* سيد علي اسماعيل
أول مسرحية تحمل اسم السودان في مصر
إذا حاولت البحث عن اسم السودان أو أحداثه الموظفة في المسرح المصري، سأجد أحداث الثورة المهدية هي المثال الواضح، لا سيما وأن ظهور المهدي في السودان في الربع الأخير من القرن التاسع عشر يُعدّ الحدث التاريخي الأهم دينياً وسياسياً في تلك الفترة بالنسبة إلى مصر والسودان. وهذا الحدث وجد طريقه إلى المسرح المصري، عندما ألّف نجيب الحداد مسرحيته “المهدي” في أبريل 1896، وأعلنت جريدة “لسان العرب” عن قُرب تمثيلها في الإسكندرية من خلال جمعية الاتفاق بالإسكندرية (جريدة لسان العرب- عدد 503– القاهرة 7/4/1896). ومن الواضح أن الجمعية لم تُمثل المسرحية لسبب ما؛ حيث قام نجيب الحداد بتغيير العنوان إلى “المهدي وفتح السودان” بعد خمسة أشهر، وقامت فرقة إسكندر فرح بتمثيلها على مسرح شارع عبدالعزيز في سبتمبر 1896 (جريدة المقطم- عدد 2287– القاهرة 29/9/1896).
وهذه المسرحية تحديداً، تُعد من الآثار الأدبية المجهولة لنجيب الحداد، الذي جمع المرحوم الدكتور محمد يوسف نجم أغلب آثاره الأدبية، ونشر جزءاً كبيراً من مسرحياته عام 1966، ورغم ذلك لم يشر الدكتور نجم إلى اسم هذه المسرحية في دراساته، ولم يذكر أنها من آثار نجيب الحداد (محمد يوسف نجم– المسرحية في الأدب العربي الحديث– دار الثقافة– بيروت 1956، وكتابه الآخر: المسرح العربي: دراسات ونصوص.. نجيب حداد– دار الثقافة– بيروت 1966). كما أن هاني هلال خوري كتب بحثاً قيماً عن نجيب الحداد عام 1969 – ما زال مخطوطاً ومحفوظاً في الجامعة الأميركية في بيروت– أشار فيه إلى مسرحية “المهدي وفتح السودان”، وأنها من تأليف نجيب الحداد، مؤكداً أنها غير منشورة ومفقودة، ولم يحصل على نصها المخطوط أي باحث حتى الآن (هاني هلال خوري– الشيخ نجيب الحداد حياته وأدبه– رسالة مخطوطة قدمت لنيل درجة أستاذ في الآداب إلى دائرة اللغة العربية بالجامعة الأميركية في بيروت 1969– ص ص 175، 176).
ولأهمية هذه المسرحية وجدت مقالة منشورة عنها، وعن مضمونها وظروف تمثيلها، نشرتها جريدة “المقطم” المصرية يوم 30/9/1896، ولأهمية المقالة سأذكرها كاملة فيما يلي:
“ازدحم تياترو عبدالعزيز ازدحاماً عظيماً البارحة بالذين حضروا رواية ‘المهدي وفتح السودان’، لمّا زحف الجيش المصري على دنقلة وأم درمان. والرواية تأليف الكاتب الفاضل والشاعر المجيد نجيب الحداد أحد محرري لسان العرب الأغر. وقد كان إقبال الأهالي عظيماً على الرواية، وأثبتوا بشدة تصفيقهم لكل ما ورد فيها من بشائر فوز الجيش المصري سرورهم بالحملة السودانية، وافتخارهم بالنصر الذي حازته مصر. فأبطلوا بذلك إشاعات المفسرين من أن الحملة لا ترضي المصريين. وقد جاء في الرواية أن عبدالله التعايشي أحب أسيرة مصرية اسمها أمينة، وهي تحب أسيراً مصرياً اسمه حسن.
وكان السجان يأتيها به خفية؛ ففاجأهما الخليفة يوماً، فاختبأ حسن من وجهه، ثم هجم عليه يبغي قتله؛ ولكن جنود الخليفة قبضت عليه وأعادته إلى سجنه. وسعت أمينة إلى إنقاذه بالحيلة. وفي غضون ذلك وصل الجيش المصري إلى معسكر الخليفة. وعلم الخليفة بميل أمينة إلى حسن؛ ففاجأهما في اجتماعهما. فهمّا بالانتحار وأراد الخليفة أن يقتلهما بنفسه؛ وإذا برجال مصر فاجأوه وأنقذوا الأسيرين وأسروه. وتم النصر لجنود مصر. وقد أعربت هذه الرواية عن عواطف المصريين، فصفقوا تصفيقاً عظيماً لما بدا لهم في خلالها من العواطف الشريفة. وفي الرواية ما يشير إلى كرم ممتد للعائلة الخديوية بتطوع دولة البرنس عزيز بك في الحملة، وغيرته على خدمة وطنه، ولو بالمخاطرة بنفسه. وقد شهد العارفون بفن الروايات؛ إن رواية المهدي أفضل ما كتبه حضرة مؤلفها في هذا الفن من حيث البلاغة وسحر البيان. وقد كان التمثيل حسناً، وأجاد حضرة الممثل البارع الشيخ سلامة حجازي فى تمثيل دور حسن، وكذلك ممثلة دور أمينة، وأحسن الخليفة وابن عمه كثيراً والسردار أكثر”(جريدة المقطم- عدد 2288– القاهرة 30/9/1896).
النص المُكتشف
يتضح لنا –مما سبق– أن نص مسرحية “المهدي وفتح السودان”، هو وثيقة مسرحية أدبية تاريخية مهمة جداً، لأنه مكتوب في أبريل –ورُبما عُدّل في سبتمبر- سنة 1896؛ أي أثناء قوة الثورة المهدية وانتشارها في السودان، وقبيل الحملة الإنكليزية المصرية، وقبل سنوات قليلة من حسم المعركة بين جميع الأطراف! وبناء على ذلك، نستطيع القول: إن ظهور نص مسرحية “المهدي وفتح السودان” سيفتح المجال واسعاً لكتابة دراسات مسرحية متنوعة؛ لأنه يُعدّ كشفاً أدبياً كبيراً لأهم أثر أدبي، لأشهر كاتب مسرحي في مصر والشام في القرن التاسع عشر، وهو الشيخ نجيب الحداد اللبناني! ناهيك عن قيمة النص؛ بوصفه أول نص مسرحي – في عالمنا العربي وربما في العالم بأسره– تمت كتابته وعرضه على خشبة المسرح عام 1896 عن الثورة المهدية في السودان!
وبفضل ملخص المسرحية المنشور سابقاً في جريدة المقطم، وذكر أسماء الشخصيات والمعلومات المنشورة…إلخ، استطعت– بحمد الله وفضله– أن أكتشف نص مسرحية “المهدي وفتح السودان”. وهو نص مخطوط –مكتوب بخط اليد– بالمداد الأزرق في كراسة تتكون من إحدى وثمانين صفحة منزوعة الغلاف، وتبدأ صفحتها الأولى بعنوان “الفصل الأول” ثم وصف المنظر هكذا “في غرفة من قصر المهدي في أم درمان”. وفي الصفحة الأولى من الفصل الثاني جاء الآتي: “الفصل الثاني، المنظر الأول، في معسكر المصريين في خيمة القائد: سردار، لوا، محافظ الحدود، أركان حرب، ضباط مصريين”. أما الفصل الثالث فيقع في السجن. والفصل الرابع، يقع في قاعة أمينة في قصر المهدي. والفصل الخامس، يقع… إلخ.
وهذه المخطوطة، تحتاج إلى جهد كبير في تحقيقها من أجل نشرها؛ لأن الطرف الأيسر من الكراسة به تمزق أثر على إخفاء سنتمتر أو نصف سنتمتر من آخر كل سطر يقع على يسار الصفحة اليسرى، أو في بداية الصفحة اليمنى، مما يعني أن الكلمة الأخيرة (فقط) منقوصة تماماً أو آخر حروف منها اختفت –كما هو واضح من النماذج المنشورة (الصورة الأولى، والثانية في ملحق الدراسة، وهما لأول صفحتين من الفصل الثاني في مخطوطة المسرحية)- وهذا العيب يحتاج إلى تحقيق مضن لوضع احتمالات عديدة للأحرف المحذوفة، لا سيما فيما يتعلق بالأبيات الشعرية! وأتمنى أن أجد الوقت لإنجاز هذه المهمة، لإنقاذ هذا الأثر الأدبي، والإسهام في نشره ليستفيد منه المسرح السوداني.
الهجرة/عرض بدون نص
العرض السوداني “يوم من زماننا” تأليف سعد الله ونوس وإخراج ياسر عبد اللطيف
على الرغم من اكتشافنا لنص مسرحية “المهدي وفتح السودان”، إلا أن هناك عرضاً مسرحياً بعنوان “الهجرة”، أعلنت عنه جريدة “مصر” في فبراير 1919، وأن فرقة الشيخ أحمد الشامي ستقوم بتمثيله في تياترو برنتانيا، والمسرحية من تأليف مصطفى سامي (جريدة مصر- 25/2/1919). وبعد ثمانية أشهر أعلنت جريدة “الأهرام” وكذلك جريدة “النظام” عن قيام فرقة أحمد الشامي بتمثيل مسرحية “الهجرة” أو “مصر والسودان” على مسرح برنتانيا، وهي من تأليف مصطفى سامي (جريدة الأهرام- 29/10/1919، وجريدة النظام- 30/10/1919).
وهذا الخبر يعني أن مسرحية الهجرة هي مسرحية “مصر والسودان”، والعكس صحيح. ومما يؤكد هذا الخبر أن أغلب الجرائد –طوال ست سنوات– كانت تُعلن عن اسم المسرحية بأنه “الهجرة” أو “مصر والسودان” من تأليف مصطفى سامي، وتمثيل فرقة أحمد الشامي، التي عرضت المسرحية بدار التمثيل العربي، وبتياترو كونكورديا، وفي تياترو برنتانيا، وفي تياترو الأوبرا بالمينا الشرقية بالإسكندرية، وفي تياترو الألدورادو ببور سعيد (جريدة النظام- 21/12/1919، 15/1/1920، 29/1/1920، 3/2/1920، 13/2/1920، 31/3/1921، جريدة الأخبار– 29/11/1920، جريدة وادي النيل- 31/3/1921، جريدة المؤدب– 10/8/1924).
وعلى الرغم من عدم اكتشافنا لنص مسرحية “الهجرة” أو “مصر والسودان” إلا أننا وجدنا مقالة صغيرة منشورة في جريدة “السفور” – تحت عنوان “رواية الهجرة”، جاءت فيها معلومات تدل على أن “الهجرة” المقصودة في المسرحية هي هجرة المهدي الشهيرة تاريخياً ودينياً، ناهيك عن وجود أسماء وشخصيات في المقالة، تؤكد ما نذهب إليه، لذلك سنذكر هنا ما جاء في جريدة السفور بالنص:
“شاهدنا تمثيل رواية الهجرة من جوقة أحمد الشامي، فأعجبنا بشرف قصد المؤلف وإخلاصه؛ ولكن الرواية خارجة خروجاً كبيراً عن قواعد الفن المسرحي، ومزدحمة بفكر كثيرة، كانت تمر على المشاهدين مرّ الخيال لكثرتها، فيضيع الغرض منها. ونعيب على المؤلف وضع دور ‘بهاء الدين’ و’حبيبته’ باللغة العربية الفصحى؛ لأن ذلك مناف للحقيقة، ومستهجن في رواية كل أدوارها عامية. وما أقرب إلى الاستغراب، وأدعى للدهشة من سماع ‘بهاء الدين’ يكلم باللغة العربية الفصحى زنوج أفريقيا، الذين لا يعرفون إلا بعض كلمات عامية منها. وفي الرواية قليل من الألفاظ المكشوفة، يجب محوها. أما عن الممثلين فقد أجاد ممثل دور ‘مطر باشا’، وممثل دور ‘دسوقي’، وكذلك أجادت ممثلة دور ‘أنيسة’، وممثلة دور الخادمة السورية وإن كان الدور غير مهم”(ملحق الدراسة، الصورة الثالثة والرابعة والخامسة).
مسرحية محمد علي وفتح السودان
في عام 1925 وصل الترابط بين الشعبين المصري والسوداني –ضد الاحتلال الإنكليزي الساعي للفصل بينهما- إلى قمته؛ فقام الكاتب المسرحي بديع خيري بتأليف مسرحيته “محمد علي وفتح السودان”، التي عرضتها فرقة أولاد عكاشة –أو “شركة ترقية التمثيل العربي”- على مسرح حديقة الأزبكية في فبراير 1925. وهذه المسرحية لقيت نجاحاً كبيراً في هذا الوقت؛ لأنها كانت تعبر بصدق عن تلاحم الشعبين المصري والسوداني. ومما زاد المسرحية انتشاراً، اشتراك المطربة “أم كلثوم” بأغانيها الوطنية بين فصول المسرحية، وفي بعض مشاهدها الحماسية (جريدة السفور- 16/11/1919). وقد كتب الناقد محمد عبدالمجيد حلمي تحليلاً مستفيضاً عن هذه المسرحية، بدأه بهذه الافتتاحية:
“… إذا كان الأستاذ بديع خيري قد قصد إلى إلقاء عظة دينية؛ فقد أفلح كثيراً، إذ ملأ الرواية بالآيات القرآنية، والجمل الممتعة التي تفيض حكمة وسمواً، والتي فيها رادع للآثم، وزاجر للئيم. وإذا كان قد قصد إلى إلقاء درس في الوطنية؛ فقد نجح نجاحاً عظيماً في حث الشعب على الدفاع عن وطنه؛ لأن مصر والسودان جزء لا يتجزأ؛ فقد كانت تلك اللغة الفخمة، والجُمل المنتقاة المرصوصة مثاراً للحمية، ومبعثاً لاهتياج العواطف والشعور” (محمد عبدالمجيد حلمي- المسرح العربي: محمد علي وفتح السودان على مسرح الأزبكية- جريدة كوكب الشرق 14 فبراير 1925).
ومسرحية “محمد علي وفتح السودان” لبديع خيري لم تُنشر وما زالت محفوظة في شكل مخطوط، أحتفظ بصورة منه، ووصفه كالتالي: النص مكتوب بخط اليد بالمداد الأسود في كراسة من تسع وعشرين صفحة. مكتوب على غلافها: “رواية محمد علي وفتح السودان. تأليف بديع خيري 1924. فرقة عكاشة”.
وفي الصفحة الثانية “أشخاص الرواية”، وهم: محمد علي: والي مصر. الأمير إسماعيل: قائد الجيش المصري الفاتح للسودان ونجل الوالي محمد علي. محمد بك الذفرادر: قائد حملة مصر بالسودان، وصهر الوالي. أحمد باشا أبوددان: حاكم السودان المصري من قبل الوالي. خيرالدين أفندي مرتضى: ملازم أول بالحملة المصرية في السودان. أبوالمعاطي: شيخ مدينة شندي بالسودان وصهر خيرالدين أفندي. نادية: زوجة خيرالدين وابنة أبي المعاطي. النمر: ملك مدينة شندي بالسودان. خضر: ابن خيرالدين أفندي مرتضى. غنيم: أمين بيت المؤونة لجموع المجاهدين السودانيين. عوض الكريم: زعيم الدراويش المحاربين بالسودان. خويلد: مقاتل في جموع الدراويش. الشيخ الشرقاوي: شيخ الإسلام في مصر. السيد البكري– السيد السادات– السيد مكرم– شاه بندر التجار– قُواد عسكريون– أمراء بحريون– كتخدا بك– مأمور الديوان الخديوي– جنود– أهالٍ.
وأمام صفحة “أشخاص الرواية” صفحة مكتوبة بالقلم الرصاص –وبخط مختلف عن خط المخطوطة– بها أسماء الممثلين الفعليين لهذا النص، وهم أفراد فرقة عكاشة، مما يعني أن هذه النسخة خاصة بالمخرج! والأسماء المكتوبة هي: عبدالعزيز خليل، عبدالله عكاشة، محمد يوسف، عبدالمجيد شكري، زكي عكاشة، محمد بهجت، حسن حبيب، أحمد فهمي، علي حمدي، فكتوريا، عبدالحميد عكاشة، محمد المغربي، محمد فهمي أمان، أبوالعلا، محمد هلال… إلخ.
وعلى الرغم من أن مسرحية “محمد علي وفتح السودان” تدور أحداثها قبل ظهور المهدي في السودان إلا أنني وضعتها هنا من باب الاكتشافات المسرحية المتعلقة بصورة السودان في المسرح المصري، ناهيك عن كون نصها ما زال مخطوطاً (ملحق الدراسة، الصورة الثالثة والرابعة والخامسة)، ويُعدّ كشفاً أدبياً ثانياً، هذا بالإضافة إلى وجود عنصر الدراويش في أحداث المسرحية، وهو عنصر ربما كان إرهاصاً لظهور المهدي فيما بعد.
مسرحية تحت العلم
هذه المسرحية ألفها عبدالرحمن رشدي المحامي عام 1926، وعرضتها فرقة رمسيس، بطولة يوسف وهبي وفاطمة رشدي، وقد توقع الجميع نجاحها نجاحاً ساحقاً؛ لأنها جمعت بين مؤلف قدير وممثل كان النجم الأول، وممثلة كانت الأشهر. وكفى بنا للدلالة على ذلك، ما أخبرتنا به جريدة “الأهرام” في إعلانها عن المسرحية قبل عرضها، قائلة:
“… تحت العلم، هي رواية مصرية سودانية. مأساة في أربعة فصول لأكبر كاتب مسرحي، درس المسرح، وعرف خوافيه. وكثيراً ما لعب بأفئدتنا، وأبكى عيوننا؛ الأستاذ القدير عبدالرحمن رشدي المحامي. وقعت حوادثها بين مصر والسودان. يُمثلها فرقة مسرح رمسيس، فترى الحوادث مجسمة: ثورة المهدي – الدراويش – عبدالله التعايشي – سعيد باشا – سلاطين باشا – الجيش المصري في صحارى النوبة. يُمثل أهم الأدوار الأستاذ النابغة يوسف بك وهبي- فاطمة رشدي”(جريدة الأهرام– 26/10/1926).
من عروض مهرجان البقعة المسرحي الدولي في الخرطوم
وهذه المسرحية غير منشورة أيضاً، ولكنني أحتفظ بصورة منها منسوخة ومكتوبة بالآلة الكاتبة، وتقع في 86 صفحة من القطع المتوسط، ومكتوب في صفحتها الأولى– بعد الغلاف: “رواية تحت العلم: صحيفة فياضة بالآلام، ذات فصول أربعة. وقعت حوادثها في وادي النيل بين سنتي 1884 و1897″. ومرفق بالنص ثلاث أوراق رسمية من جهاز الرقابة المسرحية وقتئذ (ملحق الدراسة، جميع صور الوثائق من الصورة السادسة إلى الصورة الثانية عشرة): الأولى، بها طلب ترخيص بتمثيل المسرحية موقعاً من محمد عبدالجواد سكرتير مسرح رمسيس، ومؤرخاً في 10/10/1926. والورقة الثانية عبارة عن تقرير رسمي من قبل الرقيب حسن حافظ، مؤرخاً في 14/10/1926، وهو تقرير يحمل ملخصاً للمسرحية، ورأي الرقيب في موضوع المسرحية، ولأهمية هذا التقرير سأذكره بنصه، وجاء فيه:
” تحت العلم: تتضمن هذه الرواية حديث إخلاء السودان سنة 1884، وما أصاب المصريين من المتمهدين المتوحشين بعد أن نكثوا العهود والمواثيق وعذبوا الضباط الذين وقعوا في الأسر. ثم تعود فتذكر فتحه سنة 1897 وإنقاذ الجيش المصري لأولئك الأسرى المعذبين؛ فإذا بين ضباط الجيش الفاتح أبناء للضباط الذين ظلوا في أسرهم كل ذلك الزمن لا يعلمون ما حل بأولادهم. وبين هذا وذاك تعرض قهوة من القهوات التي كانت في ذلك العصر شائعة كثيرة يغشاها الناس لشهود الرقص وسماع الغناء فإذا في هذه القهوة ضباط يلهون ويلعبون ويسرفون في اللهو واللعب والإنفاق فإذا حانت ساعة الجد والعمل تقدموا إلى الجهاد وبقلوب مطمئنة واستعذبوا الموت تحت العلم. تلك خلاصة ما تحتويه الرواية وليس فيها محظور اللهم إلا إن حسبتم ذكرى السودان بهذه الصورة من المحظورات، والرأي لحضرتكم على كل حال”.
وملاحظة الرقيب كانت في غاية الأهمية؛ لأنه يعلم جيداً محاولات الإنكليز في هذه الفترة لشق الصف بين الشعبين المصري والسوداني، لذلك ينبه رئيسه بأن إعادة تاريخ الصراع بين البلدين أيام الثورة المهدية تُعدّ من المحاذير الرقابية، مما يعني أن منع تمثيل المسرحية سيكون القرار الأصوب. وهنا تظهر أهمية الورقة الثالثة.
والورقة الثالثة عبارة عن الترخيص بتمثيل المسرحية، موقعة من مدير الرقابة، وموجهة إلى محافظ مصر –أي محافظ القاهرة– ومؤرخة في 1/11/1926، وهذا نصها: “حضرة صاحب السعادة محافظ مصر، نرسل مع هذا لسعادتكم نسخة من رواية ‘تحت العلم’، التي رُخص بها، وهي تأليف عبدالرحمن أفندي رشدي، وستمثل ابتداء من الليلة بمسرح رمسيس. فالأمل التنبيه بحفظها للإشراف على التمثيل بمقتضاها مع مراعاة ما حذف منها في الصفحات: 3 و4 و5 و12 و14 و15 و23 و24 و26 و27 و28 و29 و32 و39 و43 و50 و55 و61 و62 ومراقبة عدم إلقائه أو تمثيله”.
وهذا التصريح يُعدّ من أهم الوثائق الرقابية، التي تبين موقف الحكومة المصرية –الممثلة في الجهاز الرقابي– تجاه السودان! فالأجزاء المحذوفة أو التي تم تغييرها، كلها أقوال مشينة ضد المهديين. لذلك قام الرقيب بشطب كل إساءة قاسية موجهة إليهم، كما أنه غيّر كل تعبير مستقبح وُجه إليهم في النص، وعدّله إلى كلام موزون، ملطفاً من موقف الحكومة المصرية تجاه ماضيها في السودان. ومثال على ذلك: تم شطب عبارة في الصفحة الثالثة، ونصها يقول: “تقولش فيه حد ما يرضاش بانتصارنا على دعاة المهدي المضللين دول”. وفي الصفحة الرابعة تم حذف كلمة “الأمر” من عبارة “وزاد الطين بلة الأمر بإخلاء السودان”؛ وذلك عند الحديث عن حملة الجنرال هكس، وحذف كلمة الأمر يعني أن الإخلاء كان طبيعياً وليس بأمر من الإنكليز! وآخر مثال دال على ما نقول تمثل في حذف أطول عبارة في المسرحية، وذلك في الصفحة الرابعة عشرة، والنص المحذوف هو: “ويجمعوا نسوان الموظفين والضباط متزوجات وغير متزوجات، ويقدمونهم زي سبي الجواري بالبهدلة والضرب للدراويش الفجرة”.
وهكذا نالت فرقة رمسيس التصريح بعرض المسرحية، وعلى الفور بدأت في نشر الإعلانات، ومنها الإعلان المنشور في ملحق الدراسة (ملحق الدراسة، الصورة الأخيرة- الثانية عشرة)، ونصه يقول: “مسرح رمسيس، إدارة يوسف بك وهبي، تمثل فرقة رمسيس ابتداء من يوم الاثنين أول نوفمبر لغاية 7 منه، رواية ‘تحت العلم’ تأليف الأستاذ عبدالرحمن رشدي المحامي. صحيفة من حياة مصر الخالدة حوت من الصور والبيئات المسرحية نماذج حيّة كانت تمرّ في أطوار حياتنا الماضية، وتحفظها الذكرى ولا تنساها… صحيفة ولو أنها فياضة بالآلام غير أنها تبتسم للمستقبل. صحيفة تبدأ بذكرى الضحايا العديدة التي تقدمت طائفة فرحة مستبشرة بالموت في سبيل الوطن وتختم بالنصر الذي يحيي في النفوس جيوش الآمال ظافرة مهللة مكبرة. يمثل أهم الأدوار: يوسف وهبي، فاطمة رشدي”.
وعلى الرغم من هذا الزخم حول مسرحية “تحت العلم”، إلا أنها فشلت فشلاَ كبيراً عندما عُرضت على الجمهور (مجلة الصباح 8/11/1926). وعندما سأل أحد النقاد مؤلف المسرحية: ما هو الرابط الذي يربط بين السودان، وحرب الدراويش، وحانات القاهرة ومواخيرها! أجاب المؤلف عبدالرحمن رشدي بأن غرضه أن يبين أن الحملة السودانية، وسفر الضباط المصريين فيها قد أفسدا من أخلاق الشبان أبناء هؤلاء الضباط؛ لأنهم تربُّوا بعيدين عن عناية آبائهم وملاحظتهم (جريدة البلاغ 9/11/1926).
-
عن مجلة الجديد