*ناصر الريماوي
خاص- ( ثقافات )
الرياح غدت أكثر برودة مع الليل، أخذت تضرب بشدّة جنبات الأزقة المعتمة وتصفع أبواب الصفيح المتجاورة للبيوت والنوافذ الموصدة، جاء صوتها متيقنا وهي تعيد ستارة القماش إلى النافذة: الصباح سيأتي بالمطر…!
تهلل شيء في داخلي، قلت لها بفرح: وبوجه “رندة” الذي غاب لصيف…
جحظت عيانا أمي، تأملتني وهي تحني رأسها قبل أن تقطر ملامحها بتلك المرارة المعتادة: أنتَ ايضاً!؟ وهل سيشفع لها كل ذلك الجَمال عند أحد!؟ مسكينة… تلك الصبية.
واليوم، وبعد مرور كل تلك السنين، وفي مكان آخرعلى البحر، يشبه حيّنا القديم … قبل إسفلت “البلدية” الذي محى خطو أقدامنا الأولى عن أزقّته المتربة، أركن للطريق هناك كلما غاب المطر، أرقب المركبات في شرود وهي تعبر من أمامي مسرعة، تسيل الملامح على زجاجها لأناس لا أعرفهم … يتكاثف بعضها على زجاج ذاكرتي الضيقة، لأعود صغيراً يحدق في زجاج نافذة قديمة كانت تسيل على صدغها قطرات المطر، تتعرج وتختلط عليها دون المساس بشرود الملامح لصبيّة فاتنة كانت تقبع خلفها، وكان اسمها “رندة”…، أكثر الوجوه هنا تطالعني بلا اكتراث، وهي تعبرعلى الطريق، ترمقني العيون بنظرات خاطفة وفارغة، تسقط بيننا بلا قيمة، فلا يستردها أصحابها…، “رندة” لم تكن كذلك، كانت شتائية، صامتة، نظراتها مستقرّة وماطرة تظللّ زقاق حيّنا الموحل بفرح طفولي حتى تهبط بمعطفها الداكن وطاقية الصوف نحونا، ترقّ لها قلوب الجميع ونحن نراها تتلقى زخّات المطر المتتالية بابتسامة صافية وعذبة، يلحق بها والدها، يرعاها من بعيد في اهتمام وقلق شديدين، موزعاً بصره بينها وبين السماء في تناوب حذر، لم يكن ليأبه لنا ونحن نهتف للمطر… ولها. في الشتاء المنصرم، غفل عنها قليلا، ولم يتنبه للسحب وهي تتفرق مبتعدة عن سماء الحيّ، ولا للمطر وهو يرتفع مفسحاً لشمس هزيلة بالتسلل نحو المكان بخيوط صفراء باهتة، أفزعت “رندة”، لم يتنبه إلا على صراخها الهستيري وهي تمرّغ وجهها في وحل الطريق، وتتلوى بجسدها الصغير على أرض الزقاق، في غضون لحظات تجمهر حولها نصف اطفال الحيّ، راح يفرّقهم في غضب وحزن عميقين، وهم يهتفون في طيش : مجنونة … مجنونة …!
وانحبس المطر ذلك الشتاء، ولم يعد وجه “رندة” متاحاً ليسيل على النافذة، فقط كانت حين تطل على البحر، كنّا نسمع صياحها ولا نراها، وكأنها تحدث أحدا ما على الجانب البعيد: بلا نخوة يستفزنا البحر في التحامه المشبوه مع السماء، ماذا يعني ان يعانق الازرق، ازرقا مثله، يوازيه بلادة … ولا يهطل المطر!؟
مع الصباحات الباردة أيضا، وفي صحو طقسي مريب، كان يعلو صراخها ليوقظ الزقاق وهي تحدّث نفسها: منذ الصباح والشمس تلاحق نتف الغيم بمخلب الصيف، كبالونات تفقأ صدورها على أعين البحر الراكد… ثم لا يسقط المطر!
تكلح العتمة تحت إنارة شاحبة لأعمدة الطريق، ربما ملامحي تبدو لهم كذلك …، يوحي بهذا فيض الدهشة لبعض الوجوه وهي تسقط بين زجاج المركبات وعتمة المكان، على الأفق البعيد بدأ البرق يتكسّر على صفحة الغيم، يرسم اشكالا مضيئة بسرعة خاطفة تضيء ثم تتلاشى، رأيتُ وجه ” رندة ” يسيل فوق الزجاج لإحدى المركبات العابرة، قبل أن يهطل المطر، وقفت ورحتُ أجري خلف المركبة وفي نيتي أن يبللني رذاذ المطر، وأنا أستقبل زخاته المتلاحقة بفرح طفولي قديم، حتى ضاقت الرؤية على الطريق وغمرتنا السيول، توقفَتْ كل المركبات، أمامي، تدفق منها عشرات الأطفال، توقفتُ أمامهم مشدوها، أمام السنتهم التي تدلت نحوي، كانت هتافاتهم لاذعة بما يكفي ليعلو صوت من بعيد، جاء معنفاً: ليس مجنونا … هذا ليس جنوناً…!
تفرقوا حتى تلاشت اصواتهم، ولم استهجن لما جرى، فقط كان ما يبعث على الحيرة هو ما يحدث لنا حين يخذلنا المطر، توارت كل الوجوه خلف وابل كثيف من العتمة وبقيتُ وحدي، اخذتُ أتحسس ملابسي في غرابة… وفي نيتي أن أسأل أول شخص قد يعبر من جديد: على الرغم من هذا الهطول، كيف لمْ يبللني المطر…!؟