُ من النصوصيّين البارعين الذين سيعتبرون هذا النصّ كثيفاً في برودته الجافّة الممتنعة عن اختيارات المتعدّد من شيء واحد فقط يأبى التعدّد مطلقاً.

لا حاجة إذن لشيءٍ إضافيٍّ في هذا الصقيع، لأنّه وببساطة شديدة، الذاكرة الصاخبة متعفّنة تلوذ بخيوط غير واقعيّة من شكل الصوف الثلجيّ المستند إلى جدار بدا يتهاوى سريعاً أسرع ممّا هو متوقّع في واقع الأمر. الأمر هنا لا يتعلق بوجود البديل المتهمّ حضوره في الذات المتكوّرة، إنّما لانعدام النسقيّة المعهودة في شتائيّات سابقة جعلت الذاكرة معنىً إضافيّاً لا وجود له.

(6)

الحرّيّة كلّ الحرّيّة لكِ أيّتها الأنا. إنّه ظرف مناسب أن أشعر بما أشعر به الآن. رغماً عن هذا الحصار الفيزيقيّ المريح بين جدران غرفة متواضعة الدفء، إلّا أنّه ليس لأحد فيها شريك،  حتّى ظلّي طردته خارجها، كمثل هذا النصّ- تماماً- الحُرّ والمتحرّر من حمل أيّ رسالة خاصّة أو عامّة. سعيد جدّاً إذ أصبحتُ حرّاً كيوم تعلّمت لغتي السذاجة لأوّل مرّة. ولأوّل مرّة كذلك فإنّني أكتب نصّاً مجانيّاً دون أن أكونَ معنيّاً بأحد، فليس فيه رسائل، إنّما محض سرد لا أكثر، فلن يزعج أحداً هذه المرّة، ولأوّل مرّة في حياة الكتابة.

أعلن الآن وجوديّتي الكاملة، إذ لا علاقة بآخرَ فيها، ولا يقف على أهداب عيني أيُّ طيف، ولا يتسلّل إلى  أفكاري الذاتيّة أيّ شبح، فأنا الآن حرّ طليق ولغتي حرّة، وفكرتي أيضاً متحرّرة، لا قيود لها تشدها نحو وجع رحلة الشتاء والصيف التي أوشكت أن تنال من كرامة الوجود الشيء الكثير. ربّما عليّ أنْ أعترف أنني تثلّمت قليلاً، وخسرت شيئاً من ألق الكرامة، ولحاء ساقٍ تداركتُه قبل أن يُسلخ، فأعدو شبحاً عديم الوجود سجيناً في مطلق الغبار الذي حاصرني طويلاً. أدرك على نحو قاطع أنّ الجمل السابقة ليس لها معنى، فهي مجّانيّة بالمطلق.

أعترف الآن أنّني حرّ من الكذب، حرّ من أن تكذب عليّ أيّ امرأة، وهي مدفوعة بأن تبرّر أفعالاً، هي ليست بحاجة إلى تبريرها مطلقاً، إذ لم تعد تعني لي شيئاً؛ الأفعال بطبيعة الحال، أعترف الآن أنّها كانت تكذب، وتكذب كثيراً، وأنا أعرف أنّها تعرف أنّني أعرف أنّها كانت تكذب. أوشكت أن أستعين بشكسبير فأعيد ما قاله يوماً عن الكذب في إحدى (سوناتاته)، لكنْ لا حاجة لأسجن نفسي في نصٍّ وشخصٍ ولغةٍ ومعانٍ أجنبيّة. يكفيني ما أنا فيه، فقد زاد وفاض وأتخم اللغة ذاتها.

سيكون هذا الشتاء جميلاً وحرّاً، وأنا أغنّي للحرّيّة. إنّه لمن اللائق أنْ أكرم هذا الشتاء الفائر بالأفكار الطازجة، لكنْ دون أن يدّعي أحد أنّ الفضل يعود إليه، فيعاود سجني من جديد في أوهام تعيد الغباش في الرؤية الواضحة، كمطلق هذا المدى وأنا أتنفّس نفسي الخارجة إلى رحيب الروح لتغرّد للجمال المطلق أينما حلّ بعيداً عن المراوغة والكذب ومواربة الأبواب الدالف منها الريح. أغلقتها كلّها، فقد مللت صريرها في مسامات جلدي.

(7)

ماذا يعني أنّ حذائي كان متّسخاً ومقشّراً؟ هل خطواتي التي مشيتها كانت خاطئة؟ نظرت إليه متحسّراً فما زال في الواقع جديداً لامعاً. ربّما هو الحلم الذي يسبق كلّ توقّع حقيقيّ. اليوم على عكس ما كنت أتوقّع حلمتُ بامرأة جميلة، لم يكن الحلم طويلاً أو شهوانيّاً، وإنّما فقط مررت بها وأنا أريد اجتياز الطريق. إلى أين كنت سأذهب؟ لا أدري.

لن أستبق نفسي لأجري بين خطوتين متعثّرتين في حلم قصير. سأتابع فقط ما سيسفر عنه الصامتان الأبلغان، الحلم والشتاء.

صباحاً، وقبل الذهاب إلى العمل، وقفتُ أمام ذلك المشهد. تذكّرت الصورة في الحلم، انتعلت الحذاء وتابعت اليوم، ولست أدري ماذا سيكون.

(8)

المكان بارد هذا الصباح، أسمع صوتها من بعيد يتردّد في غرفة مجاورة، لم يمض وقت طويل لتزورني، تقول: “صباح الخير”. لهاتين الكلمتين فيزيائيّة خاصّة عندما تنطق بهما، لا يستطيع أحد مهما أوتي من مهارة التقليد أن يعيد العبارة بالدقّة نفسها، وبالطريقة نفسها، وبالإيقاع نفسه. أتت باسمة، بل كلّها يضحك من أسفل أسفلها حتّى أعالي رأسها. تخيّلت أنّ الفضاء الذي يقف فوق رأسها، وهو يسير معها كظلّها، يضيء لها الطريق وهو يبتسم. ظلّها أيضاً كان مضاءً بضوء واضح وهو يواكبها لا يريد أن يبتعد عنها.

انتصبت أمامي بكاملها الشهيّ. شعرت بطرواة جسمها، تقف مقابلة لي، تتحرّك أحياناً شمالاً وجنوباً. تبدو حركتها صلبة، تهزّ الأرض من تحت أقدامها. تعود إلى الاعتدال، يفصلني عنها مسافة الطاولة الخشبيّة، تسرد حكاياتها بشهوة كبيرة، وتجري معها اللغة بعذوبة لا تضاهى، يكاد الوقت يتبخّر بسرعة وهي تتحدّث. تجري ويجري كلّ شيءٍ معها، وأنفاسي أصبحت تجري، تحاول أن ترصد إيقاع أنفاسها التي تجري كنهر متدفّق.

يأخذها الحديث لتضع طرف ردفها الأيمن على جانب الطاولة، هي امرأة مكتنزة، عذبة، وحارّة، وحادّة، ولكنّها تعرف أنّها تؤثّر فيما حولها، تحبّ أن تعرف ذلك. كنت أتجرّأ أحياناً وأثني على جمالها وجاذبيّتها. كانت تضحك بمكر خفيّ. أسكت ولا أستطيع أن أتابع. لا تدري ربّما في لحظة قد تتحوّل إلى لبؤة أو نَمِرٍ. كنت دائماً حريصاً على ألّا أفقد هذا الخيط الذي يربطني بها، ولو كان واهياً، والعلاقة هشّة.

في هذا الصباح الشتائيّ البارد في أوائل آذار، صار لحضورها معنىً خاصّاً، تأمّلتها بخفوت بصريّ حتّى لا تلاحظني وأنا أنظر إليها خلسة، فأتأمّل ردفيها المعجزتين، بعجيزتها الشاسعة، ومتنها الصلب، وصدرها الممتدّ المنتصب، تقف على رجلين ممتلئتين، يبدو طرفهما من تحت فتحة البنطال، لحمها الأسمر الصلب، الناعم النظيف، يبدو ويختفي تبعاً لحركتها في الغرفة. إنّها تبدو أكثر شهوة مما كنتُ أظنّ، يتّضح بشكل بارز مؤثّر من تحت البنطال، ومن تحت طرف الكنزة القطنيّة القصيرة “شيئها”. إنّها ليست المرّة الأولى التي تأخذني إلى هذه المنطقة الحسّاسة من جسمها، لكنّه بدا هذا اليوم أكبر ممّا كنتُ ألاحظه سابقاً، حدوده واضحة، شقّه الأوسط واضح أيضاً، كلّما مشت وتحرّكت ببطء قام القماش ونعومته بتسهيل مهمّة إظهاره. لا أدري إن لاحظت هي أنّ ذاك الشيء كان واضحاً، حاولت ألّا أفقد أعصابي أو أتلعثم خلال الحديث، وأن أحافظ على رباطة جأشي. فليس من المعقول أن يتحوّل الأمر إلى مهرجان من الارتباك والشهوة في مثل ذلك المكان، وفي مثل ذلك الوقت من اليوم.

للحظة، اشتبك فيها النظر مع نظرتها، ورأتني أنظر ببلاهة، تمدّ يدها بسلاسة ناعمة ورويداً رويداً تشدّ طرف الكنزة إلى الأسفل. تسير خطوتين في العرفة، يخضرّ لون وجهها الأسمر الشبابيّ النضِر، تبدو ملامحها الآن صعبة وصلبة. تغادرني، وتصمت طوال اليوم ولم يبق معي غير برد آذار وصورتها التي أبت أن تزول، حاولت أن أمحوها بكل ما أوتيت من قدرة على الانشغال بغيرها والتخيّل ولكن دون أن أشعر بالسكينة المطلوبة. لا بدّ لها من أن تظلّ هنا في صلب رأسي تدقّ كجرس الإنذار، وتجبرني على الهدوء رغماً عنّي. فكم كنت أشتهيها ولكن دونها الحياة والبردُ وكثيرُ من الدم.

(9)

أفكّر ماذا تفعل في غرفتها، هي الآن وحدها، تغلق عليها الباب بالمفتاح، هل انفجرت بالبكاء أم انفجرت بالضحك أم لعلّها انفجرت غضباً فشتمتني ووصفتني بشتّى الأوصاف القذرة التي أستحقّها؟

كنت ألاحظ أنّ لديها مرآة كبيرة، عدا ما يكون بحوزتها من عطور وإكسسورات نسائيّة لامرأة مثلها تُرَفّهُ نفسها بأعلى قدرة ممكنة من الرفاهيّة. هل وقفتْ أمام المرآة لترى وتتفحّص ما كنتُ رأيت؟ ذكّرني هذا بامرأةٍ أخرى بعثت لي صورتها منذ سنوات وعندما نظرت إلى الصورة وجدت الشيء ذاته. بعد أن هدأ عنها الغضب المفتعل عادت إليّ وطلبت منّي الصورة ذاتها لعلّها ترى ما رأيت. هل تفكّر النساء كلهنّ بالطريقة ذاتها؟ هل تأمّلتْ جسمها؟ هل ضربت بلطفٍ عجيزتها غير مبالية؟ هل هزت بعنف صدرها فتأملت حركت نهديها فابتسمت؟ هل همست بعصبيّة خافتة: “معك حق، تنجنّ… والله إنّي بجنن”؟

أتمنّى لو كنت كائناً لا مرئيّاً؛ فأدخل عليها الغرفة لأرى ماذا تفعل في هذه الفترة العصيبة من ساعات الصباح البارد، أعتقد أنّ الأمر لن يمرّ بسهولة، كانت تناقشني وتفكر معي بصوت مسموع في أمور أقلّ أهمّيّة بل أشدّ تفاهة من هذا. أظنّ أنّها تحاول ضبط أعصابها حتّى لا تتحوّل إلى لبؤة تفترس ما حولها من كائنات. عندما تغضب لم تكن لتفرّق بين كائن بشريّ وآخرَ حجريّ، قريبٍ أو بعيد، صغيرٍ أو كبير، فالكلّ في تلك اللحظة متّهم، ومشترك بالجريمة، ومتآمر، ومدّع للمثاليّة، وحمائم سلام كاذبة. غضبها سيّئ على أيّ حال. تنقلب إلى امرأة “شريرة” و”شرسة”، تكاد لا تصدق أنّها هي نفسها التي كانت تقول بلطف ورقّة متناهية: “صباح الخير”. لتصبح اللغة كلّها ويلاً ونار جهنّم.

يا ليتها تهدأ، وتنسى الموقف كلّه. لا شكّ في أنّني بدوت سيّئاً جدّاً في هذا اليوم، وعكّرت صفو مزاجها وصفاء نفسها، وكفّ نهر حديثها عن الجريان، سكنت كماءٍ في قاع البئر بعد تلك الخضّة البائسة، أو سمكة تلاشت تحت الماء هاربة من مصير أسود يتلقّفها، أو حوريّة بحر اختفت عن الأنظار، أو ربّما مجرّد امرأة شعرت بالقرف من كلّ هذا الذي حصل معها، كلّ يوم وكلّ لحظة، ويحصل مع غيرها، بحضور الرجال المعاتيه أمثالي، “الرجال سيّئون على كلّ حال”. ربّما توصّلت إلى هذه النتيجة، واقتنعت أنّه لا ذنب لها فيما حدث، فهي جميلة وجذّابة ومسيطرة وكاسحة، وما حدث طبيعي. ربّما شعرت بالرضا بعد طول تفكير وتقليب للمسألة.

لكنّ الأهمّ من كلّ ذلك هل ستسامحني وتغفر لي تهوّر نظراتي وتخيلاتي المريضة؟ والأهمّ من كلّ هذا السؤال، وذاك السرد، وهذه القصّة: هل سأراها مرّة أخرى بهذه الكيفيّة، فأعيد سرد القصّة من جديد؟

الصيف قادم والأيّام حبلى، والنساء جميلات، والرجال- كما كانت تقول جدّتي في حكاياتها الشتائيّة- يطيشون على شبر ماء، وعلى صورة في إطار، وعلى “شيء” يغفو بسلام هناك، أو ربّما هو متحفّز للثورة والالتحام إذا ما صارت الفرصة مواتية.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *