“حيوات سحيقة”ليحيى القيسي.. تَوقٌ إلى عوالم الغيب!!

( ثقافات )

*مفلح العدوان

جرأة لدى الروائي الصديق يحيى القيسي تغلف اختياراته لموضوعات رواياته التي قرأتها وكانت آخرها رواية “حيوات سحيقة”، التي أهداني إياها في آخر زيارة له إلى الأردن قادما من مهجره في إنجلترا.

استمتعت بقراءة هذه الرواية، وبفضاءاتها التي تلمست فيها أبعادا معرفية تقاطعت مع شغفي بالمساحات التي تعاينها فصول وعناوين هذا العمل الإبداعي وهي الماورائيات، والغيبيات، وفكرة التقمص، وقفزات الروح عبر الأزمنة، من جسد إلى آخر، في متوالية تلظم موازين تلك الأرواح، وتبعدها عن فكرة البطالة والانتظار، بعد الموت، إلى أن يكون البعث، حيث لحظة النشور، والحساب بالثواب أو بالعقاب، في حالة قيامة جماعية عند نهاية الخليقة.

أعود في هذه المساحة من الكتابة حول “حيوات سحيقة” إلى بدايات مغامرة يحيى القيسي في كتابته للرواية، حيث روايته الأولى (باب الحيرة) عام 2006م، التي كتبها بعد أن نشر مجموعتين قصصيتين (الولوج في الزمن الماء 1990 ورغبات مشروخة 1996)، كان في تلك الرواية (الأولى) يرسم ملامح مشروعه الروائي وسماته التي تركز على المعرفة والبحث، ويتضح فيه وعيه ومخياله وزخم قراءاته بالماورائيات وحفره في أغوار الذات، إضافة إلى إفادته واستثماره لخبرته في الصحافة وكتابة السيناريو وانشغاله في البحث والدراسة في التصوف والأديان والروحانيات بشكل عام.يحيى القيسي

 آنذاك كتبت في مجلة عمان عن تلك الرواية الأولى للقيسي في زاويتي التي كان عنوانها (نقوش): (باب الحيرة، هي عتبة الولوج نحو أبواب كثيرة تتعدى هذا المسمى، وفيها ينهل كثيرا من تجربته الخاصة، ومن قراءاته المتعددة، ومن ولعه بالتاريخ والجغرافيا والتراث، فهو هنا يحشد مخزونا معرفيا، يعبر من خلاله عن توق عتيق لكتابة مختلفة.. يحسب لهذا العمل الإبداعي تجرؤه على التابو بثالوثه الخطر (السياسة والدين والجنس)، مع مقدرة على توظيف زخم من الموروث الصوفي، ومن المخطوطات العربية التي تجرأت على الولوج في ثيمة الجنس، بالإضافة إلى ما رسخ من كتابات فلسفية، ليعمل القيسي على هضم كل تلك السياقات في لغة خاصة به، ليعطي إضافة مسوغة للرواية التي لا بديل عن قراءتها، وتتبع تفاصيلها من عبارة الحلاج في البدء “من لم يفق على إشارتنا لم ترشده عبارتنا”).

عبارة الحلاج هذه، يستعيدها يحيى القيسي في روايته حيوات سحيقة (صفحة 140)، حين تتقمصه روح أحد تلاميذ الحلاج: (حين وعى نفسه من جديد أدرك أنه في زمن آخر ومكان مختلف وبشر جدد، وكأن آلاف السنوات قد انقضت. رأى أنه يجلس مع مجموعة من التلامذة أمام معلم يتلو عليهم من كتاب منسوخ في يده، أو يضعه جانبا أغلب الوقت، لينطلق لسانه بالبيان الفصيح، وهو يرفع عمامته البيضاء قليلا إلى أعلى جبهته كي يمسح العرق الذي رح ينز منها.. “صفحة 138”). هذه الروح الشفيفة والتوق لتلك العوالم الغيبية يشي بها الروائي القيسي أيضا في إهدائه: (إلى فرسان الأنوار العلوية في رحلتهم الأرضية). وإذن فهناك كثير من المعارف والأسرار والخبرات التي يريد كاتب الرواية أن يفصح عنها من خلال هذه القفزات لروح بطل الرواية، في تقمصاته المتعددة، وتلقفه لتلك الحيوات السحيقة.

بطل رواية (حيوات سحيقة) صالح وهو دليل سياحي ومثقف يتقن اللغة الإنجليزية ويتمتع بقدرة على التواصل بشكل سلس ومعرفة بالتاريخ القديم، وحضارة الأنباط تحديدا، يرافق فريق تصوير تلفزيوني بريطاني كدليل وباحث ومساعد، ليتتبع مع هذا الفريق المواقع التي مرّ عليها الرحالة السويسري بيركهارت عام 1812 في رحلته ومغامرته الى البتراء حين كانت تحت حكم العثمانيين، ويسكنها البدو، حيث دخلها بخدعة وكتب عنها وأكتشفها للعالم الغربي. أثناء مرافقة صالح للفريق التلفزيوني، وفي الدرب الوعر المؤدي إلى قبر هارون، حيث كان يتم تصوير الممثل الذي يجسد شخصية الرحالة بيركهارت وهو يحمل قربانا يريد أن يذبحه قريبا من المقام، وقد كان هذا القربان خدعته للبدو بعد أن انتحل شخصية مسلم من البانيا اسمه الشيخ إبراهيم، ولكن في لحظة الوقوف على المرتفع، وأثناء ما فريق التصوير منشغل بتجسيد لحظة ذبح القربان، يسقط صالح من حافة الجبل، ولكنه يقع في كهف هناك، ويختفي عن الفريق، ويقضي ليلة قبل أن يتم إنقاذه، ولكنه يجد في الكهف جرارا فخارية قديمة، يفتح واحدة منها فيجد فيها سائلا معتقا، يتذوقه، ثم يشرب كمية منه، فتأخذه غيبة تنقله إلى زمن آخر، وتبدأ رحلته بعد ذلك بين الصحو والغياب، بين اليقظة والترحال في عالم الأرواح.

  خيوط الرواية تتشعب، بعد هذا المفتتح بين الخاص والعام، واحد من هذه الخطوط مع فريق التصوير، وتنامي معرفة صالح بمخرج الفيلم “غاريت”، الذي عاد مرة أخرى من أجل فيلم آخر في البتراء أيضا، وكذلك علاقة الحب مع الممثلة “أليس” التي جسدت شخصية مارغريت النيوزلاندية التي كتبت كتاب “تزوجت بدويا”، هو موضوع الفيلم الثاني. وهناك خط آخر من خلال علاقته في العائلة والأسرة، حيث صديقه النمس الذي تحول الى متطرف إسلامي ورط أخاه مع في تنظيم إرهابي، وهناك خط آخر من خلال عمله في مركز للدراسات حول التعذيب والإرهاب في التاريخ الإسلامي، كلها تسير بخطوط متوازية مع قفزات روحه عبر أزمنة وتقمصات مختلفة يمر خلالها على القرامطة والمتصوفة والأنباط وعوالم متشعبة يستفيض في طرح كثير من الرؤى والتاريخ والمحطات المهمة في ماضي هذه المنطقة، والمحيط حولها.

هذه إطلالة أقدم فيها ومضة سريعة حول عوالم هذا العمل الروائي للصديق الروائي يحيى القيسي، والذي استمتعت فيه أثناء قراءتي له، وتوقفت عن كثير من صفحاته متأملا ومراجعا كثيرا من الأفكار التي يطرحها، والتي أتفق معه في جوانب منها.

* أديب أردني  

    

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *