قصّتان قصيرتان
(1) غريب الليل
* رشيدة الشارني
الألم الأهوج يعاودها، يسري هادرا عبر العمود الفقري ويفككها ثمّ يحتشد في القاع ويدكّ عظامها دكًّا.
تستنفر الحواس كلّها ويتصاعد الأنين في سكون الليل، يوشك الصوت أن ينفلت من حباله ويتحوّل إلى صراخ مجنون ولكنها تكتمه جاهدة وتلهث مردّدة اسم الله.
تتحامل على وجعها وتنهض بعناء من الأريكة التي أمضت عليه نصف ليلتها، تخطو نحو منضدة الطعام وتلتقط منديلا واسعا، تطويه ثمّ تلويه حتى يغدو سميكا وتدسّه بين فكيّها، تضغط عليه بأسنانها محاولة قمع صوت الألم في صدرها حتى لا يصل صداه جيرانها النائمين في الشقق المجاورة، ولكنه بلغ دون شكّ مسامع زوجها النائم في الحجرة المجاورة.
عندما انتابتها موجات الألم مع حلول المساء، اعتقدت أن الأمر ليس أكثر من مغص في الأمعاء بسبب الأطعمة الحارّة التي تناولتها بشراهة بعد عودتها عصرا من العمل. لم يخطر ببالها أن علامات المخاض تبدأ على هذا النحو المشابه، والحقيقة أنها تردّدت في البداية في إعلام زوجها بحالتها، فهو يكره أن تقطع عليه متابعة البرامج الحوارية ونشرة أخبار الثامنة مساء. وهكذا ظلّت تكابد وحيدة آلامها المتفاقمة.
ينشب الألم أظافره في الجسد النحيف، فتفور منه الحرارة وتنز حبات العرق من الوجه الشاحب. تضغط على المنديل بكلّ ما لديها من قوّة، تتقهقر صلابتها فتسقط في هوّة عميقة وتغيب في المجهول، ينام العذاب فوق جفنيها، تشعر بيد سحرية تمتدّ نحوها وتفرش حنانها على الجسد الموجوع، فتسكن كلّ الآلام فجأة ويغمرها فيض من الرّاحة، تغفو للحظات بعيدا عن كيانها وتغطس في نعاس عذب لم تعرف مثله من قبل.
تقتحم يد شيطانية قاسية غفوتها وتدفعها إلى السطح، تجتاحها موجة الألم الأهوج بقوّة أعنف من المرّات السّابقة فتدرك أنها ستضع طفلها لا محالة قبل الصباح وأنه لا يمكنها الانتظار أكثر.
تفكّر في اللجوء مرّة أخرى إلى زوجها الذي خلد إلى النوم بعد أن أتمّ مشاهدة مسلسل مكسيكي إثر نشرة الأخبار، ولكن دهشتها المشحونة بالغضب تمنعها من ذلك، أخبرته عدّة مرّات أنها تعاني أوجاعا حادة، ولكنه كان يرمقها بنظرة غريبة خالية من الحياة، ويشيح عنها بوجهه وكأن الأمر لا يعنيه، اكتفى بالقول بنبرة متعالية وهو يتابع النشرة الجويّة أن الطقس شديد البرودة وأنّ السّماء ستمطر بقوّة.
تقبع وحيدة في العتمة تصارع الخيبة والعذاب، تصلها أصوات الممثلين عاشقة وحالمة ومجنونة. هو أيضا قال لها مرارا إنه يعشقها بجنون، وأشرع لها عالما من الكلمات. كانت تجيب بجديتها المعهودة “لا أؤمن بمجانين الحبّ. يكفي أن تحبني بتعقّل وتحترم روح الإنسان التي بداخلي.”
يتابع الألم مهمته القاسية، تغالب ضعفها وتشرع في السعي بين الحجرات. كان تأمل أن يرافقها بعد انتهاء المسلسل إلى المصحّة كما يفعل الأزواج، ولكن شلّتها الخيبة عندما قام متثاقلا وفرك أسنانه، ثمّ اندسّ صامتا في الفراش وغمر رأسه بالغطاء متجاهلا حالتها. تكسّرت الكلمات في صدرها وشلّها الذهول، أحسّت بصورته تتهاوى في أعماقها. لم يكن مريضا ولا يتناول أيّ دواء. كان في صحّة جيّدة يمارس الرّياضة كلّ صباح، ويعمل في مكتب مريح إلى حدود الظهر، ولم يكن بينهما خصام، فقد كانت حياتهما المشتركة التي مضى عليها أكثر من عام هادئة، وكانت هي تدبّ خلالها مثل النملة منذ الصّباح الباكر، وتعدّ كلّ ما يحتاج إليه دون كلمة تذمّر واحدة، ولم تكن تلزمه بأيّ شيء.
ينتصف الليل ولا شيء غير الأنين ونفخ الريح في شقوق النافذة، والمجهول القادم نحوها بخطى حثيثة. يصهل الوجع في روحها، أحسّت كأن الماء يغمرها وأنها تتحلل في الملوحة، فأدركت أنه لا يمكنها الانتظار إلى الصباح.
تعود مكرهة إلى زوجها النائم، تلمزه من كتفه قائلة:
– عبد القادر، انهض أرجوك، أوجاعي تتفاقم.
أماط الغطاء عن وجهه، قطّب جبينه وفتح نصف عين مبديا انزعاجه من النور.
تُردّد بنبرة توسّل:
– انهض أرجوك، أنا في حالة مخاض، ينبغي أن ألتحق فورا بالمصحّة.
حملق فيها بنظرته الغريبة المتعالية وسأل:
– هل أنت متأكدة؟
نعم، لم أعد أحتمل الوجع.
فرك عينيه وأطرق يفكّر ثمّ باغتها بقوله:
– ألا يمكن أن تنتظري إلى الصبح؟
تأملته بذهول، ران صمت رهيب بينهما، أردف بسرعة كمن عثر على حلّ سحري لمسألة مزعجة:
– أو، الأفضل أن تنادي أهلك.
صفعها جوابه، أصابها البكم للحظات، أحسست أنها أمام رجل غريب لا تعرفه، أطفأت النور وانسلت في العتمة تقاوم رغبة ملحة في الغثيان. ما كانت تتخيّل أن شيطانا أخرس يختبئ داخل ذلك الإنسان الذي يبدو لجميع الناس لطيفا وعلى غاية من رهافة الحسّ.
اخترق ذاكرتها وجه والدها يوم وضعت أمّها آخر حبّة في عنقود أطفالها العشرة، ترقبها مساء أمام المعهد الثانوي واصطحبها إلى المنزل، سبقته إلى الباب وانشغل هو بإنزال سلّة الخضر من السيارة، كاد يهدم الباب عندما قالت أختها الكبرى من خلفه بأنّ الجارات يقمن بتوليد أمّها التي فاجأها الطلق، وهي تهمّ بالخروج إلى المستشفى، وأن عليهما الانتظار قليلا في الخارج. امتقع وجهه وارتجفت يداه، ألقى بالسلة على الأرض وضرب الباب بقوّة وصرخ متوترا:
– ستموت بين أيديهن، إنّها تعاني ضغط الدمّ، يا إلهي، سيقتلنها …
جعل يمسك رأسه بكفيه ثمّ يعود إلى ضرب الباب والصراخ:
– دَعْنَني أحملها إلى المصحة، لن أسامحكن لو حدث لها أو للمولود مكروه، افتحن الباب…
انفرج الباب بعد نصف ساعة وبان وجه الخالة فاطمة مطمئنا ومبشّرا. كانت الأمّ قد وضعت بسلام شقيقتها الصغرى. لم يهدأ إلاّ حين اطمأن على حالها، قبّل المولودة مبتسما وأطلق عليها اسم عفوة حتى تعفو عنه، لأنه تأخر عن لحظة ميلادها، ثمّ غادر البيت ليدعو الطبيب حتى يتأكّد من سلامة الأم ووليدتها.
تمضي بها الساعات ثقيلة، تغدو حركة الجنين حثيثة وأكثر وجعا، تراه في سكرات عذابها يضع لها جناحين ويحثها على الانطلاق، تستجمع قواها وتتناول سماعة الهاتف تدير أرقامه وتتصل بالخدمة “ألو تاكسي”، يستقبلها صوت رجل ما إن تعلمه أنها في حالة مخاض حتّى ترتفع نبرته وهو يسألها بتوتر عن العنوان، ويظلّ يكرّر بحرص “لا تقفلي الخطّ، تنفسي جيّدا وابقي معي.”
تصغي لاتصالاته المحمومة مع أحد سائقي التاكسي يحوّل المكالمة إلى السائق مرّددا “ربي يخلّص وحلك.”
يتلقفها صوت السّائق جدّيا ودافئا، اتفقت معه أن ينتظرها بعد خمس دقائق أمام مركز الشرطة القريب من بيتها، وضعت معطفها وهممت بالخروج، تذكّرت عند الباب توصيات أمّها “كوني مطيعة ولا تغادري البيت دون إذن زوجك…”
عادت إلى حجرة النوم، لمست كتفه وقالت:
– عبد القادر، ها أني ذاهبة إلى المصحة، اتصلت بسيارة تاكسي وهي تنتظرني قرب مركز الشرطة. هل تسمعني؟
أزاح الغطاء عن رأسه وحملق فيها بتلك النظرة الغريبة القاتلة، تمطى ببطء وتثاءب حتى بانت أسنانه الكريهة ثمّ قال:
(2) لحظة بوح
ليلة جهنميّة أمضيتها البارحة، معركة وحشية مدمّرة خضتها وزوجي على الفراش البارحة، كدنا نتبادل خلالها اللّكمات بعد مضاجعة بدأت رومانسية وحالمة لعنت إثرها الحبّ والصبر والنصيب، قولي بربّ السماء كيف يمكن للمرأة أن تكون سعيدة مع رجل يضاجعها بعقله؟ كيف يمكنني أن أحقق معجزة الحمل وزوجي يغادرني بسرعة فائقة في اللحظة الحاسمة؟
توقّفت عن الحركة ونظرت إليها من خلال سيول الماء المنسابة على شعري، كانت قامتها المعتدلة مع شيء من الامتلاء قد حجبت مساحة الضوء الأصفر المتسرّب إلى المقصورة الضيّقة حيث أنهي آخر مراحل الاغتسال، وكان البخار يفور من جسدها وشعرها المتموّج المنثور على كتفيها، تناولتُ منها علبة الشامبو التي استعارتها مني منذ قليل وأردفت تعتذر وتشرح لي من جديد بأنّها غادرت بيتها على عجل وفي حالة من التوتّر ناسية علبة الشامبو.
تطلّعتُ إلى عينيها المحمرّتين سائلة ما إذا كان الشامبو قد سبّب لها الحساسية، محاولة ترويض غضبها إذ لم يخطر ببالي أنّ امرأة شابّة تجهلني ألتقيها صدفة في الحمّام يمكن أن تبوح لي بأدقّ أسرار حياتها على نحو واضح وصادم.
كانت تبدو حائرة ومتوترة. ضجّت عيناها فجأة بالدمع، وواصلت بوحها كما لو كانت تعرفني منذ زمن طويل.
-
عن الجديد