“السلفي” بين الفن والعلم في كتابات عمار علي حسن

( ثقافات )

 د. عهدي محمود عبد اللطيف

1 ـ عينان

فرصة قد لا تُتاح كثيراً.. ففي عام واحد، وبفارق أشهر، يظهر للدكتور عمار علي حسن كتابان: أولهما -صدوراً- تحت عنوان “التيار السلفي.. الخطاب والممارسة”، وهو دراسة علمية ثرية، على إيجازها، حول الظاهرة السلفية وجذورها ومنطلقاتها وواقعها ومستقبلها، والثاني رواية تحمل عنوان “السلفي”؛ ساطعاً –هكذا- ومُفرداً.

فرصة، دون شك، أن نراه نحن وهو يرى بعينين معاً: باحثاً، ومبدعاً.. يستحضر عقله الحاد مرة، ووجدانه وقلبه مرة.. أدواته التحليلية هنا، وكشوفاته الباطنية هناك.

وفق منطقٍ وجيهٍ، فإن اتفاقاً/انسجاماً/ تقارباً بين الرؤيتين من لوازم الأشياء وحتمياتها.. هو الشخص ذاته في نهاية الأمر من يرى..

د. عهدي محمود
د. عهدي محمود عبداللطيف

لا لمنطق مثل هذا هنا، بل قطيعة شبه كاملة.. تنافر يكاد يكون تاماً بين أفكار الدراسة العلمية، وما يمكن استخلاصه من محتوى للرواية المضطرمة مشاعرَ وأحداثاً.

عين الباحث تنظر بكثير من التفاؤل إلى مستقبل تيارات السلفية المتنوعة، تنطوي قراءته للغد على ما يوشك أن يكون تقليماً للأشواك الحادة لساكني كهوف التاريخ وسطور كتبه العتيقة. يستخدم في وسط نصه التالي تعبير “لا شك”.. نعم “لا شك”.. يقول:

“إن التعرض لدراسات وتقارير وكتابات حول المشكلات المعاصرة يفكك مع مرور الوقت التصورات المنهجية الجامدة في أذهان السلفيين.. فالدراسات الحديثة مبنية على مناهج علمية جديدة هي بنت عصرنا، ولا شك في أنها ستتسرَّب رويداً رويداً إلى عقول النخبة السياسية السلفية، وتجعلهم قادرين، ولو بعد مدة، على أن يضعوا المقولات القديمة محل مساءلة ومراجعة”.

عين المبدع لا ترى إلا ظلمة تصفر فيها أرواح الشياطين.. جحيماً للنفس والروح.. خراباً ودماءً وتشويهاً لكل معنى إنساني سامٍ.. شهوانية وطمعاً ومخازي وقصوراً عن الفهم تتنوع أشكاله ودواعيه.. “لا شك” هذه المرة أكثر يقيناً. هكذا تقول الرواية:

  • .. ليس في رأسك سوى وهم الكتب الصفراء، وليس في مخيلتك سوى صورة شيخك وأميرك الذي تمتلئ يداه بالقنابل والدم. (العتبة الأولى)

  • .. شيخك الذي يمتلك أربع فيلات فاخرة متجاورة، يضع في كل واحدة زوجة، ويجلس بينهن، وذهنه غير مشغول إلا بالوصفات الطبية التي تمكنه من إشباعهن. (العتبة الثانية)

  • .. وتلطخت يداك بدماء الأبرياء، ولم تقف برهة لتلتقط أنفاسك، أو تراجع نفسك. (العتبة الثانية)

  • هكذا كانت تحلم أم حسن أيضاً حتى وجدوها ميتة وهي ممسكة بصورة قديمة له، مع أنه نهرها قبل رحيله بأيام، وهي العجوز الضامرة، حين وجدها جالسة أمام البيت كاشفة شعرها.. يومها صرخ فيها: ادخلي الله يلعنك. ولامه الناس وقرّعوه، فملأ عينيه بالغضب، وشد لحيته بأظافره، وأشاح بيده: لو عرفتم شرع الله يا كفرة لفهمتم ما فعلت. (العتبة الثانية عشرة)

2 ـ عتبات

إحدى وعشرون عتبة. هذا هو البناء الذي اختاره الروائي لعمله. عتبات بما هي مدخل إلى بيوت، وللبيوت هي الأخرى حضورها.. الرواية رحلة في الدور المسكونة بالمعاني. معانٍ يسعى بطل الرواية وراويها إلى استنطاقها.. فلربما كشفت الطريق أمام ابن راحل زماناً ومكاناً.. يخاتل الحضور والغياب.. يطل صامتاً –على الأغلب- على حدٍّ بين الروح والجسد.. الموت والحياة.. الحقيقة والوهم.

إحدى وعشرون عتبة.. إحدى وعشرون شخصية تتنفس في فضاء الذاكرة والذكرى.. تولد وتنمو وتحب وتكره وتتسامى وتتهاوى وتضل وترشد وتسلك طرقاً شتى وتلاقي موتها في أركان المعمورة.. لتكتمل الحكاية. لتكتمل اللعبة.. لعبة بدأها الراوي نفسه حين تلقى نبوءة مبكرة حول عتبات غامضة.. فصنع جدوله الأبدي من خانتين فقط.. عتبة مغلفة بالرموز والأسرار.. وقبالتها – حين تنكشف السُّتُر- اسم لإنسان.. وسيرة تضيء جزءاً من عتمة المشهد.

إحدى وعشرون عتبة.. يمكن لنا أن نراها عبر العمل الروائي عتبات أفقية تلتف حول ذاتها، لتعود من حيث بدأت.. هي غواية الدائرة .. في المكان الذي تبدأ منه الحكاية إبحارها ترسو.. ربما لتُبحر من جديد.. في تواصل لا نهائي.

هي عتبات صاعدة كذلك، وفقاً لأحد معانيها المعجمية (وعَتَبُ الدَّرَجِ: مَراقِـيها إِذا كانت من خَشَب؛ وكلُّ مِرْقاةٍ منها عَتَبةٌ- لسان العرب) صعود يمنح الرؤية اتساعاً.. بصر يحتاج إلى البصيرة ليدرك.. ويد حانية تمسك بيد لتعلو بها.. درجةً وراء درجة.. وجهاً يتلوه وجه.. تتوسل بالحكاية رُقيةً للنفس التي أثقلتها ظلمتها.. إحياءً للنهر المطمور في غياهب الماضي صافياً رقراقاً..

عتباتٌ، كالعتبات، ليست الغاية.. بل الطريق. عتباتٌ تكون كذلك بما وراءها لا بذاتها. فعل اجتياز العتبة ليس كل شيء، بل التجوال في الدور الرحيبة، وإن ضاقت مساحةً. عتبات، ربما لأن الرسالة من ورائها هي أن: “الغائب في الرواية هو المعنيّ.. الغائب هو ما يلي اجتياز العتبات.. هو ما ينبت في النفوس من معنى.. هو التفاعل/الجدل الذي لا ينتهي مع ناسها سيرة ومصيراً”..

إحدى وعشرون عتبة، هي في حقيقتها كل متحد.. يسعى بعضها إلى بعض في وجد، إلى أن تلتئم أوصالها، في لحظة للتجلي والاكتمال.

3 ـ وعي

“كانوا يتحدثون عن أمر في رحم الغيب عن إنسان سيولد في زمن لاحق، ربما بعد ما يودع أغلبهم الدنيا، لكنهم تخيلوه، ثم ألقوه على جسدي وأنا أدب أمامهم في شوارع التراب. وطالني الوعي على هذه الحالة، فأدركت منذ سنوات بعيدة أنني أنت، وأنك أنا”. (العتبة الأولى)

“وطالني الوعي وأنا على هذه الحالة”، هكذا يقول الراوي. طاله الوعي وهو مسكون بالنبوءة، طاله الوعي وهو واعٍ بها ولها. لذا كان قادراً أكثر على الرؤية، وعلى أن ينقلها بكل هذا الوضوح.

في الدراسات النفسية، الوعي هو: “الإدراك الذاتي الشعوري، الذي تنبثق عنه المنطقية والحكمة أو العقلانية والقدرة على تقدير الأمور المختلفة بمعطيات الواقع”.. هو: “القدرة على الإدراك الحسي للعلاقة بين الكيان الشخصي والمحيط الطبيعي للإنسان”.

والرواية، كاملة، هي صناعة للوعي.. هي مرافعة وجدانية مطولة (الراوي محام) تتلهف إلى بناء ذلك الإدراك الذي تنبثق عنه الحكمة والمنطقية، وتجد ضالتها وعمادها في الإنسان، ذروة الخلق الإلهي التي نعلم.. يقطع تدفقها ونسيجها الرائق حيناً حجاج عقلي، لكن الراوي لا يلبث أن يعود إلى النبع الصافي الذي قصده باكراً: الإنسان، برهانه الأكثر بلاغة وجلاءً.

وعي الراوي، هو سلاحه مقابل وعي آخر، شائه، ناقص، مع أن الراوي يستخدم في حديثه عن ابنه الضائع التعبير نفسه الذي استخدمه حين حديثه عن نفسه بعد بضع صفحات من روايته:

“تعال لنبدأ من أول القرية. من نقطة انطلاق حكايتي التي سردتها عليك في أمسيات طويلة بعد أن طالك الوعي، لكنك لم تسمعها مني أبداً”. (العتبة الأولى)

وعي الأب الراوي أنضجته الحكاية، فيما اعتاش الوعي الزائف للابن على غيابها عن زمنها الملائم. ومحاولة استعادته هنا تتم من خلال استعادة العالم الأول بتفاصيله كلها، كثيفاً، ساخناً، مغسولاً بالشجن، كما يقول الشيخ إسماعيل أحد وجوه الرواية.

“طالك الوعي”.ـ مرة ثالثة يتكرر الصوت في الرواية، لكنه ليس كسابقيه. الجَدُّ هو من ينطق هذه المرة. هو وعي آخر، يستوعب الكون، ويحتويه، في رجوع إلى الثراء المعجمي للكلمة. وهل يستوعب الكون ويحتويه غير العشق؟

“.. حقا يا جدي، العشق لغة ينطق بها كل الناس على سطح الأرض. ففتح عينيه دهشة، وبدت على ملامحه حيرة حيال هذا الولد الملقى جانبه، وقال: طالك الوعي بدري يا ابن بنتي”. (العتبة الحادية عشرة)

4 ـ موت

رواية عن الحياة ليس لها إلا أن تحتفي بالموت. ينشر الموت مظلة غامضة تضرب إلى السواد- وإنْ شفافة جداً- فوق أحداث الرواية، لا تخفي ولا تُظهر مصير المقصود بالبوح والشكوى.. ذلك الذي لا اسم له وللآخرين أسماؤهم.. وإلى لحظتها الأخيرة تُبقي الحكاية السؤال معلقاً.

الموت في الرواية حكاية للعدل البسيط.. محصلة أخلاقية أكثر منها فنية.. حُكمٌ يصدر بالرحمة أو باللعنة.. في أغلب الأحيان لا يستنفر الدهشة.

الموت في إطلالته الأولى من الحكاية مقترن بالميلاد.. رحلت قارئة النبوءة المعلقة فوق رأس الراوي يوم ميلاد صاحبها.. ابنه. كأنها كانت رسالتها التي قدمت من أجلها إلى الحياة.. لم تبح بأسرار عن سواه حين سألتها نساء القرية:

“ذهبن إليها كي تقول لهن شيئًا عن مستقبل أولادهن، لكنها أبت، وقالت: لا أعرف إلا عن هذا الولد، ووضعت يدها على رأسي”. (العتبة الأولى)

هو موت اختار وقته، كما يليق بالسيدة التي انكشفت لها ذات مرة الحجب عن فصول من سيرة العذاب..

يموت ناس الرواية كما حيوا.. تماماً. سليم، الفلاح الذي انتصرت إنسانيته على ضعفها العابر.. الذي نسج من صدقه وحده صلته بخالقه.. من إيمان صافٍ تغتسل به نفسه كل لحظة.. من دموع تفيض بها روحه وعيناه.. الذي عاش يقدس الأرض.. يكسوها خضرة ندية لا يموت بعد اكتمال معرفته إلا بجلال يليق به:

“بعد أسابيع قليلة مات وهو واقف على فأسه والماء يجري تحت قدميه”. (العتبة الثانية).

منحوتة لا ينقصها ظل من ألوهية لرجل “بعمامة كبيرة وجسد عريض”، تجري الأنهار من تحته، تمتد سيرة السقيا من بعده أجيالاً..

الشهواني العاجز، الذي يزرع في نسله سيرة الخزي، ليس له أن يموت، ككل الذين تدب أقدامهم في دروب القرية، مثلما عاش..

 “.. جالسًا أمام البيت على كرسيه، ومرت “روزالين” من أمامه فدفس عينيه في ردفيها المتأرجحين، وراح يتلمظ، ويلوي عنقه وراءها وهي تميل نحو بيت قريب، حتى سقط من على كرسيه المتداعي فوق حجر ضخم كان يستقر إلى جانبه منذ سنين. طررراخخخخخ .. هكذا سمعت زوجته صوت سقوطه، فهرعت إليه، لتجده فاقد الوعي، فمه مفتوح يدفع رغاء يختلط ببياض الحجر، وعيناه منبلجتان”. (العتبة الثانية عشرة).

الموت يسعى في الرواية.. الجنازات بعمق وجودها على ضفاف النيل، وأقدام الساعين إلى المقابر منذ عصور سحيقة سجلتها الكتب والجدران.. والجسد المقدس يصبح غيابه، حتى مع رحيل الروح، ضرباً من اللعنة التي كتبت على الآثمين.. هو الجسد الذي أنتج التوق إلى حفظه سليماً من التلف معجزات العلم قبل آلاف السنين:

“.. ضرب صاروخ أمريكي شاحتنه فتفحمت تماماً.

– وأين دفنتم جثته؟

– لقى ربه، ولم يبق من جسده شيء”. (العتبة السادسة)

“ربما مات وحيداً على الصخور المدببة فأكلته النسور والضباع. ربما ذاب في حمم النار الزاعقة الحارقة، فتفحم وصار رمادًا تذروه الرياح”. (العتبة الثانية عشرة)

الموت ليس مؤلماً كثيراً في أغلب حكايات الرواية المزدحمة به، يأتي كاكتمال جملة.. كانتهاء الدوائر المنداحة على سطه نهر ساكن سقط فيه حجر صغير.. كالصمت الذي يعقب تغريد العصافير في هدوء المساء.. الموت المؤلم في الرواية هو موت الحي.. هو الانكسارٌ الداخلي الذي يستعصي على الجبر:

  “وكان يقول لزوجته، وهي تحكي للناس: أنا مت ليلتها، والموجود معكم الآن مجرد مسخ”. (متولي شيخ الخفراء- العتبة الثامنة عشرة)

5 ـ أشجار

أشجارٌ تحف بقرية، هي أيضاً بلا اسم. أشجار تحمل معها سيرتها وتاريخها.. تظلل البيوت والقلوب والعابرين وتمنح الرحيق وتحتوي زفرات الألم والوجد الذائبة في المغيب. تتجسد المعاني الكبيرة أشجاراً. يتجسد الخير كسرات خبز وشجرتين. كان القيظ يلهب الأجسام المكدودة سفراً وانتظاراً، فزرعت السيدة شجرتيها. رحلت وبقيا يجددان المعنى كل صباح:

“فعادت ذات يوم من الحقل تحمل شجرتين صغيرتين من الصفصاف في قفة كبيرة، وكل منها تقف ثابتة بين قمع من الطين المتماسك. وضعتهما أمام الدار، وجاءت بالفأس، وحفرت حفرتين وغرستهما وروتهما بماء غزير، ولم تمض سوى سنة واحدة حتى كانت ظلالهما تغمران الرؤوس”. (مفيدة- العتبة الثالثة)

لشجرة التوت، جارة السواقي، حكايتها المديدة كذلك، تكاد تكون مرتبطة بصاحبها الذي آمن بالعدل والمساواة بين البشر، وعاش من أجلهما، وبشر بهما بين فلاحي قريته، لا متعالماً ولا متعالياً بثقافته وقراءاته.. بل قريباً من العقول قربه من القلوب.. يوزع الحب مثلما يوزع المعرفة بسيطة وصادقة. تحتضن شجرة التوت بيته، وتوزع مثله عذوبتها، أو أنهما معاً يصنعان أنشودة الحب تلك:

“كان يتسلق شجرة التوت، وقد ربط سلة إلى ذراعه اليسرى، يثبت قدميه في الأفرع، ويمد يديه ليحلب الثمار، التي احمرت حتى اسودت، أو يهزها لتتساقط على بساط عريض من القماش، يكون قد فرشه تحتها، وثبت أطرافه بالأحجار. وحين ينزل بالسلة مملوءة يكون مثل ما فيها قد تناثر ينتظر يديه لتجمعانه، فيأتي بسلة أخرى ويملأها، ثم يجلس على عتبات البيت قبل الغروب، وكلما مر طفل أمامه ناداه، وأعطاه حفنة توت”. (فكري- العتبة الخامسة عشرة)

خارج القرية هناك أشجار، لكنها لا تستوقف عين الراوي، ليست لها تلك الألفة للأشجار التي تحتضنها الدروب القديمة. الأشجار الغريبة لا ملامح لها ولا تفاصيل. في أفغانستان ينقل رفيق القتال رفيقه:

“وعبر بك من فوهة الخطر، من النار إلى الشجيرات النابتة في قلب الصخر”. (الابن- العتبة السابعة عشرة)

وحتى في القاهرة، وفي جامعتها الأليفة، تبقى الأشجار بلا ملامح:

“ورحنا نمشي في هدوء وظل القبة النحاسية الضخمة يهدهد رأسينا، وعيوننا تمتلئ بصفوف النباتات الواقفة لتحرس الممشى الهادئ”. (الراوي- العتبة التاسعة عشرة)

في القرية كل الأشجار قريبة، نعرفها وتعرفنا، كلها مما يستطيع الفلاحون نطقه بفصاحة: الجميزة الوارفة بثمرها المبذول للجميع، وشواشي النخيل التي تحتضن الأفق والغروب، وفرع الصبار الذي تغرسه يد محبة فوق قبر، وشجر الكافور المممدود المحلق في السماء، وعيدان القصب التي تحتضن الرزق واللصوص، وأغصان الجوافة الجافة تمنح طيبها لبراد الشاي المغلي على مهل، وشجرة النبق أمام المسجد التي قُطعت ذات غضب وبقيت في الذاكرة، وأزهار ذقن الباشا تدور بها الريح، ويتمنى الراوي أن ينام تحت تراب تتشاجر تحته الزهيرات الناعمة.

هي أشجار الوطن.. أشجار هي الوطن.

6 ـ كتب

ليس أخطر من الكتاب.. تنبث الكتب في صفحات الرواية كناسها.. خيراً وشراً.. غفراناً وذنباً. تنير القلب حيناً وتخترقه بنصل صدئ حيناً. ربما كانت هي الأصل وراء الحكاية بأسرها، فبها أُخذ الفتي الغض، ليبدأ رحلة الدم، وليفتح الأب المكلوم نافذة الذكرى:

“حين طرقت بابك وجلست أمامك، أحدثك كما أحدثك الآن، اكتشفت أنهم اصطادوك، بهذه الكتب التي تراصت على مكتبك”. (العتبة التاسعة عشرة)

” الهمسات الخفية التي تنطوي عليها كتب وكتابات أغرقوا بها السوق، وكلام ردموا به المساجد التي كنت تتردد عليها، كانت أقوى عليك من كل الأيادي التي يمكن أن تدفعك بقوة إلى حيث أرادوا”. (العتبة السابعة عشرة)

مشهد السقوط الأخلاقي والانقياد لدناءة النفس التي لم تعرف من التدين إلا قشوره، كان في زاويته كتاب.. يقرأ فيه صاحبه قراءة بائسة مهتزة مثله فتزيد من استيلاء غرائزه على نفسه، وتضعه على عتبات رحلته إلى الموت:

“.. وهو جالس أمام البيت يتعتع في كتاب ذي جلدة خضراء متينة، معتمدًا فقط على ثماني سنوات من الدراسة جعلته قادرًا على “فك الخط”. فلما توغلت في البيت وغابت أغلق الكتاب، مطمئنا إلى نوم أمه المسنة العليلة، والتفت عن يمينه وعن يساره فلم يجد أحدا، فهرع نحو الباب الموارب، دخل وأغلقه”. (حسن- العتبة الثانية عشرة)

كتب.. كتب.. صفراء وخضراء.. مجلدات لا تستحق أن توصف إلا بجلدها المقوى.. كتب تبرر الموت والقتل.. تصطنع “معجزات” للمجاهدين المزعومين ولو غاب عنها العقل.. تبرر للفتى المسحوق مبايعة “البغل” عمدة لقريته.. تبرر الغدر لمن أعطوا أماناً ونقضوه غير مبالين إلا بكسب سريع توهموه.. كتب “تحتشد بكلمات مهجورة”..

كتب أخرى يعاديها الابن المغرر به وينعت مؤلفيها بالكفر، و يشترط لعودته إلى حضن أبيه الذي هجره أن تخرج من بيته، فتتلقفها الكراتين لتستقر في شقة قديمة مغلقة.

عناوين تنسرب في طرقات القرية: “معالم في الطريق”، و”المغني”، و”إحياء علوم الدين” و”مقدمة ابن خلدون”.. مخلوق قميء يزعم المعرفة فيلوك عناوين “صحيح البخاري” و”تفسير الأحلام” و”ألفية ابن مالك”.. مكتبة الرجل الذي حلم بأن يرعى الذئب مع الغنم تتجاور فيها كتب ماركس وماوتسي تونج وجيفارا و”الميثاق” وكتاب عن “أبي ذر الغفاري” ويتوسطها القرآن الكريم..

كتب.. تسير بنا الحكاية فنعرف أن الرجل الذي تبدلت حاله من جفاء وغطرسة وشره وسوء طبع إلى عدل وعطاء وحكمة، قد مر في رحلته هذه – ربما – فوق جسر من الكتب:

“.. حوله ماء مرشوش، وفي يده كتاب، وبعد أن كبرت عرفت أنه كان يشتري كتب دين وروايات ودوواين شعر وكتباً في السياسة من مكتبات البندر، فذات يوم أدخلني مخدومه عطا الله غرفة وسيعة، عليها أرفف تنام فوقها كتب مرصوصة بعناية، وقال لي: كتب البيه الله يرحمه”. (العمدة حيدر- العتبة الخامسة)

كتب.. وحجاج ممدود الحبال حول كتب الأدب والشعر والفلسفة والعلوم الإنسانية التي تجبر كسر العلم بجموده ونقصه الذي يجعل العقل قابلاً للاستلاب، ويسلمه طيعاً إلى من ينفذون من ثغراته ومن نقاط ضعفه.. ليستحيل أداة قتل أو ترساً فيها.

7 ـ حب

قليل من الحب.. وكثير من المحبة. محبة للكون وللأشياء تفيض بهاالحكايات، لكن التيمة الأصلية التي بنى عليها الإنسان حكاياته منذ كان.. حب رجل لامرأة او امرأة لرجل.. لن يصادفنا كثيراً. يمر الحب باهتاً.. لا يكاد يُتوقف لديه، لكن من يُنكرونه على كل حال هم من تميل بهم أنفسهم إلى التطرف والتعصب (عاطف- العتبة الثامنة).. وهو- الحب- يُحدث ثغرة تتسع شيئاً فشيئاً في جدار الكراهية والتعصب التي طالت عائلة الرجل الطيب بسبب بشرته السوداء.

“وأحبت بنت من عائلة “السماعنة” شابًا من عائلة أبو سعيد وكافح سنين، حتى رضوا به، في النهاية”. (أبو سعيد- العتبة السابعة)

إشارات باهتة أخرى إلى حب فاشل يفتح إلى تطرف القول والفعل باباً. المقدمات نفسها، والنتيجة نفسها يمر بها صديق الراوي في مقتبل عمرهما، وابنه.. تطابق قد لا تصدقه الحياة بثرائها الفاحش والباهر في فروق التفاصيل، بتململها من القاعدة التي تندرج تحتها الحالات في خانة واحدة:

“هذا الجريء سار في طريقك يا ولدي، لم ينضم إلى جماعة مثل أسعد، بل غزاه التزمُّت تدريجياً، بعد قصة حب فاشلة لزميلته في كلية الهندسة.. أرى في عينيك اهتماما أشد بحكاية هذا الشاب أكثر من كل الحكايات التي مضت. هل لأنك ضحية إخفاق عاطفي مثله؟.. وضعت على قلبك حجرا ضخما، وأبيت أن تبوح لي وأنا أبوك، وظننت أن كبرياءك سينجرح”. (عاطف- العتبة الثامنة)

قصة حب يتيمة، لقيت عناية الراوي، هي حكاية جده الذي وقف بينه وبين حبه اختلاف الدين، وبقي له منها مواويل الهيام:

“لا النشيد ولا الربابة فيها طبابة لمغرم صبابة”. (الجد- العتبة الحادية عشرة).

يبوح الجد لحفيده بأسرار شوقه الذي لم يفارقه، وقلبه الذي لا سلطان له عليه، فيما يمضي “مسار إجباري” بالحكاية إلى جانبها الأكثر صخباً.. المسلم والمسيحية.

8 ـ نساء

من العظمة والإيثار والعطاء خلقن.. هن الأجمل والأنبل. يصادفنا في دروب الحكاية من رجالها أوغاد ومراوغون وطامعون وأغبياء وقتلة وخونة وضالون ومضلون، أما نسوتها ففوق كل النقائص.

العقل السلفي الذي يخوض معه الراوي معركته أقرب ما يكون إلى احتقار المرأة وشيطنتها، واعتبارها أصلاً للشرور جميعها. هي كائن ناقص.. تؤهلها طبيعتها لاقتراف الرذيلة حالما وجدت إليها سبيلاً.. هي أدني عقلاً ومرتبة من الرجل.. “لحم على وضم”.. عورة، ومن ثم فليست أكثر من أداة وظيفتها إشباع الغريزة.. هذا التصور يحكم سلوك كثير من سلفيي الرواية، ليستحيل شبقاً وهوساً بالجنس لا راد له ولا رادع، ولا يعدم أحدهم وهو يتحرش بامرأة مسيحية أن يغمغم:

“حين تقوم دولتنا ستصبحين جاريتي. سأسبيك وستكونين ملك يميني”. (حسن- العتبة الثانية عشرة)

نساء الرواية يكسرن هذا التصور الممسوخ.. ينثرن الظل والحُب والخبز ويكتبن ملاحم الصبر والوفاء. هذه زارعة الصفصافتين التي مرت بنا من قبل:

“كانت هي سيدة ضامرة الوجه، تمشي في تؤدة خافضة الرأس، توزع ابتساماتها على كل من يراها. تستيقظ مبكراً، تحلب الجاموسة العجفاء، وتجمع روثها لتصنع أقراص الجلة التي تحمي بها الفرن كل شهر، وتخبز “البتاو”، ثم توزع نصفه على جيرانها. (مفيدة- العتبة الثالثة)

المرأة قادرة على أن تعلم الدروس الأهم في الحياة. راقصة الأفراح علمت الراوي درسه الذي ظل معه عن معنى العفة وصون السر، لينقله هو لابنه. (سنية- العتبة السادسة عشرة)

المرأة في الرواية هي اكتمال إنسانية الإنسان، تساميه فوق الألم.. مزيج الأمومة والحكمة:

“.. لم يسمع أحد من فمها يوما لفظًا جارحاً، وعملت في الحقل والبيت بهمة حفنة من الرجال، ولم تته على أي امرأة بجمالها أبداً. بل كانت تقول للنساء اللاتي يملأن عيونهن من وجهها الوردي الصبوح ويشهقن: خلقة الرب ونعمته، وعليها سيحاسبني”. (روزالين- العتبة الثانية عشرة)

وعلى الرغم من أن نسوة الرواية عمدن، أو عمد راوي سيرهن إلى أن يهشم عبرهن التصور الكريه للمرأة لدى الابن الذي قادته أزمة النفس والوعي إلى سلفية القتل والكراهية، فإنهن هنا لسن محض نموذج استدعته ضرورة الفن، بل نبْتٌ أصيلٌ للجذور التي عاد الراوي باحثاً عنها، وظلال نساء عرفتهن الطرقات والبيوت.. ينتمين إليها بقدر ما ينتمين إلى تماثيل مختار.. ثابتات الخطو.. مفرودات القامة مديداتها.. عفيَّات في وجه الريح.

9 ـ أولياء

“بعد أن مات رآه رجال كثيرون ونساء في أحلامهم، يرتدي جلباباً أبيض وعمامة خضراء، وجهه مضيء، وجسده فارع، وفي عينيه ألق وامتنان. كان يمشي وحده ويميط الأذى عن الطريق”. (أبو سعيد- العتبة السابعة)

روح صوفية عذبة تسري في الحكاية وناسها الطيبين. انفتاح المدى أمام النفس في مواجهة نفوس ضاقت وضيقت.. سماح وصفح وقلوب صفت وشفت يستحضرها الراوي  لتبدو إزاءها بشاعة الآخرين: “فم يلهج بالتسابيح وقلب مظلم” (الابن- العتبة الأولى).

الحكاية كلها أبصرت النور على جناح كشف روحي اختار صاحبته. بقلبها تعرف العالم، اتسع لها مكان جف بعد أن كان يفيض ماؤه، ففاض بالحب، وأثقلته ظلمته فاستنار باليقين. امرأة تئن تحت وطأة الضعف والمشيب، لكن قوة خفية تحيط بها فيهابها صاحب الصولجان.. لا خوارق تبهر العين.. بل هداية قلب عصي.. وإنقاذ مخلوق من سجن جبروته وسطوته الباطشة. حب يشمل كل كائنات الله ومخلوقاته ويمنحها السلام والرضا:

“كان من بيننا الذين ينتظرون كراماتها.. أن يطير النعش ويرفعنا إلى أعلى، أو يجري ونهرول خلفه، لكن شيئاً من هذا لم يحدث.. فقط مات الكلب يوم أن ماتت الشيخة. مشي وراء جنازتها صامتاً، لم ينبح قط، حتى حين استفزته كلاب القرى المجاورة، التي مر عليها النعش في تمهل مستقراً فوق أكتاف تتبادله”. (الشيخة زينب- العتبة الأولى)

أولياء لله، لا يغوصون في مجاهل التصورات وخبايا الرموز، ولا تحف بهم دعاوى العصمة والقداسة، بل يسيرون في الأرض، يمشون في مناكبها، يميطون الأذى عن الطريق، يبنون الدور ويفلحون الأرض، ويعلمون الناس معاني العدل والحرية، وينثرون تلاميذ ومحبين يغسلون أرواحهم في شجن المغيب.. أولياء لله أكبر كراماتهم هي الشعور بجوع الأطفال في ظلمة البيوت الفقيرة:

“.. ومضى في طريقه. ومشي المريدون وأبو سعيد ورجال من قريتنا خلفه. وصل إلى نهاية الشارع ثم انعطف يساراً إلى جانب الترعة، قبل أن تجف، حتى وصل إلى بيت أبو سريع. وضع الصينية على الأرض، وطرق الباب في أدب ووقف ينتظر. مر وقت غير قصير، ثم فتحت زوجة أبو سريع وهي تمد طرحتها فوق رأسها. فلما رأته أنار وجهها ببهجة،وهتفت: سيدنا جاء لنا بنفسه”. (الشيخ عمران- العتبة العاشرة)

أولياء الله الطيبون في كل زاوية وفي كل ركن في الحكاية، قلوب عامرة بالنور الذي تنكشف فيه بشاعة الذين أصابهم موات الكراهية.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *