ملحمة (مَــمُ و زَيـــــْن): من عيون الأدب الكردي

( ثقافات )

*الدكتور محمد علي الصويركي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

     صاغ أحداث هذه القصة شعراً، الشاعر الكردي الكبير أحمد خاني المتوفى عام 1706م، وهو واحد من علماء الأكراد الذين برعوا في علوم الفقه والفلسفة والتصوف والأدب. وكان من أبرز آثاره (ديوان شعر) باللغة الكردية دوَّن فيه أحداث هذه القصة. وقام بترجمة هذه الملحمة الى العربية الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، حيث تعرف القارئ على هذه الفاجعة التاريخية المعروفة باسم (مم و زين)، بعد أن كساها بُرداً من لغة السحر والبيان… وأن انفق في كتابتها من الدموع، قدر الذي استهلكته من المداد. وهنا لا بد أن نتعرف على احمد خاني مبدع هذه الملحمة، وما قصة هذه الملحمة التراجيدية.

     ولد الشاعر الخالد صاحب أروع ملحمة شعرية في الأدب الكردي احمد بن إلياس بن رستم الملقب بـ (خاني) في مدينة (بايزيد) الواقعة اليوم في كردستان تركيا عام1061هـ/ 1650م، وهنالك عدة آراء حول أصل نسبته، فمنهم من قال أنها أتته من اسم عشيرة ( خانيان) التي كانت تسكن منطقة جزيرة بوطان، ثم رحلت عنها واتجهت صوب الشمال إلى أن استقرت في أطراف مدينة بايزيد. ومن قال بأنها أتته من قرية (خاني) التي ولد بها والقريبة من مدينة (جوله ميرك) في منطقة ( هكاري) في كردستان.

    ترعرع هذا الشاعر في أحضان عائلة متوسطة الحال، وتعلم على أيدي خيرة من علماء عصره في مساجد مدينة بايزيد، حتى نال الإجازة منهم، وقد كانت تنقلاته محدودة اقتصرت على مناطق بوطان وهكاري في كردستان الشمالية، وفي رأي البعض أنه زار الآستانة وسوريا ومصر.

      ظهرت إمارات النظم وقريحة الشعر على خاني وهو في مقتبل عمره،  فقرض الشعر ولم يبلغ الرابعة عشر من عمره. لكنه خلد نفسه وجسد قمة مجده في ملحمته الشهيرة (مم وزين) التي يختلف الباحثون في تحديد تاريخ تدوينها، وربما باشر بنظمها في حدود عام 1665م، ويرجح أنه انتهى من نظمها في سن الرابعة والأربعين من عمره، بعد أن أخذت من عمره نحو ثلاثين عاماً.

    كما وضع لطلابه (قاموس كردي- عربي) منظوم شعراً تحت عنوان (نوبهار بجوكان)، وهو يعد أول قاموس كردي معروف حتى اليوم، وله أيضاً كتاب (عقيدة الإيمان)، ومجموعة من القصائد الغزلية والشعرية الأخرى، وقصيدة جمع فيها من اللغات الشرقية كالعربية والفارسية والتركية- بالإضافة إلى لغته الكردية التي تبقى مدينة له، وهو يبقى رمز قوة لها.

ملحمة ( مم و زين).

     تعتبر ملحمة (مم و زين) من أهم آثار أحمد خاني الشعرية. حيث شدت أفكار الملحمة وأسلوبها أنظار عدد كبير من النقاد والباحثين من كرد ومستشرقين وغيرهم. كما نالت اهتماماً محليا وعالمياً، وطبعت غير مرة في كردستان، ونقلها الشاعر الكردي (هزار) من اللهجة الكرمانجية إلي اللهجة المكرية شعراً. أما عالمياً فقد ترجمت إلى العديد من اللغات الشرقية والغربية كالعربية والتركية والأرمينية والفارسية،  وترجمت إلى الروسية من قبل المستشرق م .ب. رودينكو، وطبعت في موسكو عام 1962م. وترجمها الأديب الفرنسي روجيه لسكو في عام 1942م، وترجمت نثراً إلى العربية من قبل محمد سعيد البوطي، وطبعت في دمشق أكثر من ست مرات، وقد استلهم الشاعر السوري (بدوي الجبل) منها مسرحية شعرية بعنوان (مم وزين).

    تقع هذه الملحمة في ألفين وستمائة وواحد وستين بيتاً، وهي أندر درة في تاج الأدب الكردي، وأجمل آية في بلاغته، وأروع قصة في ثروته، وأبلغ درس من دروسه، فيحق لذلك الأدب أن يفتخر بها أبد الآبدين، فقد ارتقى بفضلها إلى صف أدب (مجنون ليلى) في العربية ، و(روميو وجوليت) الغربية، و(شيرين وخسرو) الفارسية وباقي ملاحم الشعوب الأخرى، وسوف تبقى سراجا ًساطعاً في ما أنتجه الفكر الإنساني من أدب عريق….

   أن درس مضمون (مم و زين) يعطي الباحث والناقد حق منح (احمد خاني) لقب أول مؤسس للمدرسة القومية الكردية، فهو أول شاعر ومثقف كردي حمل لواء القومية والوطنية في تاريخ شعبه الذي تمنى: “أن يكون الحظ حليفه”،  و”يصحو من غفلته ولو لمرة”،  حتى “يتلألأ نجمه في أعالي السماء”، فقد شخص كل إمكانات البناء والتقدم في أبناء شعبه الكردي، كما حدده بدقة عالم، وتفكير فيلسوف أسباب تخلفهم، ورسم لهم بقلم الأول، وبصيرة الثاني درب خلاصهم وانعتاقهم.

      قام الدكتور محمد رمضان البوطي بترجمة هذه القصة إلى العربية، وهي قصة الحب العفيف، والوفاء المخلص، والتضحية بالنفس، أنها قصة مشابهة لمجنون ليلى، وروميو وجوليت، مضمخة بجو الشرق، وسحره وأحلامه.

     تتألف هذه القصة من 25 فصلاً في (84  صفحة من القطع الصغير. وأول ما تلامس أعيننا لدى تصفحنا هذه القصة، كلمة الإهداء التي كتبها المترجم وقدمها إلى: “كل قلب كتب عليه أن يتجرع الحب علقماً، ولا يذوقه رحيقاً، وأن يحترق في ناره، ولا يقطف مرة من ثماره، أقدم هذه القصة عسى أن يجد فيها برداً من العزاء والسلوى”.

      أن قصة ( مم و زين)، تعد أعظم مأساة عاطفية في تاريخ الأدب الكردي، وهي واقعية من أول فصل إلى آخر فصل، ليس للخيال فيها شأن سوى إحياء ما أهمله التاريخ أو تساقط منه عند نقلها مما لا يقوى وحده على ضبطه وتصويره، وقد اتخذت مستقرها في قلب هذه الأمة، وفي أجمل بقعة من بقاعها تترجم كصورة حياتها، وتكشف عن مقدار ما أفاض الله في نفسها من عزة وشهامة، ووفاء ومراس وقوة، إلى جانب ما أودع فيها أيضاً من رقة عذبة متناهية، وعاطفة غريبة ملتهبة.

الجزيرة الخضراء.

     حدثت هذه القصة في حدود عام 1393م في جزيرة (بوطان) المعروفة اليوم باسم (جزيرة ابن عمر)، الواقعة على شاطئ نهر دجلة، وتمتد في اتساع شاسع بين الهضاب والتلال الخضر الواقعة في كردستان تركيا.

     واسم هذه الجزيرة يتألق في مقدمة ربوع كردستان التي يمتاز معظمها بقسط وافر من جمال الطبيعة وبهائها، إذ تتشعب بين رياض طبيعية بديعة، وينعكس إليها من سائر أطرافها بريق دجلة الذي يحف بمعظم جهاتها، كما يزيد من روعة جمالها جبالها الشاهقة المصوبة كالخناجر صوب السماء.

   دارت حوادث القصة في قصر أمير هذه الجزيرة المدعو (الأمير زين الدين)، حيث كانت بلاد الكرد إذ ذاك وما بعد ذلك العصر إلى أواسط العهد العثماني منقسمة إلى إمارات، يتولى إدارة كل منها أمير كردي يتمتع بالجدارة والقوة.

    لم يكن الأمير زين الدين ذا كفاءة عادية فحسب… بل كان يتمتع إلى ذلك بغنى واسع، وبمظهر كبير من القوة والسلطان، والغريب أنه لم يمنعه امتلاكه العجيب لقلوب رعيته، واكتسابه محبة سائر طبقات إمارته، مما أذاع اسمه مقروناً بالهيبة والإجلال لا في جزيرة بوطان وحدها بل في سائر كردستان وإماراتها.

     ولم يكن قصره الذي كان يرى من بعيد كأنه برج هائل، كقصور بقية الأمراء من أمثاله؛ وإنما كان آية من آيات الفن والإبداع… كان منتهياً إلى أقصى حد في البذخ المبذول لتصميمه وتشييده وإقامة أبهته..!

     وكان يزدان بمتاحف تضم مختلف العجائب والنوادر، وأنواع المجوهرات الغريبة الفاخرة! أما رحابه وشرفاته، فكانت تعج بمئات الغلمان، والجواري والفتيات الجميلات.. يجلن في أنحائه، ويضفين على رحابه جوا سحرياً يشع بالفتنة والجمال.

     غير أن الآية الكبرى للجمال في ذلك القصر لم تكن منبعثة عن أي واحدة من تلك الجواري والحسان، وإنما كانت سراً لدرتين غير كل ذلك، خلقهما الله في ذلك القصر، بل في تلك الجزيرة كلها مثلاً أعلى للجمال، ونموذجاً كاملاً للفتنة والسحر الإلهي في أسمى مظاهرهما. ولم تكن هاتان الشقيقتان سوى أختين للأمير زين الدين، كان اسم أكبرهما التي لا يتجاوز عمرها ربيع العشرين (ستي)، وكانت بين البياض الناصع والسمرة الفاتنة، وقد أفرغ الجمال في كل جارحة من جسمها على حدة، ثم أفرغ بمقدار ذلك كله على مجموع جسمها وشكلها، فعادت شيئاً أبرع من السحر، وأبلغ من الفتنة!

     وأما الصغرى واسمها (زين)، فقد كانت وحدها البرهان الدال على أن اليد الإلهية قادرة على خلق الجمال والفتنة في مظهر أبدع من أختها وأسمى! كانت هيفاء بضة، ذات قوام رفيع، قد ازدهر في بياضها الناصع حمرة اللهب، وذات عينين دعجاوين، أودعهما الله كآيات الفتك واللطف التي تتسامى على التعبير..

     وعلى الرغم من أن هاتين الغادتين كانتا لؤلؤتين محجوزتين في صدفة ذلك القصر عن معظم الأبصار، فقد كان اسماهما ذائعين منتشرين في سائر أطراف الجزيرة، بل وفي كثير من بلاد كردستان.. يتخذون من شهرتهما المقياس الأعلى والمثل الكامل للجمال!

    وقد كان من الغريب في الواقع أن تخلق تلك الفاتنتان في قصر أمير بوطان لتصبحا أجمل زهرتين تحبسان في رحابه عن الأنظار، لولا أن الشعب الكردي عامة، وأولي الزعامة فيهم غرست بطبيعتهم غيرة ملتهبة لا تكاد تفارق جوانحهم، مما يجعلهم يتحرجون من اختلاط الجنسين بمقدار.. هذا إلى أن شقيقهما الأمير كان قد أوتي مزيداً من هذه الغيرة بين جنبيه، وزادها اتقاداً ما كانت تتمتع به أختاه من ذلك الجمال النادر الذي أبى إلا أن يذيع اسميهما في الجزيرة كلها… ولذلك فقد كان من الصعب جداً أن يكون لعشاق ذلك القصر الكثيرين نصيب منه غير السماع.. وتسقط الأخبار..!

ملخص القصة.

     لا يمكننا التصدي في هذه العجالة لسرد القصة، ولكننا مع هذا نوجزها قدر الإمكان، ونترك للقارئ فرصة مطالعته المتأنية لها مستقبلاً…

     كان الوقت أصيلاً، والناس يودعون20 آذار- ليستقبلوا من ورائه ربيع سنة جديدة يقضون نهارهم فوق المهاد الوارفة الخضراء، وعلى ضفاف دجلة، وفي سفوح الجبال، وذلك جرياً وراء تلك العادة الشائعة في جميع أنحاء كردستان من الاحتفال بعيد- النوروز- في مثل ذلك اليوم بشروق الربيع، وابتسامه الجديد، حيث أرادت الفاتنة (زين) العثور على الرجل الذي لن يعجبها إلا إذا بلغ جماله في نفسها مبلغ فتنة هذه الطبيعة الحالمة وأثرها لديها..

     وأخذ الناس ينتشرون بين أجواء خمرية تتهادى على ضفاف النهر الفضي، وفوق أشجار العنب الخضر المطرزة بأبدع نقوش الزهور، وفوق سفوح (الجودي) الذي هو من بعض جبال جزيرة بوطان المفروشة بأبهى ديباجة من السندس المتألق.. حيث كانت الشقيقتان (ستي) و (زين) متنكرتين في لباس الرجال وهيأتهم، واندستا في صفوفهم في ظاهر الجزيرة، ولا شك أنهم يحسبونها من بعض شباب قصر الأمير زين الدين وغلمانه!

     وقد نجحتا في إخفاء نفسيهما عن الجميع، وأتاح لكل منهما أن تجد من مختلف شباب هذه الجزيرة الواسعة الأطرف من يروقها ويعجبها، وكانا هذين الشابين، هما: (تاج الدين)، و(مَمّ) العاملين في قصر أخيهما الأمير زين الدين…

    كانت تعيش في قصر الأمير زين الدين، مربية عجوز هرمة يقال لها (هيلانة)، غير أنها أقوى من الدهر ومكره، وقد شاء لها أن تجمع بين الأميرة (ستي)، ومعجبها (تاج الدين) أحد رجال ديوان الأمير دون صعاب أو مشاكل تذكر، وانتهى أمرهما بالزواج… بينما أخفقت هي ومعها الأقدار أن تمتن حبل الوصال بين الأميرة (زين) وسكرتير ديوان الأمير العاشق ( مَم)..

     ففي الوقت الذي كان (تاج الدين) والأميرة (ستي) منشغلين عن الدنيا وما فيها، وقد حقق حلمهما في الوصال، ويرقدان في مهد الأحلام، غذاؤهما شهد الوصال، وشرابهما كوثر الشفاه. كان العاشق (مم) وحبيبة قلبه المضطرب بالهوى والشباب الأميرة (زين) يعيشان آلم الفرقة والعذاب، ويتحملان هموم العذال والوشاة، ويتجرعان كؤوس الشقاء واليأس، وتأبى سنن الكون إلا أن تجري في قصتهما هذه، فتجمع بين عنصر الخير والشر، وتمزج فرحة السعادة بدموع البؤس، وعنصر الشر في هذه القصة هو حاجب ديوان الأمير الخاص المدعو (بكر)، فقد كانت لهذا الحاجب نفس تنطوي على أشد ألوان الخبث والمكر، وكأنما غذيت روحه بحب الفتنة، فهو يعشق الولوج فيها حيثما لاح له بابها. ولم يكن في مظهره إلا قصيراً أو دميماً فقط، بل كان إلى ذلك اجرد الشكل، باهت السحنة، ذا عينين تشعان بمزيج من الحقد والكراهية والحسد، وقد استطاع ( بكر) أن يجعل الأمير زين الدين يتشبث برأيه ويستبد قائلاً:” تأكدوا جميعاً انه قد يمكن أن تظل زين طيلة حياتها عزباء في هذا القصر، ولكن لا يمكن أبدا أن اجعلها يوماً من نصيب (مَم)، ولا داعي إلى أن تعرفوا سبباً لذلك أكثر من أنني هكذا أردت، ولا داعي أيضاً إلى أن تعيدوا بعد اليوم إلى مسمعي هذا الحديث إلا إذا رأيتم داعياً إلى إثارة شر أنتم في غنى عنه”.

      بعد مرور العديد من الأحداث البارزة، وانقضاء الشهور المتوالية. كانت حياة (زين) تمر في خلوات مع الأشباح والأطياف، وحديث مع الخيالات والأوهام يطوف كل ذلك بها، ثم يستقر في ذهنها وقلبها كل مشاعرها شيء واحد هو اسم محبوبها (مَم)، وهو حظها المنكوب الذي أبعدها عن أليف روحها، وأخرجها من أفراح الدنيا ونعيمها!

      أما العاشق (مم)، فقد كان يبكي حتى تقرحت عيناه، ولم يزل يتوجع ويتحرق حتى كادت أن تنطفئ جذوة حياته. ولم يزل تنهار منه القوى، وتخور فيه العزيمة، ويصفر منه الشكل، إلى أن طرحته الحُمى في مكان ما على شاطئ نهر دجلة، وحيداً إلا من بعض أصدقائه المخلصين الذين كانوا يعودونه، ويواسونه بين كل فترة وأخرى.

    لقد استطاع العاشقان (مم وزين) حيناً من الزمن أن يخفيا عن الناس قصة حبهما، وان  يحجبا عنهم جبروت السلطان الذي يتحكم في قلب كل منهما من غير رحمة، ولكن هذه المرحلة لم تدم لهما طويلاً، فسرعان ما هتك من حول قلبهما الستر، وانتشرت مدامعهما بين أبصار الناس، وراحت الألسن تتحدث عن حبهما وتتخذ من خبرهما لحناً يسري إلى كل مكان، وينتهي إلى سمع الأسياد والعبيد. وراحت التعليقات المتخيلة تسبح حول ذينك المسكينين البريئين اللذين لم يذوقا من الحب إلا مرارته وعلقمه، والأقاويل الكاذبة…. حتى تسرب الخبر إلى الحاجب الخبيث (بكر) الذي أوغر قلب الأمير عز الدين ضد (مم) الذي يعبث بشرفه وسمعته، فصمم الأمير على قتله، واعد له المكيدة كما رسمها له (بكر)، ولكن تدخل صديق (مم) (تاج الدين) جعله يستبدل عملية القتل بسجنه مدى الحياة في إحدى أقبية الآبار الحالكة دون مبرر أو منطق!

     في غياهب السجن المظلم والموحش أصيب (مم) بشتى الأمراض حتى انتهى بمرض السل، أما الأميرة (زين) فقد كان حالها ليس بأحسن من حاله، فقد انتهى أمرها مهجورة في إحدى غرف القصر، تبكي حظها العاثر، وحبيبها المسجون… وفي إحدى الأيام جاءها الأمير زين الدين بخطة جهنمية رسمها له حاجبه الخبيث (بكر) لكي يقتل (مم) أمام عينها، ولكن الأمير عندما شاهد أخته في حال اليأس والضعف رقَ لها قلبه، وندم على ما فات، وطلب من أخته الصفح، وهنا خاطبته (زين) قائله:” لقد فرقتنا يا أخي في هذه الحياة، فوصيتي لك أن تجمعنا في مماتنا”.  عندها سمح الأمير عز الدين لأخته  بزيارة (مم) في سجنه لعلها تودعه قبل رحيله إلى العالم الثاني، وعندما شاهدته ألقت بجسمها عليه… وتعانقا معاً حتى لفظ الاثنان أنفاسهما…. وهكذا حكم الدهر أن لا يجتمع الحبيبان إلا في ظلمات تلك الحفرة الموحشة، وتم مواراة العاشقان في قبر واحد.

     أما الحاجب الخبيث (بكر)، فقد نال جزاءه العادل وهو الموت على يد (تاج الدين) صديق (مَم)، الذي أزعجه الحالة التي وصل إليها هذان العاشقان البريئان بسبب ما قام به من فتنة ووشاية بين الأمير وذينك الحبيبان.

     ومن المدهش في القصة أن الأميرة (زين) أوصت بأن يدفن الحاجب (بكر) تحت قدميهما مباشرة! وذلك حتى يلازمهما ويصبح حاجباً مخلصاً لهما في الجنة، لأن الأقدار سخرته لهما، ليصفو حبهما هذا الصفاء الروحي، ولتسمو نفسهما إلى ما فوق مظاهر المادة والجسد.

   يقال، إنَّ لبطلي القصة المؤثرة اليوم قبرين معروفين في (جزيرة ابن عمر) يستطيع كل من أراد أن يشاهدهما. والعجيب أن قبر (مم وزين) يظل محاطاً بسور من ظلال الأشجار والورود.. أما قبر (بكر) فلا تكاد الأشواك تبارحه، وتعلوه بغزارة!

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش ومراجع المقالة من:
– صادق بهاء الدين: الشاعر احمد خاني، مجلة المجمع العلمي الكردي، المجلد الثاني، العدد ألأول، 1974.ص824-826
ــ عز الدين مصطفى رسول: الواقعية في الأدب الكردي. صيدا ــ بيروت: المكتبة العصرية، 1975-
– محمد سعيد البوطي: مم و زين. دمشق، دار الفكر، 1982.
– معروف خزنه دار: موجز تاريخ الأدب الكردي المعاصر. ترجمة عبد المجيد شيخو.نشر هوشنك كرداغي، 1993.
– رمزي الحاج عقراوي: مم و زين. مجلة العربي. الكويت. العدد282، 1982ص140-144

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *