الحجْر الأدبي

  • منصف المزغني

عبارة الحجْر الأدبي قبل زمن كورونا، مصطلح بلا معنى آخر غير: الرقابة الأمنية، ومصادرة بعض الكتب، أو بالرقابة خوفاً من تفشي كتاباته (الجرثومية) في الجمهور العام.

-١-

لا بد من التفرغ للأدب ولا مهرب من هذا المطلب، هكذا يقول الكاتب العربي وهو يضيق بالوقت الضيق الذي يسد أنفاس الإبداع والتجلي لديه:

نحن نطالب بالتفرغ للكتابة، بعد أن سرقتنا الوظيفة والدوام الرسمي في القطاع العام، كما في الخاص، وما نفع هيكل مثل (اتحاد الأدباء والكتاب العرب) إذا لم يدافع عن عمرنا القصير، وقد وهبناه للكتابة؟ لماذا لم يدافع الاتحاد عن الكتاب لدى الدولة حتى يتوافر لأعضائه المنخرطين زمنٌ للتفرغ للكتابة والإبداع؟

وقد يضيف أحدهم مستنجداً مستشهداً بصرخة محمود درويش (لا تأخذوه من الحمام/ لا ترسلوه إلى الوظيفة/ لا ترسموا دمه وسام/ فهو البنفسج في قذيفة).

-٢-

لقد كان الأدباء يطلبون منحة تفرغ، حتى ينجزوا ما في ضمائرهم من نوايا مشاريع، وأحلام، في التأليف الأدبي، وكان بعضهم يقدم ملفات مقنعة لمشاريع إبداعية، تستوجب وقتاً حراً، ولكن لا يعوق ميلاد هذه الأعمال المحلوم بإنجازها، غير الالتزام الرتيب بتوقيت المداومة الإدارية..

ولكن أغلب أهل الأدب العربي المعاصر، على اختلاف مراتبهم، من منتسبي القطاع العام التابع مباشرة إلى الدولة، وقانون الوظيفة الحكومية الإداري، حريص- نظرياً- على المال العام، والمساواة بين كل الموظفين، فلا استثناء ولا تمييز بين موظف كاتب وموظف غيره، فالكل موظف، ولا يدفع الراتب المعاشي إلا لمن باشر ويباشر الشغل يومياً مع محاسبة مستمرة على ساعات الدوام الإداري.

-٣-

لا شك أن مباشرة الأديب اليومية لشغل إداري، هو غول يلتهم الوقت، ويعتدي على إيقاع الكتابة، فالمباشرة الإدارية العادية تشبه العبودية، فهي تكسر إيقاع الوقت الإبداعي تكسيراً لما في الإدارة من تفاصيل مرهقة بالاجتماعات، وإملاءات الحضور (حتى الجثماني) في المكتب الوظيفي!

لقد دأب القانون على أن لا يميز بين الموظفين، ليجعل للأديب قانوناً على قياس الإبداع، كمن يصنع خاتماً ملائماً لمقاس أصابع كل مبدع.

ولأجل كل هذا، لم نجد إلا عدداً نادراً من المحظوظين من هؤلاء الموظفين، الذين كانوا يحتالون على الوقت الإداري، من أجل أوقات مسروقة للإبداع الحلال!

-٤-

ولكن حاجة الكاتب للتفرغ حقيقة، ولا يتطلب الإبداع من مبدعه غير الوقت الخالي من الإرباك الإداري، حتى ينتبه في حقل إبداعه إلى ما يتطلبه الخلق الفني، من قلق الشطب والنزع وإعادة الكتابة المراجعة.

لقد كان عموم الأدباء العرب على مر التاريخ الحديث، غير قادرين على تأمين رزقهم، من الكتابة، ولا من دور النشر، ولم يكن التعويل المعاشي إلا ذلك الراتب الشهري الزهيد في غالب الأحوال.

ولأن العمل الأدبي يتطلب بحيرة من السباحة في مياه الإلهام، وليس إلى غرفة حمام، فإن الكثير من الوقت المتصل وغير القابل للانقطاع هو المطلوب، وهو بات لا يفتحه إلا التفرغ للكتابة، أي الاحتراف، وهو لا يقبل أنصاف الحلول..

-٥-

هل كان حال أدباء الأمس البعيد أحسن من أدباء اليوم؟

لم يكن الأدباء العرب القدامى يعرفون ما معنى الدوام الإداري في عصورنا الحديثة، فقد كانوا يتصرفون في وقتهم لإنجاز المصنفات، ويهدون كتبهم إلى أصحاب السلطة المالية والسياسية الذين كانوا يطلبون منهم تصنيفاً أو تأليفاً في موضوع معين.

والأمثلة كثيرة، فهذا المرتضى الزبيدي صاحب قاموس (تاج العروس) بأجزائه التي تربو على العشرين، والمؤرخ عبدالرحمن بن خلدون صاحب (المقدمة)، وأبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب (الأغاني)، وقد أنفق ما زاد على العقود الأربعة في جمع أغانيه وأخبارها، من أفواه الرواة.

لقد كان هؤلاء الثلاثة وهم يقدمون على تصانيف تأليفية، يحتاجون إلى ما يمكن تسميته بالحجْر الأدبي حتى يتفرغوا تماماً إلى التدقيق والتأمل والتأليف، وذلك لأن طبيعة تصانيفهم احتاجت إلى الجهد الذي يخلط الليل بالنهار، فلا التوقيت الإداري كان يمنعهم، ولا يعانون مشاكل عموم الكتاب العرب في عصرنا الحديث.

-٦-

لقد صار لا بد للأديب الكاتب من حاجة ملحة للوقت، فالمهنة طويلة والعمر قصير، والأديب هو إنسان يحتاج إلى الوقت كي يكتب، ولأن الأدباء العرب الذين يعتاشون من قلمهم صاروا طيوراً نادرة، ولأن العمل الأدبي يتطلب تفرغاً أكيداً، أي الحجْر الأدبي، ولأن الكتابة الحرة لم تكن مفهومة لدى كل المؤسسات العربية، ولا لدى كل المجتمع العربي، فإن الوضع قد يزداد تعقيداً في عالمنا الذي تطورت فيه وسائط الكتابة وغابت فيه سلطة الكاتب (أيام زمان)، فكل مخربش صار أديباً، ويرغب في منحة من الحكومة للتفرغ، وجاء قانون (لا أحد أحسن من أحد).

-٧-

إن ما تجدر الإشارة إليه والتذكير به، هو أن الأدب يحتاج إلى التفرغ، فزهير بن أبي سلمى كان يحتاج إلى حول كامل لكتابة قصيدة، واحتاج غوستاف فلوبير إلى خمس سنوات لإنجاز روايته الخالدة (مدام بوفاري)، والتهمت أعمال كبرى أدبية أعمار أدباء، وانتزعتهم من أبنائهم وزوجاتهم، وزهدوا في حضور الحفلات، والمناسبات العائلية والاجتماعية من أجل الحجْر الأدبي.

-٨-

هامش أدبي على دفتر كورونا:

لقد ذهب خلال هذه الأيام الكاتب الروائي التشيلي سيبلفيدا، صاحب رائعة (الشيخ الولوع بقراءة القصص الغرامية) ضحية هذه الجرثومة.

وأما أبرز مثالين يحضران بقوة في سوق القراءة هذه الأيام في العالم القارئ فهماً، رواية (الطاعون) لألبير كامو، و(الحب في زمن الكوليرا) لغابرييل غارسيا ماركيز، والأمثلة الإبداعية كثيرة.

-٩-

أدباء هذه الأيام باتوا يملكون- زمن الحجر الصحي- طقوس الكتابة والرغبة في التفرغ، حيث وسائل الكتابة متاحة في مكان مغلق وزمان يشبه الأفق المفتوح على الخيال.

ها هو الحجر الصحي يوفر للأديب فرصة للتفرغ للكتابة، ولكن قد لا تأتي حالات الكتابة مؤاتية مع حالات الحجز, دون أن ننسى أن هناك الكثير من المؤلفات التي كتبت في السجن، وتم تهريبها، وكم من واحد ذهب إلى العزلة ليجد الإبداع، فوجد العزلة وابتعد الإبداع.

كم من واحد ضرب موعداً مع العزلة، ليجد الإبداع، فوجد زوج العزلة، ولم يجد الإبداع. 

وكم من واحد توهم الإبداع، كتجربة (دون كيخوت) في الطعان والحرب، فتوهم الحرب مع طواحين الريح.

-١٠-

يحتاج الكاتب الحقيقي إلى الحجز الإجباري، وقد لا يقدر أدباء اليوم أن هذا الحجز كان حلم السابقين وتحقق للاحقين، ولو لفترة، فالوضع لا يمكن أن يدوم.

وقد يتوهم الكاتب أنه يحتاج إلى التفرغ، في زمن الجدب الإبداعي، فيمنح فرصة التفرغ، وقد تكون النتيجة أن دائرة الوهم لدى الكاتب أكبر من دائرة الإبداع.

-١١-

وأما قبل، فقبل كورونا بأكثر من ألف سنة، كان الرجل الأعمى الكبير في بيته، ملتزماً بالحجر الصحي الاجتماعي، كاختيار حر، فانعزل عن الناس، ولم ينس فتح الخط على قضايا الوجود الإنساني الحي. وكان يرى هذا العالم فكرة حية، ومبصرة، وهو أبو العلاء المعري، فمسيرته تكاد تكذّب عماه، وانتصر على العاهة باختراع نمط حياة قوامه الحجز الأدبي، ولعل أبا العلاء اختار العزلة المبدعة حتى لا يسمع بعض معاصريه من أهل النكد، ولعله اعتبرهم أخطر من أوبئة سميناها نحن (وباء كورونا 19) وصار أبو العلاء المعري أحد مخترعي الحجز الإبداعي.

ولم ينافس المعري الأعمى غير ابن الرومي المتطير، فكان يرى الشؤم في كل ما يتوجس منه خوفاً بعدما حلت به كوارث عائلية، مثل موت الأم والزوجة والأولاد، وتمكن منه التطير إلى الحد الذي كان يلزم فيه داره ولا يغادره عدة أيام متوالية.

وإذا كانت هناك جائزة تراثية للحجر وملازمة البيت، فإن العدالة التراثية العربية تقتضي من لجنة التحكيم أن تمنح الجائزة مناصفة بين ابن الرومي والمعري

  • عن الشارقة الثقافية

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *