مَآثر وَمَعالم عُمرَانية تاريخيّة عربيّة تُقاوِم الزّمنَ في  الأندلس

* د. محمد م. الخطّابي

 

بعد زيارة خاطفة قمتُ بها منذ بضعة أشهرٍ لمدينة “الجزيرة الخضراء” الأندلسيّة الواقعة جنوب اسبانيا التي يُطلق عليها الإسبان اليوم (Algeciras)، حيث أقمتُ في  أحد فنادقها التاريخية القديمة الذي بني منذ حوالي قرن ونصف قرن من الزّمان، وبعد ما ينيف على ثلاثين سنة من إقامتي فى الديار الإسبانية عثرتُ عن طريق الصّدفة داخل حديقة هذا الفندق الفسيحة بين أشجار وبنايات كثيفة على بقايا أطلال واحدٍ من أقدم المساجد العتيقة التي بُنيت فى الأندلس على الأرجح غداة الفتح اإسلامي لها، يوجد هذا الفندق على مقربةٍ من الشّاطئ الذي نزل فيه طارق ابن زياد وجيشه سنة 711 م، وهوغير بعيدٍ عن صخرة “جبل طارق” التي فتئ يحتلها الإنجليز إلى اليوم، مثلما تحتلّ إسبانيا مدينتيْ سبتة ومليلية المغربيتيْن وبعض الجيوب والجزر المحاذية للسّواحل المغربية منذ بضعة قرون.

يقع هذا الفندق الكبير فى المُرتفعات المحيطة بهذه المدينة السّاحلية الجميلة التي أصبحت اليوم ممرّاً رئيسيّاً للعديد من المسافرين من جنسيات مختلفة المتّجهين إلى إسبانيا، أو إلى البلدان الأوربية، أوالعائدين منها إلى المغرب، وقمتُ بتصوير بقايا المسجد الذي تحيط به أسوار مهترئة، وأعمدة متآكلة آيلة للسّقوط، وتعلوه نباتات متسلقة، من نوع نبات اللبلاب، وما أشبه التي تكوّن عريشاً متشابكاً حول جدران المسجد، وتتوسّط بقايا بناياته بئرٌ أو “جُبٌّ” من السّهولة رؤية الماء فى قعرها العميق، ولابدّ أنّ هذه البئر كانت تُستعمل للوضوء، ولأغراض الطهارة، والنظافة ولمآرب أخرى، ولقد أخبرني القائمون على هذا الفندق كما رأيتُ ذلك منشوراً، ومشاراً إليه فى بعض مطبوعاته وكاطالوغاته أنه يوجد بحدائقه على بعد بضعة أمتار من الباب الرئيسي الكبير لمبنى الفندق واحد من أقدم المساجد التي تمّ بناؤها فى الأندلس.

مؤتمر الجزيرة الخضراء

 هذا الفندق الذي يتميّز بالطابع الفيكتوري الإنجليزي الكلاسيكي القديم، إحتضن بين جنباته عام 1906 “مؤتمر الجزيرة الخضراء “حول المغرب كمُستعمَرَة أوروبية بمشاركة اثنا عشر دولة أوروبية، وشارك الرئيس الأمريكي روزفلت في ه كوسيط . كان هذا الفندق فى ذلك الإبّان من أفخم فنادق مدينة “الجزيرة الخضراء”، وتملأ قاعاته الواسعة، وباحاته الفسيحة وجدرانه الداخلية العديد من الصّور التاريخية التذكارية لمختلف المتلقيات، والتظاهرات، والمؤتمرات الدولية التي عقدت بمبناه الكبير، منها صور فعاليات، ووقائع مؤتمر الجزيرة الخضراء التاريخي الآنف الذكر، كما نجد نصباً تذكارياً، وصوراً للشاعر الأندلسي الغرناطي المعروف فديريكو غارسيا لوركا الذي كان ينزل فى هذا الفندق، ويؤمّه كثيراً أيام عزّه وأوجه، فضلاً عن صور، ورسومات، ولوحات تاريخية أخرى، كما كان هذا الفندق أثيراً لدى العاهل الإسباني الأسبق خوان كارلوس الأوّل، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، بالإضافة إلى شخصيات سياسية، وفنيّة، وأدبية، وتاريخية شهيرة أخرى .

هجوم الفايكنج

وتشير بعض المراجع التاريخية،  ومصادر القرون الوسطى، إلى أنّ هذا المسجد- الجامع أمر ببنائه صقر قريش عبد الرحمن الاوّل الداخل، وقد عهد للمهندس المعماري عبد الله بن خالد مهمة بنائه، حيث كان يحتوي على خمس مبانٍ مغطاة فى إتجاه ناحية الشمال، وكانت به مئذنة إلاّ أنها أندثرت ولم تصلنا منها أثر إلى أيامنا، كما يؤكد المؤرّخون أنّ هذا المسجد بني على بناية سابقة كانت توجد فى المكان الذي بني في ه، كما تشير هذه المصادر التاريخية التي تتحدّث عن مدينة الجزيرة الخضراء أن هذا المسجد- الجامع قد تعرّض لهجومالفايكنغعام 859م. الذين كانوا قد قاموا بغزوات من البحر على هذه المدينة طمعاً فى غنائمها، وخيراتها، وممتلكات أهلها، ففرّ السكان إلى الآكام، والمرتفعات العالية للمدينة وتعقبتهم جحافلُ من قراصنة الفايكنغ حيث أضرموا النار فى المسجد ممّا أثار غضب، وحفيظة الجزيريّين (نسبةً إلى الجزيرة الخضراء) فهاجموا من دون هوادة الغزاة وأمكنهم أسر إثنين من مراكبهم الكبيرة، حيث شيّدوا بخشبيهما أبواباً، وشبابيك، وعوارض للمسجد الذي بنوه من جديد .

وتشير المصادر التاريخية أنّ ملك إسبانيا ألفونسو الحادي عشر(1344) أمكنه إستعادة مدينة الجزيرة الخضراء حيث أمر بتحويل المسجد- الجامع إلى كاتدرائية أطلق عليها إسم “سانتا ماريا دي بالما” وهي قدّيسة المدينة، وتؤكد لنا معظم الرّوايات أنه فى عام 1369عاد هذا المبنى وأصبح مسجداً إسلامياً من جديد على يد سلطان غرناطة ومُجدّد قصر الحمراء بها محمد الخامس بعد أن أمكنه إسترداد هذه المدينة من يد الإسبان، ليعود ويُدمّر من جديد عام 1379، وخلال القرن الثامن عشر إستُعمِلت غرف، وأروقة هذا المسجد لتخزين البارود، ويمكن لنزلاء وزوّار هذا الفندق التاريخي الكبيراليوم زيارة الجدران الثلاثة الباقية من هذا المسجد، وكذا مشاهدة البئر التي تتوسّطه، وحفرة قبو فناء الوضوء، حيث تمّ دمج كلّ ذلك في  حدائق فندق الملكة كريستينا.

وخلال إقامتي بهذا الفندق أخذتُ العديد من الصّور التذكارية لمبناه، ولحدائقه، ولبقايا المسجد- الجامع الذي اندرس ولم يبق منه سوى جدران أطلاله المتهالكة التي تلوح للناظر إليها من بعيد كباقي الوشم فى ظاهر اليد..!

أين أصحاب هذه الحضارة..؟

 ولعلّ التساؤل الذي يدور بخلد كلّ زائر لهذا الفندق والمسجد – الجامع الذي يوجد بداخله بإلحاح هو أين هم أرباب وأصحاب هذه الحضارة التي نشأت، وترعرعت، وسادت، وتألقت، ثم بادت فى الأندلس بعد أن ظلّت تنير دياجي الظلام فى أوربا زهاء ثماني قرون من الزّمان..؟ أين هم أحفاد، أحفاد أجداد هؤلاء الذين شيّدوا هذا المسجد الذي أصبح اليوم منسيّاً، ومهجوراً يقاوم الزّمن وعوامل تحاتّه، فى حدائق هذا الفندق المترامية الأطراف، والذي أمسى فى الوقت الرّاهن فى حالة يُرثىَ لها تتمزّق له ولرؤيته نياط الأفئدة..؟ ثمّ أين هي الجمعيات، والمؤسّسات، والمنظمات الثقافية الكبرى سواء المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم ” الألكسو”، أومنظمة اليونسكو العالمية التي تُعنى بحفظ التراث الإنساني وحفظه، وصونه، وترميمه..؟ هذه الجهات وسواها لم تحرّك ساكناً حتى الآن لإنقاذ هذه المعلمة نظراً لاقدميتها، ورمزيتها، ودلالاتها التاريخية خاصّةً، وأنّ إسبانيا ترحّب اليوم بإعادة ترميم المآثر، والمعالم، والآثار الأندلسية، إسلامية كانت أو مسيحية، أم يهودية الموجودة فى شبه الجزيرة الإيبيرية.

مآثرعمرانية أخرى تمّ ترميمها

 لقد أصبح الإسبان اليوم وجيرانهم البرتغاليون شغوفين بمثل هذه المبادرات، وتجدر الإشارة والإشادة فى هذا القبيل بالجهود التي بُذلت فى هذا الشأن خاصّة فى عقد الثمانينيات من القرن الفارط حيث شاركتُ فى بعضها عن كثب بحُكم وجودي فى إسبانيا فى ذلك الأوان، حيث تمّ إكتشاف وترميم العديد من المعالم والمآثر الإسلامية فى إسبانيا أذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر مدينة “سياسة”Medina Siyasa en Cieza  الموحّدية بالقرب من مدينة مُرسية (مسقط رأس العالم الصّوفي الجهبذ المعروف ابن عربي المُرسي)، ولقد ظلّت ” سياسة” مطمورة ومواراة عن الأنظار لقرون، فضلاً عن ترميم قصبتها المعروفة ب “Alcazaba Castillo de Cieza ” يُضاف إلى ذلك ترميم أماكن، ومواقع تاريخية أخرى مثل مدينة ” بني رزين” Albarracín القريبة من مدينة Teruel الإسبانية المُسمّاة على إسم المدينة المغربية “تِرْوَال” الواقعة ناحية مدينة وزّان المغربية، فضلاً عن المواقع، والحصون، والقلاع، والقصور الموجودة بنواحي مدينة سراقسطة، التي كانت تنافس بقيّة المدن الأندلسيّة الأخرى في  الحُسن طوراً، وأطواراً تباهيها، في  الشّعر، والآداب، والعلوم، والفلسفة، والفلك والرياضيّات في  بلاط أبي جعفر المقتدر مشيّد قصر”الجعفرية” الشّهير في  القرن الحادي عشر الميلادي الذي لا يزال شاهداً ماثلاً للعيان على روعة وجمالية معماره حتى اليوم. ومدينة” أليكانتي” (من القنت) التي ينتمي إليها الطبيب والعالِم الأندلسي محمد الشّفرة، وقد أطلِق إسم هذا الطبيب على شارع كبير بالمدينة، كما يتمّ تنظيم مسابقات علمية بهذه المدينة كلّ عام حول أعماله وإسهاماته في  ميدان الطبّ في  زمانه.

عاش (محمد الشّفرة) عيشة بحث متواصل في  ميدان العلوم والنباتات، وتذكر المصادر العربية أنه كان طبيباً بارعاً، كما يؤكد الباحـث الفرنسي”لوسّيان لوكلير”، في  كتابه “تاريخ الطبّ عند العرب” : “أنّه لم يكن طبيباً وحسب، بل كان نباتياً كبيراً أيضاً يبحث عن النباتات الغريبة ويجمعها بنفسه كيفما كانت صعوبة الأرض ووعورتها، وكان يملك في  مدينة (وادي آش) حديقة نباتية من طراز رفيع يُجري في ها أبحاثه وتجاربه”.

 

يُضاف إلى ذلك مشاريع ترميم أحياء البيّازين، وموقع البِشْرات، وقصر الحمراء نفسه الذي أصبح اليوم يكتسي هنداماً رائعاً جديداً بعد ترميمه بما في ه ساحة السّباع، أو بهو الأسود، وتجديد أرضية الحمراء ذات المرمر الموضون، فضلاً عن ترميم أسوار مدينة ” مجريط” القديمة ( مدريد الحالية) وهي العاصمة الأوربية الوحيدة التي أسّسها العرب والبربر تأسيساً ( على يد محمّد بن عبد الرحمن الثالث فى القرن التاسع الميلادي) والتي تحمل إسماً عربيّاً، (أنظر مقالنا حول هذا الموضوع فى” القدس العربي” بتاريخ 11 يوليو 2016)، وتجدر الإشارة كذلك فى هذا الصدد إلى إعتراف اليونسكو مؤخراً بمدينة “الزهراء” التاريخية (القريبة من قرطبة) كتراث إنساني عالمي، وسواها من المآثر، والمعالم الأخرى التي تعرّضنا لها فى مختلف المقالات والدراسات التي نشرناها عن الأندلس تباعاً فى” الاتحاد الاشتراكي” الزاهرة على وجه الخصوص.

مسجد المُونستير

وفي السياق نفسه هناك ” مسجد المونستير الرّيال” أو الملكي الواقع بإقليم وِيلفَا، بجبال غرب الأندلس على بعد 120 كيلومتر من إشبيلية بالقرب من الحدود البرتغالية، يعود تاريخه إلى ألف سنة، إذ أسّس خلال الخلافة الأموية بقرطبة، بين القرنين التاسع والعاشر الميلادييْن، والذي يُعتبر من أقدم المساجد فى أوربا كذلك، بني على أنقاض معبد قوطي قديم، وبعد حرب الإسترداد عاد هذا المسجد وأصبح كنيسة، وهو يكتسي أهمية بالغة لأنه المسجد الأندلسي الوحيد الذي حافظ على بنائه الأصلي، فى هذه المنطقة النائية، ومنذ 1931 تمّ إعتباره من المعالم الأثرية الوطنية كتراث تاريخي ذي قيمة كبرى، ويشير المؤرخ أبو عبد الله البِكري (حسب ليفي بروفنسال) ” أنّ إقليم المونستير وباقي القرى الإشبيلية جمعوا ما ينيف على 35000 ديناراً من الجباية”.استردّ المسيحيون المونستير في القرن 13، وتقام في  المسجد اليوم تظاهرات ثقافية كل عام، ويسمح بالصّلاة فيه، وإقامة الشعائر الدينية الإسلامية، والمسيحية فى آنٍ واحد. وفي سنة 1975، ومع انطلاق العهد الديمقراطي في إسبانيا، وزيادة الاهتمام بترميم الآثار العمرانية الأندلسية، تمّ ترميم مسجد المُونستير، الذي فتح أبوابه منذ ذلك التاريخ للمسلمين من أجل أداء صلواتهم فيه . ومن بين مرافقه التي توجد في  حالة جيّدة المحراب، وصحن الوضوء، وهناك قاعة الصلاة التي تبلغ مساحتها 118 متر مربع، والمئذنة. وقد قام “مركز الدراسات الأندلسية وحوار الحضارات” بإنتاج شريط وثائقي حول هذا المسجد، وحول التظاهرات اثقافية والدينية التي تُقام فيه كل عام.

مدينة “الجزيرة الخضراء”

صقر قريش ونخلة الأندلس

ولقد كنتُ في هذا السياق قد قمتُ في  الثمانينيّات من القرن الفارط خلال عملي في  سفارة بلادنا بمدريد بتحسيس عمدة مدينة المُنكّب إبّانئذٍ Almuñécar السّيد Carlos Benavides بأهمية تشييد تمثال أو مُجسّم كبير لصقر قريش عبد الرحمن الداخل (731 – 788) لنزوله بعد عدوته وصحبه من شمال إفرقيا إلى الأندلس في سواحل هذه المدينة بالذات على وجه التحديد، سنة 755م، فارّاً من بطش العبّاسيين الذين ظلّوا يقتفون أثرَه حتى بعد وصوله إلى الأندلس حسب معظم المؤرّخين الثقات فى تاريخ الاندلس، وتمّ تنفيذ فكرة إقامة تمثال كبير على نفس السّاحل الذي نزل فيه عبد الرحمن الداخل، يرتفع اليوم في فضاء هذا الثغر السياحي الجميل على علوّ يبلغ تسعة أمتار، و قد كُتبتْ على رخامة تحاذي ركبتيه نبذة موجزة عن وصوله إلى عَدْوة الأندلس، وقصّة نزوحه ونزوله في شطآن هذه المدينة التي انطلق منها إلى قرطبة حيث أسّس أوّل إمارة أموية بالأندلس، كما كُتبت على النّصب التذكاري لهذ الرّخامة أبيات مشهورة له مترجمة إلى اللغة الإسبانية يصف فيها نخلة تبدّت له في هذه الديار الأندلسية غداة وصوله إليها والتي يقول فيها:

تبدّتْ لنا وسط الرُّصَافة نخلة / تناءت بأرض الغرب عن بلد النّخلِ/ فقلتُ شبيهي في  التغرّبِ والنّوىَ / وطول التنائي عن بنيّ وعن أهلي/نشأتِ بأرضٍ أنتِ في ها غريبةٌ / فمثلكِ في  الإقصاء والمنتأىَ مثلي.

***

*كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.

  • عن موقع ألف لام

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *