فن الرابندرا سانغيت: الشاعر الهندي طاغور موسيقيا ومغنيا

  • مروة متولي

في عالم الموسيقى الكلاسيكية الهندية الشاسع، يوجد فن الرابندرا سانغيت الذي أبدعه الشاعر الهندي رابندرانات طاغور 1861 ـ 1941 ويتكون من 2230 أغنية، وضع موسيقاها وكتب أشعارها وغناها بنفسه في فترات من حياته، هذا الفن رغم حداثته وسط فنون أخرى كثيرة في الهند سبقته بقرون، أضاف للموسيقى الكلاسيكية الهندية، وصار أحد أركانها الأساسية، وقد استمد شهرته بالطبع من طاغور، صاحب المكانة الإنسانية الرفيعة والشهرة العالمية، لا بفضل جائزة نوبل للآداب التي ذهبت إليه عام 1913، وكان أول شرقي غير أوروبي يحصل عليها، وإنما بفضل أدبه وشعره وموسيقاه، وفلسفته وتأثيره العالمي على الإنسان في كل مكان، وكذلك انشغاله بهموم أمته ومصيرها، فقد يعطي طاغور ذلك الانطباع الأولي بأنه ذلك الزاهد الحالم المنفصل عن الحياة، لكنه لم يكن أبداً على هذا النحو، بل كان مشتبكاً طوال الوقت مع الواقع، يدعو الهنود إلى الحياة، ويحثهم على التعلم والحصول على أكبر قدر من الثقافة، ويبذل من ماله الخاص في سبيل ذلك، كما كان يدعوهم إلى التخلص من العصبية الدينية والعرقية ودواعي الفرقة والانقسام، والسعي إلى التطور والنظر نحو المستقبل، ومنافسة الغرب لا محاكاته وحسب، ونقرأ في روايته «البيت والعالم» الكثير من آرائه وتصوراته السياسية، ومن خلال شخصية «سانديــب» نستشعر تحـــذيراته من مثل هذا السياسي، الذي يستطيع منفــــرداً أن يدمر الحياة والعالم بأكمله، وفي قصته الرائعة «كابولي والا» يظهر إحساسه العميق بالفقراء والمظلومين، رغم أنه كان من ذوي الثراء، ونشأ كأمير محاط بالخدم في قصر عائلته العريقة، كما شرح بمهارة شديدة في هذه القصـــة عاطفة الأبوة بأدق معانيها، والرابط القوي بين الأب والابنة تحديداً، سواء كانت ابنته أو طفلة أخرى وجد فيها بعض التعويض العاطفي عن فقده لابنته.
كتب طاغور أغلب أغنياته باللغة البنغالية، ليسمعها الجميع وتتغنى بها ألسنة أخرى غير بنغالية في الهند، وهناك بعض المحاولات في الغرب لتقديم نسخة إنكليزية من الرابندرا سانغيت، لكنها غير جيدة على كل حال لخلوها من الروح الشرقية، أما أغنياته الدينية فهي قادرة على النفاذ إلى قلب كل إنسان، ولا يشعر أصحاب الأديان الأخرى بأن هذه الأغنيات لا تخاطبهم، وقد ألهم بموسيقاه الكثير من مؤلفي الموسيقى في الهند، لأنه أضاف إيقاعات ومقاييس وأوزان إلى الموسيقى الكلاسيكية الهندية، ونظامها المعقد «راغا» ليزداد ثراء وتعقيداً. في الرابندرا سانغيت روح وخيال ومزاج مختلف تماماً، ونغمات ومسافات صوتية وأساليب وتقنيات غنائية فريدة، وهو نوع من الغناء الرفيع الراقي، لا يستطيعه ولا يتمكن منه إلا أجمل الأصوات في شبه القارة الهندية، والحسن في الهند أنه لا استهتار بمثل هذه الكنوز الفنية الثمينة، ولا تطاول عليها من مروجي القبح عديمي الموهبة، المصابين بحالة من السعار تدفعهم إلى نهش كل ما هو جميل وتشويهه.
لطاغور أسلوبه الخاص في كتابة الشعر، فلا وجود لتمرد الشاعر وصدامه المأساوي مع كل شيء في السماء والأرض، بل هناك الكثير من التسامح والانسجام مع الطبيعة وما وراءها والشعور بالسكينة والرضوان، لكن ذلك لا يعني أنه شاعر مفرط في التفاؤل، يمرح طوال الوقت وسط المروج والغدران، يداعب الزهور ويهرول خلف الفراشات، وأن شعره غير عميق المعاني، بل إنه شديد العمق إلى درجة أنه لا يظهر على السطح هكذا بسهولة، ويتطلب التأمل وإعادة التأمل ثم المزيد من التأمل، لنجد أنفسنا عند لحظة ما أمام نهر يفيض بالمشاعر والأفكار والحكم الفلسفية، لكنه لا يطرح ما يدور في عقله ويجيش في نفسه بعنف، وإنما بهدوء بالغ، وفي أكثر أشعاره كآبة وحزناً، لا نشعر بقسوة منه، فهو في كل الأحوال شاعر رفيق بنا، حنون علينا وإن أثار الأشجان في نفوسنا.

صوت كيشور كومار نحس ونسمع ونرى كل كلمة يغنيها، وننتقل في الأغنية الواحدة من حال إلى حال إلى حال، وقد ملك المشاعر واستحوذ على الإحساس وأخذ يتحكم بأسماعنا وقلوبنا، كيفما يشاء

وفي أغنياته يوجد حضور قوي وبارز لآلات موسيقية مثل، الفينا والسارانغي والبانسوري، وبعض الآلات الإيقاعية التي تجعل المستمع يظن أن الإيقاع قائم على التصفيق بالأيدي، في حين أن الأمر ليس كذلك، وكم هي كثيرة ومتنوعة تلك الآلات الموسيقية في الهند، ويمكن القول إن لكل آلة موسيقية في الأوركسترا الغربية أكثر من مقابل في الأوركسترا الهندية، ويزيد عليها آلات موسيقية كثيرة أخرى لا مثيل ولا مقابل لها في الغرب، وهذه الكثرة والفوارق الطفيفة بين بعض الآلات، قد تكون مربكة للسامع غير الهندي، فيخلط في بعض الأحيان بين صوت الفينا وصوت السارانغي على سبيل المثال، وهما من الآلات الوترية التي تتشابه إلى حد ما مع آلة السيتار العتيقة الساحرة، التي اخترعها الشاعر الهندي أمير خسرو في القرن الثالث عشر، أما البانسوري فهي آلة هوائية خشبية تشبه الناي، لكنها أقل منه كآبة وأقوى تأثيراً، وهذا هو الغريب والساحر بشأنها، وهي آلة موسيقية جميلة حقاً ذات إمكانيات صوتية مذهلة.
يمكن الاستماع إلى الرابندرا سانغيت من أصوات عديدة، بداية من صوت طاغور نفسه في بعض التسجيلات، لكنها ليست جيدة فنياً من حيث الجودة، وغير مكتملة أو كافية لتحقيق المتعة المرجوة، ويذهب إليها المرء بدافع الفضول والرغبة في الاستماع إلى صوت طاغور، ومعرفة كيف كان إحساسه والشعور بأجواء الماضي، ويمكن القول إنه كان صاحب أداء شديد الجدية يحتوي على الكثير من الرهبة والخشوع، أما في 2019 فيمكن الاستماع إلى هذا الفن بصوت المغني الهندي أريجيت سينغ، نجم الغناء في بوليوود في الوقت الحالي، فإن هذا الشاب الذي يمثل الأغنية الهندية الأكثر حداثة، نشأ منذ طفولته على الرابندرا سانغيت، وهو فنه الأساسي الذي تعلمه منذ الصغر، وكان له الفضل في جعله مميزاً بين أقرانه من المغنين، فمهما قدم سينغ من أغنيات بسيطة أو تجارية، فإنه قادر دائماً على أن يمنحها الكثير من الإحساس والجمال وكل ما يجعلها تستحق الاستماع، وعلى العكـــس من ذلك، فهو في أدائه لفــــن كلاســـيكي رفيع مثل الرابندرا سانغيت، ومع الحفاظ على قواعـــده وســـلامة الغناء، قادر على أن يمنحه ذلك الحس الحداثي الجاذب للمستــمع من خارج دائرة أصحاب الذوق الكـــلاسيكي، وهذا أمر غاية في الأهمية من أجل نشر هذه الفنـــون، وإعـــادة إحيائها في نفوس كل جيل، ومن أجمل وأشهر ما قدمه بصوته من هذا الفن أغنية بعنوان «ما تريده روحي».
ومن زمن طاغور إلى زمن أريجيت سينغ، كان هناك الكثير من المغنين الذين صدحوا بهذا الفن، لكن يجب التوقف طويلاً عند كيشور كومار 1929 ـ 1987 أحد أهم نجوم الغناء في تاريخ بوليوود على الإطلاق، في أدائه المذهل لفن الرابندرا سانغيت، وبالاستماع إليه نكتشف طوال الوقت مدى جمال وروعة هذا الفن، ونعيد اكتشاف صوت كيشور كومار أيضاً، وكأن كل ما غناه في بوليوود من أغنيات رائعة لم يكن كافياً لإظهار جمال صوته وقدراته الفنية، وتكون المتعة مضاعفة عندما نستمع إليه، وهو يغني أعمال طاغور، بأسلوب لا يعد قديماً ولا حديثاً، وإنما هو أسلوب ساحر وحسب، حيث انسيابية الغناء مع انسيابية الموسيقى، وتلاحق النوتات بشكل يوحي بأنه لا يتوقف أبداً عن الغناء وإن كان هناك بعض الوقفات القصيرة.
مع صوت كيشور كومار نحس ونسمع ونرى كل كلمة يغنيها، وننتقل في الأغنية الواحدة من حال إلى حال إلى حال، وقد ملك المشاعر واستحوذ على الإحساس وأخذ يتحكم بأسماعنا وقلوبنا، كيفما يشاء، وعندما نستمع إليه وهو يغني «دينير شيشي» نرى ذلك الرجل الواقف على ضفة النهر ينظر إلى الضفة الأخرى، وإلى آخر شعاع للشمس وآخر قارب وآخر رحلة وآخر فرصة للعودة، هذا الإحساس بالنهاية ومحاولة إدراك الفائت، ومع اكتمال الظلام يتصاعد الغناء في ما يشبه البكاء والأنين من الأعماق، بدون مبالغة مزعجة، كما نرى هؤلاء الذين لا يزالون في منتصف الرحلة، لا هم عبروا النهر ولا وصلوا إلى مبتغاهم ولا عادوا إلى حيث كانوا.

_____________________

*المصدر : القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *