*سعيد يقطين
أثارت جائزة الشيخ زايد كتاب «الفكر الأدبي العربي: البنيات والأنساق»، وجعلته يتردد على صفحات بعض الجرائد والمواقع الإلكترونية. ولو لم يحصل هذا الكتاب على الجائزة ما كان للعديد من القراء أن يعرف بوجوده بله أن يتعرف على محتواه أو موضوعه؟
صحيح عبر لي الناشر عن اغتباطه بالكتاب، وأنه يباع بشكل جيد. ولقد وقفت على هذا في معارض ثلاث عواصم عربية، حيث لاحظت نفاد النسخ. هناك قارئ إذن. لكن ليست هناك متابعات صحافية، ولا نقاشات للكتاب وما يقدمه من أفكار؟ باستثناء ما كتبه إبراهيم الحجري معرفا بالكتاب فور صدوره. بدا لي ذلك بجلاء في ما تناولته بعض وسائل الإعلام عن الكتاب، وهي تقدمه بالمناسبة. وتبين لي أن كل تغطيات الحدث لم تتجاوز التقرير الذي عممته لجنة الجائزة، فهي تستنسخ ما جاء في التقرير حرفيا. فكانت كل التغطيات نسخة واحدة لا تزيد ولا تنقص. وحتى بعض الصحافيين الذين اتصلوا بي لتقديم تصريح، كانوا يسألون نبذة عن الكتاب ما يدل على أن بعضهم لم ير صورته إلا بعد الإعلان عن الجائزة.
أتذكر أننا عندما كنا في أنوال، كانت صفحة «إصدارات» تقدم صورة دقيقة عن الكتاب المقدم. لقد كنا فعلا لا نقدم الكتاب إلا بعد قراءته كاملا. وفي كلمات معدودات كان الذهاب إلى جوهر الكتاب، سواء كان نقدا أو إبداعا. لم نكن صحافيين بالمعنى الإعلامي، كنا كتابا يشتغلون في الصحافة. وكان هذا مهما جدا في إعطاء العمل الصحافي بعدا ثقافيا. صار الآن عمل الصحافي يكتفي بنقل ما هو متداول، من دون أن يكلف نفسه عناء أي مجهود، ولهذا لم يبق للإعلام الثقافي دوره الذي كان له في السبعينيات والثمانينيات.
أرى أن المشكل الجوهري يعود إلى غياب الاختصاص الدقيق في ممارساتنا الإعلامية والثقافية والأدبية. ومرد هذا الغياب إلى نوع التكوين الذي نتلقى في المدرسة والجامعة. فنحن إما «موسوعيون» نعرف كل شيء ولا نعرف شيئا؟ وهذا واقع خريجي كليات الآداب والعلوم الإنسانية والحقوق. وإما مختصون في مجال محدد، نعرف عنه «كل» شيء، ولا نعرف أي شيء خارج الاختصاص، وهذا ديدن أغلب خريجي كليات العلوم ومعاهد التكنولوجيا. فلم نقم الجسور بين الاختصاصات، من جهة، ولم نؤسس اختصاصات محددة داخل كل مجال من المجالات المعرفية، من جهة ثانية. وهذه هي الفكرة الجوهرية التي يطرحها كتاب «الفكر الأدبي العربي»، وهو يركز على الأدب والدراسة الأدبية.
تتبع الكتاب «الأدب» و«الدرس الأدبي» منذ القرن التاسع عشر إلى الآن في أوروبا، وبعد ذلك في الوطن العربي. وحاول معاينة كيف تطور التعامل مع الأدب، وما هي الآفاق؟ فكانت النتيجة التي انتهى إليها أن الأدب، باعتباره إبداعا اهتم به الفلاسفة والعلماء والنقاد والبلاغيون، وكل هؤلاء يفكر في الأدب ويتناوله وفق منطلقاته الخاصة. غير أن التسمية الجامعة لأي ممارسة تهتم بالأدب ظلت هي «النقد الأدبي»، لذلك اقترح الكتاب «الفكر الأدبي» ليتسع لأي اشتغال بالأدب، بهدف التمييز بين الاختصاصات، ولإعطاء «الفكر الأدبي» موقعا ضمن أصناف التفكير الأخرى. ولا يمكن لهذا التفكير أن يتبلور من دون أن يكون من بين الاختصاصات التي تعنى بالأدب، «العلم الأدبي» الذي سيصبح أحد أهم الاختصاصات التي تتمحور حول الأدب، بحيث يستفيد من مختلف العلوم، ويقيم معها جسورا بهدف تطوير النظر والعمل.
أبرز الكتاب أن العرب اهتموا بتأسيس علوم لمختلف الاختصاصات التي اهتمت بـ«الكلام» العربي. وفي القرن التاسع عشر برز «النقد العلمي» في فرنسا الذي كان يروم دراسة الأدب دراسة علمية متأثرا في ذلك بالدراسات الاجتماعية التي تأسست متأثرة بالعلوم الطبيعية. وجاء الشكلانيون الروس ليطرحوا «العلم الأدبي» تحت تأثير اللسانيات، وتطور مسعاهم مع البنيوية التي عملت على تأسيس البويطيقا والسيميائيات الأدبية، باعتبارهما علمين للأدب: يعنى أولهما بالشكل أو الدال، والثاني بالمدلول أو المحتوى. وهذان العلمان يتطوران الآن مع «الدراسات السردية» بشكل خاص، على اعتبار أن السرد أمسى المفهوم الجامع لمختلف الممارسات الإنسانية.
تأسست أولى كليات الآداب في الوطن العربي في مصر في بدايات القرن العشرين لتكون فضاء جديدا للبحث «العلمي» في الأدب، وفق نموذج الجامعات الأوروبية. لكنها لم تسر وفق متطلبات هذا النموذج. لقد وجدت نفسها أمام «المستشرق» و«الشيخ»، مثل جرجي زيدان، صورة المستشرق في كتابه «تاريخ الأدب». وكان الرافعي يجسد صورة الشيخ. حاول طه حسين الانتصار للمستشرق في «في الشعر الجاهلي»، فكان نقض مشروعه دافعا إياه للتوفيق بين المستشرق والشيخ في «في الأدب الجاهلي». فكان أن تقرر تصور ما يزال ساريا إلى الآن، مفاده أن الأدب لا يمكن أن يدرس علميا، ولا بد من تدخل ذاتية الدارس، فصار «النقد» مجالا لذاتية الناقد، مع الاستفادة من مناهج العلوم الأخرى، فلم يتأسس «علم الأدب».
غياب اختصاص علمي للأدب، جعله ملتقى الاختصاصات، فظل عالة عليها، وبدون إعادة النظر في الدراسة الأدبية ستظل عاجزة عن مواكبة التطور التكنولوجي الذي هو رهان المستقبل؟
_______
*القدس العربي