د.غسان عبد الخالق
من المغالطات التي تتردّد على ألسنة أنصاف المثقفين، وخاصة الذين ينقصهم الاطلاع المباشر على النصوص الرئيسة في الموروث العربي، تحميل التيار الديني –الفقهي- الأخلاقي، مسؤولية الموقف المتشدّد من الشعر بوجه خاص والأدب بوجه عام! ورغم أنّ هذه المغالطة تصدق على بعض فقهاء الفرق المغمورين مثل نافع بن الأزرق الخارجي، إلا أنّ الفقهاء الكبار المعدودين الذين أثّروا في النقد الأدبي العربي القديم، راوحوا في تلقّيهم للشعر وفي أحكامهم عليه، بين الإباحة التي أبداها ابن عباس حينما تعمّد الإعراض عن ابن الأزرق والاستماع لعمرو بن أبي ربيعة وابن المسيِّب الذي تعمّد إنشاد الشعر المكشوف ثم أمَّ الناس في الصلاة، وبين الإباحة المشروطة عند الشافعي الذي تحفّظ على الإغراق في الغزل والمديح والهجاء أو عند الغزالي الذي ردّد رأي الشافعي وزاد عليه تكييف إباحة الغناء!
لقد انحاز معظم النقاد العرب القدامى، إلى جانب القيمة الفنية في الشعر وقدّموا الجمالي على الأخلاقي في الأدب عموماً، بدليل احتفائهم بشعر امرئ القيس وأبي نواس، على سبيل المثال لا الحصر، لكنّ الفلاسفة المسلمين الذين التزموا بتعريف أرسطو لماهية الشعر وبتعريف أفلاطون لوظيفته، هم الذين أصْلوا هذا الشعر العربي ناراً حامية وانهالوا عليه وعلى الشعراء العرب بالثّلْب والتقريع!
ومع أنّهم فعلوا ذلك في سياق تعريب كتاب فن الشعر لأرسطو، إلا أنّهم رَمَوْا في هذا الثّلْب تحديداً، عن قوس أفلاطون الذي قَصَر وظيفة الشعر على التعليم والتهذيب فقط. ولأنّ معظم الشعراء ليسوا معنيين بهاتين الوظيفتين جرّاء انغماسهم في المبالغة والكذب والمتعة، فقد طالب بطردهم من المدينة الفاضلة!
وفيما قطع الفارابي بأنّ الشعر العربي يقتصر على (النَّهَم والكُدْيَة) فقط؛ أي الطمع بالحصول على المال واستجداء الممدوحين، فقد حذّر ابن مسكويه تحذيراً شديداً من تعليم الشعر الجاهلي للفتيان والفتيات، لكونه لا يحض على مكارم الأخلاق ولما يشتمل عليه من غزل فاحش وعنجهية ذميمة. وأما ابن حزم الذي جمع بين التضلّع في الفقه والأدب والفلسفة، فقد تدرّج في مواقفه من الشعر العربي تبعاً لمدى تقدّمه في السن؛ فبدا في أواخر الثلاثينيات متعاطفاً معه، ثم راح يتشدّد تجاهه في الخمسينيات من عمره، حتى إذا تجاوز الستين كاد يحرّمه، بدعوى اشتماله على ما يفسد الدين والمروءة! ولم يفته طبعاً التنويه بأنّه قال ما قال من باب الصدوع للحق، وذلك ردّاً على من تسوِّل له نفسه الاستدراك عليه لأنّه شاعر ضليع!
فإذا بلغنا ابن رشد الذي يطيب لأنصاف المثقفين الاستشهاد بكثير من الأقوال المنسوبة له وهي ليست له قطعاً، والذي تميّز بتعريبه الإجمالي الجيد لكتاب فن الشعر لأرسطو -مقارنة بتعريب الفارابي غير الموفّق- فسوف نقف على أكثر مواقف الفلاسفة المسلمين تشدّداً من الشعر العربي؛ فهذا الشعر بلغة ومصطلحات عصرنا يمور بالجنس والعنف والكذب الصارخ! ومع أنه يقرّ بأنّ بعض هذا الشعر يحض على الشجاعة والكرم، إلا أنّه يستدرك قائلاً بأنّ هذا الحض مشوب بالتبجّح الممجوج!
هل يعني ما تقدّم أنّ أفلاطون كان سلفياً وأنّ ابن عباس وابن المسيِّب كانا ليبراليين وأنّ الأصمعي وابن المعتز كانا إباحيين وأنّ الفارابي ومسكويه وابن حزم وابن رشد كانوا متزمتين؟! من المؤكد أنهم لم يكونوا كذلك؛ لأنّ أفكارهم واجتهاداتهم وأحكامهم ووجهات نظرهم رهن بسياقاتها التاريخية والاجتماعية والمعرفية؛ فأفلاطون الذي هام على وجهه خمسة عشر عاماً ثم عاد لأثينا كي يؤسس الأكاديمية الفلسفية ويعيد الاعتبار لأستاذه سقراط، كان معنياً بالإجابة عن سؤال واقع عصره الذي استغرق في السوفسطائية ومذهب اللّذة الأبيقورية، كما كان ابن عباس وابن المسيِّب معنييْن بقطع الطريق على حفنة من المتشدّدين الذين لم يدّخروا وسعاً للتضييق على الناس حتى في الشعر، فأدركا بحسهما الاجتماعي العميق أنهما إن لم يسارعا لضرب أمثلة عملية حاسمة فإنّ قطاعاً عريضاً من الناس سيتخذ من تحريم الشعر مدخلاً لتحريمات أخرى بحيث تصبح الحياة كلها ضرباً من الشعور العارم بالذنب! وكذا حال الأصمعي وابن المعتز اللذين وُجدا في سياق اجتماعي ومعرفي ناضج يسمح بالفصل بين القناعات الدينية والقيم الجمالية؛ فالعقيدة والدولة راسختان إلى حد يصعب معه التخوّف من اهتزاز المشاعر الدينية لمجرد التنويه بمواطن الجمال في قصيدة لشاعر ماجن. وما كان الشافعي والغزالي ليحدّدا ما يجوز وما لا يجوز من الشعر لولا أنّ معظم الشعراء كانوا قد غرقوا في الإثارة والنفاق والتكسّب.
وبدورهم، لم يدّخر الفلاسفة المسلمون وسعاً للإجابة عن سؤال الواقع، وفقاً للسياق التاريخي والاجتماعي والمعرفي الذي أظلّهم؛ فتصدّوا لمظاهر الانحلال الاجتماعي من منظور أخلاقي، وحمّلوا الشعر العربي مسؤولية هذا الانحلال، لكونه يمثل (ديوان العرب)؛ أي المرجع المعرفي الأكثر تأثيراً في وِجْدانهم ومعيار الصواب والخطأ عندهم، حتى صار دستوراً راسخاً يمكن أن يدفع العربي حياته ثمناً لبيت واحد منه. والحكايات التي يمكن أن تساق على هذا الصعيد -سواء صحّت أم لم تصح- كثيرة ووافرة. فهل آن لأنصاف المثقفين المولعين بنسخ المقولات المنسوبة لابن رشد وغيره، النزول عن أشجار وسائل التواصل الاجتماعي التي لم تزد الأميّين إلا أُميّة، واستقراء أصول الموروث الأدبي العربي، بعيون مفتوحة وعقول متفهّمة؟!
-
أكاديمي وناقد من الأردن
-
عن موقع حفريات