*محمد محمد الخطابي
بالأمس أيها الصديق الأثير كنت أكتب إليك، واليوم أكتب عنك.. على الرغم من رحيلك المباغت بعد أن اختطفتك منا يدُ المنون على حين غرة، فإنني ما زلت أذكرك بكل معاني المحبة والوفاء، أصدقاؤك وزملاؤك ومحبوك وما أكثرهم يترحمون عليك، وهم في دار الشقاء، وأنت في دار البقاء، إنني ما زلت أتذكر أحاديثك الشيقة عن الأندلس، وعن أحوالها وماضيها ومعالمها، وحضارتها وشعرائها، وعلمائها ومآسيها وانتكاساتها التي ليس لها نظير في تاريخ البشرية جمعاء، حيث كان يحلو لك بأن تسميني مازحاً بـ»الغرناطي الأصيل».. وجاءني كتابك الجميل «في البحث عن أبي عبد الله الصغير» وأنا في غرناطة الغراء، وسألتني ذات مرة بعد قراءته: هل يحق لنا بعد ذلك أن نسمي (الأندلس) «بالفردوس المفقود»؟ فأجبتك بطلبٍ منك في مقال نشرته «القدس العربي» الزاهرة عندما كنت مسؤولاً عن القسم الثقافي فيها، أجل أخي أمجد كُلُ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ.. فالعمرُ غادٍ ورائحُ، ويبقى من العُمر الأحاديث والذكر… وتبقى لنا دائماً منه الذكريات، وما أفدحها، وما أضناها، وما أقساها إذا كان الأمر يتعلق بفقدان صديقٍ عزيز، وشاعرٍ مبدع وأديب لامع مثلك، فالجميع يشهد لك أنك كنت بديعاً في المعاني والبيان، في شعرك ونثرك وأدبك، وخُلُقك وخَلْقك، وإبداعك.
الفردوس الموعود
وأعود إلى حديثك المأثور عن الأندلس، وعن تساؤلك الأبدي المُحير، وتساؤل بني طينتك معك عن الأندلس فقلتُ لك حينها: أجل أخي أمجد لقد سموه فردوساً، إلا إنه ليس مفقوداً كما وُهِموا، بل إنه موجود، إنه الفردوس الموعود الذي تغنى به وله وعنه الشعراء قبله، وخلاله وبعده، إنه ما زال هنا حاضر الكيان، قائم الذات بسيره وأسواره، وبقاياه وآثاره، ونفائسه وذخائره، إنه هنا بعاداته وطبائعه، في عوائده وأهوائه، إنه هنا في البريق المشع، في المدائن والضيع والوديان، في اللغة والشعر والعلم والأدب، في لهجة القروي النائي البعيد، وغناء الفلاح المغمور، إنه هنا في الإباء العربي، والإباء الأمازيغي، والحزازات والنعرات القديمة، التي ما تزال تفعل في ذويها فعل العجب.
كنت تقول لي إنهم يتساءلون، ويتساءل الخلانُ معهم، وقد علت مُحياهم علائم الشدوه، وأمارات السؤال، كيف حدث ذلك؟ كيف استطاعت سنابكُ خيولهم المُسومة بقيادة طارق الفاتح أن تطأ ثرىَ هذه الأرض البكر، وأن تقام أسس حضارة عريقة أشعت على العالم المعروف في ذلك الإبان، وتنير دياجي الظلام في أوربا دهرئذٍ. يتساءلون كيف تسنى لهؤلاء القوم الغُبر الوشاح، البُداة الجُفاة أن يضطلعوا بكل ذلك؟ وتزداد حيرتهم، ويتفاقم ذهولهم، كيف دانت لهم الدنيا، ودالت لهم الدول؟ كيف أمكن لهم أن يروعُوا كسرىَ في إيوانه؟ وأن يجعلوا الرومانَ يفرون تحت وخزات الرماح، وثقل الصفاح؟ إنهم ليسوا قوماً قساة عتاة كما وُهمُوا، بل إنهم قوم فاتحون، مُبشرون بحضارةٍ وعلمٍ وتاريخٍ وعمران. هذه الجزيرة المحروسة التي هاموا بعقيانها هياماً، ثم سرعان ما خَبَتِ الضياء، وجفت المآقي، هذه الواسطة في عقدٍ من جُمان، تُرصعُ جيدَ الزمان، كيف وهنت قلادتُها؟ وتناثرت حباتُها، وانفرط عقدُها؟ وتحولت إلى دموعٍ وعَبَراتٍ حرى تبكي العهدَ والجد والدار؟
غاض النبع الرقراق
هكذا كانت البداية يا صاح.. ثم أفلت الشمس بدون شروق قريب، وغاض النبع الرقراق، ولم يبق سوى وميض خافت نتلمسه هنا وهناك، سرعان ما تحول إلى بريق مشع قوي نفاذ، تراه في هذه الأعين النجل، والحواجب المُزججة، ذات الملامح العربية والأمازيغية الأصيلة، والقسمات الدقيقة، التي تحملك في رمشة عين إلى أعماق الجزيرة الأولى، أو إلى جنان الرصافة والجسر، أو تتيه بك في غياهب المسافات السرمدية اللامرئية.
قلنا آنذاك.. وتبين لنا جلياً أن الأندلس ما تزال هنا في العادات الشرقية الجميلة، في رعشات الأنامل، وانحناءاتها، في ضربات الأكف والأرجل المتوالية المتناغمة التي تذكرك بمراكش الحمراء، وبجرش والبتراء، وبزحلة الأرز، وحَماة القاهرة. إنها هنا في هذه الأقراط الأصيلة المدلاة عبر جيدٍ في بياض النرجس، بض ناصعٍ، ذي ذوائب فاحمة، إنها ما زالت هنا شامخة في قصر الحمراء، وجنة العريف، في الزخارف والأقواس، في نقوش المرمرالمرصعة، وإفريز الخشب المحفور، إنها هنا في نوافير المياه، والبرك والسواقي، في الموشحات والأزجال والخرجات الأندلسية الرخيمة، إنها هنا في هذه الراح التي لا تلبث أن تتحول إلى روحٍ متلألئة حية قائمة مُحاورة!
ربيعك طلقٌ دائم
صحنا وذهب صياحنا أدراج الرياح: أيها النائي القريب، إنهم يحنون إليك، ويتغنون بك وباسمك، قلوك زمنا، ولكنهم سرعان ما فاقوا من سباتهم، وثابوا إلى رشدهم، وتخلوا عن نكرانهم، فراحوا يشيدون لك الأبنية ويرفعون لك المُجسمات والتماثيل المخلدة، ولكنهم في خبل من أمرهم، ذلك أن ربيعك دائم متجدد، لا تراه الأعين، ولا ترمقه إلا في الحدائق والجنان، أو على ضفاف الأنهار المنسكبة، والجداول المنسابة، بل إنها في النغمات والآهات، والخطىَ والعيون والحواريات، إنها ربيع طلق ضاحك لا يعقبه صيف قائظ، بل يتولد منه ربيع تلو ربيع.
إنهم يتأوربون أحياناً أكثر من الأوروبيين أنفسهم، وأحياناً أخرى تشط بهم الأحلامُ بعيداً بعيداً ولكنهم في كلتا الحالتين أبداً ملتصقون بأرضهم فخورون بأجناسهم، مزهوون بمحتدهم، وتاريخهم الحافل، وعاداتهم الدخيلة، ولغتهم المزدوجة، وتقاليدهم العريقة، قالها رفقاؤك في عالم الخلق والإبداع ماتشادو ولوركا وألبرتي ودامسُو وأليكسندري وخيمينيث مثلما قالها قبلهم شعراء من بني جلدتك ابن زيدون وابن هانئ وابن عبد ربه وابن زمرك وابن الخطيب وابن سهل، وابن اللبانة وسواهم.
كنت ترى الأندلس نهراً جارفاً منهمراً، من يستطيع الغوص فيه، أو الدنو منه آبَ إلى النبع الأول، هذا الوادي الرقراق الذي شق النسيم عليه يوماً جيب قميصه، فانساب من شطيْه يطلب ثارَه، فتضاحكت ورقُ الحَمام بدوحها هزءاً، فضم من الحياء إزارَه.