بعض ما لم ينسه غسان عبدالخالق في سيرته

( ثقافات)

* سحر ملص

مازلت أتمنى وأصر على أن يدرس طلبة الجامعات والمدارس ضمن المنهاج، سيراً معاصرة لشخصيات تخطّت كل الصعاب، ودخلت معترك الحياة لتتبوأ أعلى المناصب وأرقاها، لتكون هذه الشخصيات قدوة في الحياة للشباب الحائر، الذي يجد نفسه محاصراً بظروف الحياة الصعبة، فيغرق في بحر الإحباط، وينكمش على ذاته مقنعاً نفسه أن كل الأبواب مغلقة، ولامخرج له. أقول ذلك بعدما أنهيت قراءة الجزء الثاني من سيرة الدكتور غسان عبد الخالق(بعض مانسيته)، وإذا كنت قد أصبت بالدهشة عندما قرأت الجزء الأول في السيرة، وهو يتحدث بشجاعة عن طفولته وشبابه وسط حياة الكدح والعمل، وقد ولد لأب كان يعمل في الجيش، وتسكن الأسرة في مدينة الزرقاء، لنجد هذا الشاب (غسان) يتخطى كل الظروف ويعمل بجد واجتهاد بعدد من الأعمال المشرفة التي ترفع من قيمة الإنسان كعمله في بيع الخضار، وعامل بناء، ثم تراه يلتحق بجامعة اليرموك ليبرز فيها كناشط ومثقف، ويظل متمسكاً بمبادئه وشغفه بالحياة، لينتهي الجزء الاول بتعرفه وزواجه من زميلته نبيلة التي درست مختبرات طبية وتحدي كلّ الصعاب، حيث ينتهي الجزء الأول من السيرة.

وقد ذكر في بداية كتابه الثاني (بعض ما اذكره) أنّني تشرفت باستضافته في منتدى الرواد الكبار مع نخبة من النقاد والمبدعين بتاربخ 10-12-2016 في ندوة نقدية للحديث عن كتابه الأول (بعض ما أذكره) وكانت ندوة مهمة… عميقة ورائعة وأصرّ الحضور من المثقفين على استكمال السيرة. لأجد ذاتي الآن أمام كتاب عميق وممتع لشخصية، ذكية فذة، وأسرة متماسكة تتحمل الصعاب وتصارع القدر رغم كل الظروف، إذ يبدأ الجزء الثاني باعتقاله وزوجته كل في مكان والضغط نفسياً على كل واحد منهما وتحريضه على الآخر، للايقاع بينهما، لكنّهما يصمدان ويفرج فيما بعد عنهما دون أن يتنازلا عن مبادئهما، وليجد كلّ واحد منهما مفصولاً من عمله ليبدءا رحلة البحث من جديد عن عمل، فيلتحق هو بدار الكرمل لصاحبها القاص خليل السواحري، واعترف بأنّه في اول اربعين صفحة من كتابه، قد أعادني للزمن الجميل للثقافة في الإردن ايام السواحري، ومؤنس الرزاز، ومحمود شقير، وزهير أبو شايب، ويوسف عبد العزيز والدكتور نبيل الشريف، وهنا يخلق عالمه مع الاوساط الثقافية في دار الكرمل، رغم اختلافه احيانا مع صاحب الدار لكنه يظل محباً وفيا له. وحين يلتحق كمجند في الجيش العربي لخدمة العلم، تبرز شخصيته المثالية الملتزمة، المثابرة، المنضبطة والمتعاونة، ليقضي أياماً صعبة مع رفاقه في القطرانة أثناء حرب الخليج الإولى، لينقل بعدها الى جيش التحرير ومن هناك يعود الى نافذة الأدب والثقافة من خلال مجلة الكرامة التابعة لجيش التحرير، وهنا نراه مثقفاً مبدعاً، لا بل إنّه أثناء خدمة العلم بدأ يكتب مجموعته القصصية الاولى “نقوش البياض”.

بعد انتهاء الخدمة العسكريه نراه حرا، لكن بلا عمل وأمامه أعباء بيت وزوجة، ليعود مجدداً للكتابة بالصحف والمجلات من جديد، لتأت الرياح بما لا تشتهي السفن، حي1ن تعين زوجته في مختبرات احدى المستشفيات بعجلون، وتقف الاسرة أمام تحدٍ آخر فتوافق الزوجة على العمل هناك، وتتفرق العائلة مع الابنة فلا لقاء إلا يومي الخميس والجمعة، حيث كلا منهما يعيش معاناته لوحده، ويخوض مؤتمرات وتحديات مع الرابطة التي تحدث عنها مطولاً ثم نجده يعيش حالة من القلق النفسي والعذاب الجسدي، ليلجأ الى بر الأمان والسكينة بعيداً عن الصراعات والجدليات والأيدولوجيات فيركن الى بر الايمان والتصوّف ضارباً عرض الحائط بثرثرة بعض المثقفين الذين لايجدون مكاناً للمؤمن أو المتديّن على منصة الإبداع. غسان ونبيلة زوجان رائعان، بالرغم من تيارات الحياة المتلاطمة وظروفها القاسية، تحديا الحياة وأنجبا بنتين، والتحق هو ببرنامج رسالة الدكتوراة، وقد كان لحضور القاص والمثقف أمين يوسف عودة المتصوف الرفيق بنفسه والآخرين الأثر في حياته، ليجد نفسه يعيد ترتيب زوابع النفس ويقود ذاته الى برّ الأمان. أما الكارثة فكانت عندما صدر قرار تعيينه مدرساً في إحدى مدارس النصر الحكومية حيث وجد التسيّب والإنفلات من قبل الأساتذة الذين يتركون المدرسة، ويذهبون لتحميل عرباتهم بالناس والبضائع لزيادة دخلهم، بينما يفرح الطلبة المشاغبين بطردهم من الصف، لشرب الشاي والتسكّع، وهنا نراه يقدم استقالته رغم حاجته للوظيفة، لكن صاحب الرسالة والمبادىء لابدّ للحياة أن تفتح له بوابتها يوماً، فنجده يلتحق بمدرسة “الرائد العربي” وسط انضباط إدارتها، وذكاء طلبتها، وحب مدرسيها للبذل والعطاء، فيتابع رسالة الدكتوراة ويحصل عليها بجدارة وامتياز رغم تشدّد بعض المشرفين، لنراه يعين استاذاً في جامعة فيلادلفيا، وقد عادت زوجته ونقلت الى مختبرات حكومية في عمان. أثناء امتحان الطلبة في الجامعة.

يقول الدكتور غسان صاحب المبادىء والرسالة السامية في التعليم والحياة :لقد بدوا لي بصفوفهم الثلاثة التي شكلوها مثل روافد تيار الحياة المتدفق، وبدوت لنفسي مثل شجرة ترقب تدفق هذه الروافد، بعدما طالها ما طالها من تعاقب الفصول، وضربات فؤوس الحطابين…. فتلمست كتفي وقدمي وآدركت أنني في أحسن أحوالي أفيض بالرضى وعما آلت إليه أحوالي أستاذاً جامعيا واثقا بنفسه وبرسالته.

تحية إجلال وتقدير للدكتور غسان وزوجته وأسرته، على هذه السيرة العطرة والشخصية الطموحة المكافحة التي تخطت كل العقبات.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *