شعريّة النص وصوفيّتة في ديوان “نمش على مائي الثجاج”*

-خاص – ثقافات

-يحيى القيسي**

من يقرأ قصائد الشاعر مصطفى غلمان في هذا الديوان يكتشف الشعر الصافي وهو يتوهّج من بين المفردات، أو يتآلف في تشكيلة صوريّة مدهشة يصوغها الشاعر بتمهّل ويبثّها من خلال العبارات، كما تأتيه الغنائية متسرّبة بسلاسة عبر الأحاسيس الرهيفة والتجليات العالية.

ليست هذه الشعرية مقتصرة على النص نفسه بل على عناوين القصائد أيضاً إذ يمكن أن تُقرأ منفردة ليخرج المتلقي منها بما يمكن من الدلالات حسب مخياله الخاص وتفاعله معها، لاحظ مثلا هذه العناوين: تنصب طلقها في شرانق الحرير، كأيّ ماء يبلغ الحلقوم ولا يرتغي، كظل فاخر يتسلق الأعالي، ..وغيرها كثير.

يحضر الحبّ بقوة في هذا الديوان روحاً وحالة، ومفردة ودلالة، “الحبّ وطن كبير” وهو امرأة أيضا تفوق الحوريات، وهو “ذائقة الشاعر”، أما الوطن فهو يتجلى في هذه القصائد بشكل مباشر أو موارب، وهو هنا “المغرب” أو “فلسطين” كقضية رغم أن غلمان لا يتورط في الجانب الظاهري لهذه الأوطان، بل يعترف بأنّه ليس “قومجياً ولا شعوبياً ولا أمير حرب ولا مشعوذاً سياسياً ولا فقيهاً كهونتياً” بل قضية تتجاوز الهويات والتيارات والعلاقات الانسانية العابرة كما يقول بشكل مباشر في قصيدته “طلل سدوم”، كما أنّه يحاول أن يواري موقفه السياسي باضافات تبدو غير شعرية من أجل الرقيب، لهذا يتسلل الاحباط واضحاً في بعض قصائده حيث لا يستطيع المرء الصمت ولا الاحتجاج ولا الانتقاد في ظل “ممنوعات” لا تنتهي، وبحثاً عن حرية مسجونة ينتظرها “الشعب المكافح”.

يحتاج هذا الديوان إلى الكثير من النبش النقدي، والدراسة الهادئة لكنّي كمتلق لنصوصه أجدني أسطر بعض ما وجدته فيها من الإشارات، ومن ذلك التحليق بالصور التي يقوم بتركيبها معاً من خلال المفردات لتغدو لوحة صوفية الملامح، وليس غريبا أن يختار نصاً للصوفي الشهير محيي الدين بن عربي لتصدير هذا الديوان، لا بل إنه اختار قصيدة وأعطاها اسم “أثلام صوفية” وستجدها مزدحمة بالكثير من “مصطلحات القوم” مثل” الماهية، ظاهر التجلي، الإشارة، عين إبرة، الكينونة، الهيولي، الرؤية، السر، …وغيرها.

وهذا الملمح العرفاني يتجلّى في الكثير من نصوص الديوان رغم أن الموضوعات قد تبدو مغرقة في واقعيتها وليست روحانية، فالتجليات التي يبدعها الشاعر بتآلف المفردات معاً تصنع مثل هذه الحالة، وتقود إلى قراءة نص غني بالدلالات المحلقة.

كما أن القارىء يكتشف بعض المصطلحات المستعارة من لغات أخرى دون تعريب مثل: الميتافيزيقا، الباراديم، نارسيس، ميدوسا، كوجيطو، النوسطالجيا، ..، وهي مفردات أثقلت النص في رأيي وجعلت بعض عباراته ثقيلة الإيقاع على المتلقي رغم محاولة الشاعر جعلها تنسجم مع روح النص، وفي العموم فإن ثقافة الشاعر تتسرّب إلى نصه، مثل ذكره أسماء بعض الكتب ومؤلفيها مثل: أزهار الشر لبودلير، وأنشودة المطر للسياب، ولا تعتذر عما فعلت لدرويش،..

أما الأسلوب الذي اختطه الشاعر في قصائده فهو ليس بواحد، لهذا لا يشعر المتلقي بالرتابة أو النمطية بل بالتجديد والدهشة المتواصلة، فثمة “قصيدة الكتلة” أي النصّ الذي يبدو سردياً في ظاهره بينما يفيض بالشعرية، وثمّة النص الذي يحيل إلى التفعيلة بينما هو “قصيدة نثر” صافية، وقد يبني القصيدة على التكرار في مطالعها مثل لازمة “ليس علينا” في قصيدة “ممنوعات” أو لازمة “كأيّ” والتي يبدأ بها إحدى قصائده “كأيّ شيء، كأيّ ساعة، كأيّ صحراء، كأيّ وشاية، ..وغيرها.

في كلّ الأحوال يكشف هذا الديوان عن نصوص مفعمة بالشعرية العالية والرؤى الجامحة والمعرفة الدقيقة والقاموسية أيضاً باللغة لكي تتآلف هذه العناصر معا لإبداع عمل مثير للتأمل، والرغبة المتواصلة لسبر أغواره.

__________________________________

 

*مقدمة الديوان الذي صدر مؤخراً

**أديب وباحث من الأردن

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *