منذُ العقدين الأخيرين من القرن الماضي بدأ الباحثون في العلوم الإنسانية والاجتماعية يبدون اهتماما متزايدا بمسألة انفتاح التخصصات على بعضها البعض، والاستفادة من عناصر التشارك بينها، سواء على مستوى الموضوعات الإنسانية والفكرية والفنية أو على مستوى الأدوات والمفاهيم والتصورات النظرية. وربّما تكمنُ بعض الجوانب المفيدة في تفسير هذه الطفرة التي تعوضُ الانغلاق المنهجي بالتحاور بين العلوم والتيارات الفكرية المختلفة، في اتساع آفاق الحوارِ والتبادلِ والبحث العلمي من جهة، والتجدّدِ الذي طال طرق تشييد الموضوعات من جهة ثانية.
فرغم المكتسبات والنتائج الهامة التي راكمتها حقول متعددة في الاشتغال على موضوعاتها انطلاقا من رؤية منهجية محددة وصارمة، تنهضُ بالأساس على وصف ما يميزُ تلك الموضوعات، وتستبعدُ كل عنصر خارجي يمكنُ أن يشوش على الفهم والتفسير، فإن هذه النزعة الأكاديمية المنغلقة التي كثيرا ما نُظِرَ إليها باعتبارها مظهرا من مظاهر العلمية الصارمة، قد تعرّضت افتراضاتها المتمركزة منذ العقدين الأخيرين لضروب مختلفة من النقد والمساءلة، بسبب المساحات المعرفية التي صار الباحثون يستكشفونها، والفضاءات الجديدة التي يجترحونها لدراسة ظواهر وموضوعات من خارج تخصصاتهم، ومن منظور أشمل وأوسع يستثمرُ الافتراضات النظرية والمنهجية التي توفرها تخصصات وعلوم أخرى.
لقد أسس هذا التوجه لظهور حقول نظرية وبحثية جديدة دشنت البداية الفعلية لمرحلة الانتقال من التخصصات الضيقة إلى “العلوم المتداخلة”.
وهكذا ظهرت منذ سنوات الثمانينات من القرن الماضي إبدالات جديدة مثل الدراسات الثقافية، ودراسات ما بعد الكولونيالية، والنسوية، والتفكيكية، والتاريخانية الجديدة، تتميزُ على مستوى الخلفيات النظرية والأدوات المنهجية باعتماد مفاهيم ومصطلحات مستمدة من علوم أخرى كالتاريخ والجغرافيا والسوسيولوجيا والإثنوغرافيا والأنثربولوجيا والتحليل النفسي والنظرية السياسية والسياسة الاجتماعية…، وقد أدى انتشار هذه الحقول المعرفية على نطاق واسع إلى ظهور مجموعة من الأبحاث والدراسات تتسمُ بسمات خاصة، كونها تنحو منحى يقوم على تداخل العلوم وحواريتها. وهكذا لم يقتصر تأثيرها في حقل الدراسات الأدبية على توسيع موضوعها أي الأدب حيثُ صار يحيلُ على مكونات وأنساق شديدة الارتباط بـالثقافة اليومية والمتخيل في بعديهما الاجتماعي والتاريخي، مما أوجد مساحة للالتقاء بين الأدب وخطابات أخرى لها خصوصيتها، بل تعدّى ذلك إلى استعادة الاهتمام من جديد بالسياقات الثقافية والتاريخية والشروط التي ينتجُ في إطارها العمل الفنّي، وهذا ما مثلَ مجاوزة للمنظورات المغلقة التي تحصر وظيفة النقد في الوصف والتفسير، وترى إلى الأشكال الفنية على أنها العنصر الوحيد الذي يتيحُ للدارس التمييز بين الخطابات وإثبات أو نفي صفة الأدبية عنها. فمن وجهة نظر هذه التيارات التي هي تركيب لمجموعة من المرجعيات والأعمال، أصبح النقد “ممارسة فكرية وجمالية تحلل النصوص وتستكشفها وتستنطقهاّ، بل وتطرح عليها أسئلة أكانت نصوصا دينية أم تاريخية أم أدبية، بحيث تزحزح وظائفها التقليدية، وتدرجها في سياق وظائف جديدة”(1)، كما أن مفهوم الأدب لم يعد يحيل على حقل ثابت يمكنُ وصفه اعتمادا على مكونات وأنساق داخلية، وبمعزل عن السياقات التاريخية والاجتماعية التي تحيطُ به، خاصة بعدما أظهر الأدب، مع الرواية تحديدا، قدرة كبيرة على تملك الخطابات والنصوص والسجلات المختلفة لخدمة أغراضه الخاصة(2).
من المؤكد أن هذا المنظور المختلف لمفاهيم الأدب والنقد والقراءة والكتابة، والذي يستحضرُ العلاقة التي تشدّ الخطابات والنصوص باعتبارها ممارسات دالة على السياقات الثقافية والشروط التي تنتج في إطارها، بالإضافة إلى العناصر الضمنية التي تتدخلُ في عمليات التلقي، أي في الطريقة التي يتعيّنُ أن يقرأ بها النص، قد فتحَ الفكر الأدبي على آفاق جديدة، وسّعت مجالات القراءة والتأويل. وفي هذا السياق يمكنُ اعتبار المقاربات المتجددة التي تنهلُ من مرجعيات مختلفة لاستكشاف الأبعاد الاجتماعية لظاهرة الأدب، وتلمّس ما يمكن أن يقدمه (أي الأدب) بالنسبة لعلم الاجتماع على مستوى بناء الموضوع، وإخصاب خيال السوسيولوجي، يمكن اعتبارها من أكثر المقاربات تمثيلا لهذا التوجه الذي يتأسسُ على التفاعل بين ممارستين معرفيتين مختلفتين. وثمة دراستان هامتان صدرتا في فرنسا في السنوات الأخيرة، تظهران أهمية هذه الحوارية بين الأدب والسوسيولوجيا.
الأولى بعنوان: الرواية بوصفها مختبرا: من المعرفة الأدبية إلى الخيال السوسيولوجي 2009 للباحثين آن بارير ومارتيكيلي دانيلو . والملاحظ أن هذا العمل تتبدّى قيمته النظرية والتطبيقية انطلاقا من خلال عنوانه، فالرواية ها هنا تتعينُ بوصفها مختبرا ينطوي على متن يَستحقُّ الدراسة، ذلك أن مكوناتها السردية والخطابية يُنظرُ إليها باعتبارها ذات قيمة كبيرة بالنسبة للباحث الاجتماعي، بحكم دورها في تعميق وحفز الخيال السوسيولوجي. ففي هذه الدراسة، إذن، تشكلُ الروايات المدروسة مادة خصبة من شأنها تمكين عالم الاجتماع من أدوات وعناصر جديدة لتوظيفها في التحليل الاجتماعي(3).
وهذا المنظور يشكلُ خلخلة ونقضا للتصورات الاختزالية التي تستبعدُ الأدب من حقل الممارسات المنتجة للمعرفة، وتجرده من أي وظيفة في المجال الاجتماعي سوى كونه لغة ذاتية المرجعية، وعملا تخييليا ينتجُ بغاية تحقيق المتعة.
أما الدراسة الثانية فتحملُ عنوان: فرانز كافكا: أسس لنظرية في الإبداع الأدبي(4) لعالم الاجتماع المعروف بيرنار لاهير Bernard Lahire، وصدرت سنة2011. وهي الأخرى يشغلها هاجسُ تقريب السوسيولوجيا من حقل الأدب، والإسهام في إنتاج فهم متجدد بالأعمال الأدبية، يتأسّسُ على منظور مختلف للنصوص المدروسة بحيث لا تكونُ مجرد أدوات يستعملها الباحثون، أي أن المقصود هنا ليس البحث في النصوص عمّا يكون القارئ مدفوعا إلى تلمّسه دون مراعاة كون النص يمثلُ كلية وله تماسك داخلي، وإنما البحث الذي يكونُ تأويلا بالمعنى الذي يحدده أمبرطو إيكو(5) للتأويل، أي القراءة التي يشغلها هاجس مراعاة التماسك الداخلي والخصوصية المميزين للعمل المقروء.
وبما أن مجال هذه القراءة لا يتسعُ لتقديم ومناقشة الدراستين معا، فإننا سنقتصرُ على قراءة كتاب بيرنار لاهير بالتركيز على إبراز خصوصية موضوعه، وصرامة منهجيته وقدرته التأويلية، مما سيتيحُ لنا التعرّف إلى الخصوبة التي تتمتعُ بها بعضُ الأعمال والدراسات التي تتناول الأعمال الأدبية بالاستناد إلى عدة نظرية مستقاة من خارج الأدب، ليس بهدف جعلها تفصحُ عن “عن معنى خفي يلخص توجهها الفكري، بل لإيضاح بنيتها المتعددة التي تحتمل، لكونها متعددة، طرائق متمايزة في المقاربة”(6).
2 – أهداف الكتاب ومظاهر جدّته
يًمهدً عالمُ الاجتماع الفرنسي برنار لاهير لدراسته الجادة والمعمقة في أعمال الرّوائي العالمي فرانز كافكا بالأسئلة التالية: هل بالإمكان اختراقُ مجهولات الإبداع الأدبي؟ والسوسيولوجيا أهي في مستوى الخوض في مغامرة مثل هاته، خاصة عندما يتعلقُ الأمر بإبداع فردي كالإبداع الأدبي؟ هل تستطيعُ السوسيولوجيا النفاذ إلى صميم العمل الأدبي بدل أن تظل على هوامشه؟
هل هي مؤهلة لفهم أعمال تتميزُ بالصعوبة والغرابة، وتتحدى أكثر من قارئ يريدُ فك مغالقها؟
تلخصُ هذه الأسئلة حرص الباحث على بلورة أسس علمية لتصور سوسيولوجي متماسك لدراسة أعمال الروائي فرانز كافكا في ضوء الشروط التي أنتجت في إطارها. ومن اللافت للنظر أن هذا التصور يستندُ إلى مفهوم محدد للأدب يسعى من خلاله المؤلف إلى تبيانِ كيف أن شروط الوجود التي واجهها هذا الروائي العالمي خلال فترة حياته، قادته ليس فقط إلى الانجذاب للأدب، مثلما انجذب آخرون للتصوير والموسيقى، وإنما ساهمت كذلك في ظهور بعض الأسئلة والقضايا التي سيتم التعبيرُ عنها بطريقة معقدة في الشكل الأدبي. ومن هنا يرى بيرنار لاهير أن الكتاّب يشكلون جزءا لا يتجزّأ من جماعة منتجي الخطابات الذين يتميزونَ بوعي حاد بكون ما يريدون إنجازه من قول أو فعل، يرتهنُ للطريقة والشكل اللذين يتمّ بهما القول. وبما أن كافكا في جعبته الكثير مما كان يتوق إلى قوله وتقاسمه مع قرائه، فقد بلورَ مفهومه الخاص للأدب بالشكل الذي يؤمّنُ له إمكانيات أوفر للتعبير والقول، وإحداث التأثير المطلوب في قرّائه المحتملين. إذن، ليس الهدفُ بالنسبة للباحث في هذه الدراسة التي يجمعُ فيها بين الاشتغال بمناهج النقد والقراءة والتحليل السوسيولوجي، هو “التأكيد على أهمية الاختيارات الجمالية في دراسة الأعمال الأدبية بشكل عام، وأعمال كافكا على وجه خاص. وإنما إبراز أن هذه الاختيارات الجمالية لا تفهمُ بشكل أعمق إلا بربطها بالشروط الاجتماعية المحدِّدة، وإرغامات السياق الاجتماعي، لأن تلك الاختيارات الجمالية غير مفصولة عمّا يحرصُ كافكا على التعبير عنه من خلال أشكال الحبك العديدة(7)”. هذا يعني أن أنماط الإدراك والسلوك التي تميزَ بها كافكا، ذات تأثير عميق في إبداعاته. ومن ثم فالدراسة الاجتماعية للسيرة الاجتماعية للفرد تعدّ ها هنا أساسية ومحورية لفهم ممارسته الإبداعية.
في هذا السياق يعرّفُ بيرنار لاهير السوسيولوجيا التي يتقصّدُ إلى وضع أسسها، بأنها ليست تلك التي تُطبّقُ شبكة قراءة على العمل الأدبي أو على حياة الكاتب للكشفِ عن البعد الاجتماعي، كما أنها ليست تلك القراءة الشاملة لعمل ما أو للأدب ككل، وإنما هي سوسيولوجيا تنشغلُ أساسا باجتراح وبلورة أدوات ومفاهيم تسمحُ بفهم سيرورة إبداع العمل الأدبي من وجهة نظر “الأفق” و”الظروف” الداخلية والخارجية التي عاشها الكاتب. ووفق تصوره، فالسوسيلوجيا لم تظهر كعلم لأجل تلبية حاجات عشاق ممارسة التأويل أو الإنجاز الهيرمينوطيقي، وإنما ظهرت كي تُسهمَ في إنتاج بعض الحقائق حول العالم. إن فهم كاتب وعمله الفني، أي المنطق المنظم لحياته ولأفعاله الكتابية، انطلاقا من هذه القراءة السوسيولوجية، لا يعني استعادة ما كتبه أو التعليق عليه بطريقة يبدو فيها القارئ كما لو أن همّه الوحيد هو تحقيق التطابق مع ما فكر فيه الكاتب. إن فهم الكاتب –إذن- يفترضُ، بخلاف ذلك، إعادة بناء السياقات الاجتماعية التي تحيط بإبداعه، خاصة الأطر الناظمة لتجربته الذهنية والاجتماعية(8).
يمكنُ القول إن هذه المقاربة المعتمدة من قبل الباحث تتجاوزُ إشكالية الفصل بين الشكل والمضمون، العبارة والمحتوى، وذلك بالتركيز على الأدوار والوظائف التي ينهضُ بها الشكل الأدبي في إبراز التجربة التي عاشها الكاتب. فالقول والفعل والشكل بالنسبة للباحث، هي وحدات مترابطة ومتداخلة فيما بينها، وهي مظهر لحقيقة واحدة، بحيث لا يمكنُ البحث عن مضمون عمل أدبي ما بمعزل عن التفكير في الشكل الذي من خلاله يمرّر النص خطابه إلى القارئ. ويرى برنار لاهير أن الفصل بين الشكل والمضمون قد صاحب القطيعة بين السوسيولوجيا والعلوم الاجتماعية، من جهة، واللسانيات وعلوم الإنتاجات الرمزية من جهة ثانية. فالواقعُ الذي تعنى بدراسته هذه العلوم واحد، لكن العلاقات بينها تتسم بالانقطاع بسبب سيادة نمط معين في تنظيم الدراسات حول الواقع الذي نعيش فيه(9).
إن هذا المنظور الاجتماعي للشكل الأدبي يجدُ سنده في كون الأدب الطليعي الذي يتعينُ كافكا من أبرز ممثليه، من سماته الربط بين التجديد على مستوى الشكل والسعي للتعبير عن أسئلة جديدة. ومن هذه الزاوية يرى الباحث أن النص القصير الذي أبدعه كافكا لا يمكنُ أن يفهم على نحو جيد إلا من خلال ربطه بسلسلة من المحدّدات. بعضها متصل بالوقت الضيق الذي كان متاحا له لممارسة الكتابة وهي بالنسبة له “حرفة ثانوية”. وهذا الشرط سيفرضُ على كافكا اللجوء إلى نوعية من النصوص يُمكنُ أن يكتبها في وقت ضيق ومحدود. وكذلك اعتماد طريقة خاصة في الممارسة الإبداعية تقومُ على الانصراف الكلي، في لحظة مكثفة من الزمن، إلى النص الذي يبدعه. وعلى هذا الأساس، فالطريقة الملائمة لكاتب مثل كافكا، والتي يشعرُ من خلالها أنه قادر على العطاء، هي نموذج الكتابة التي يبدأها ثم ينتهي منها كليا خلال ساعات. لا يعني هذا أن كافكا لم يجرّب كتابة نصوص طويلة، فلا شك أن رواياته تعدّ خير دليل على هذا التوجه، وهي روايات ظلت غير مكتملة ولم تنشر إلا بعد وفاته. لكن السؤال الذي يمكنُ طرحه هو: لماذا هذا الرّهان على كتابة الرواية، خاصة عندما نعرف أن الأمر الأنسب بالنسبة لكافكا هو النص القصير؟
تظهرُ هذه الدراسة الجادة أن التوجه من قبل كافكا نحو كتابة الرواية، لم يكن مفصولا عن الصورة السائدة عنها كجنس أدبي في المجتمع الأدبي خلال الفترة التي عاش فيها هذا الكاتب. لقد كانت الرواية، بخلاف القصص القصيرة، تتعينُ من بين أكثر الممارسات الإبداعية تحقيقا للاعتراف الأدبي، كما أنها كانت تحظى برواج وتداول أوسع بين القراء. وهذا ما كان كافكا في أمس الحاجة إلى تحقيقه في هذه المرحلة من حياته. وبما أنّ النصوص دائما تتحدثُ عن العالم، أو عن التجارب التي يكونها البشر عن العوالم التي يعيشون فيها، سواء أكانت هذه العوالم ذهنية وذاتية أم خارجية، فإن التحولات والتغيرات التي تحدثُ على مستوى الشكل الفني والأسلوب تمثلُ محصلة ذلك البحث من أجل التعبير عن شيء جديد خاص ومختلف عما تم التعبير عنه في التجارب السابقة. هذا التصورُ الذي يشددُ على خصوصية الموضوع الجمالي وطابعه التاريخي، بقدر ما يستفيد فيه لاهير من معرفته بالقصورات التي اعترت الدراسات الاجتماعية السابقة التي وقعت تحت تأثير الرؤية الانعكاسية، مما فوت عليها إمكانية مراعاة خصوصية النص الأدبي باعتباره عملا فنيا مستقلا، وكذلك الدراسات التي تأثرت باللسانيات البنيوية والتي استحكم بها هاجسُ التمييز بين النصوص من حيث النوع والجنس فقط بالاقتصار على التحليل الداخلي الذي يتقصّى مظاهر الأدبية. هكذا يستثمرُ لاهير المكاسب التي حققتها بعض الأبحاث المعاصرة في حقل الأدب، ومؤسّساته، وتاريخ الفن مثل أبحاث بيير بورديو حول هيدجر، رغم أنه ينتقد تصور بورديو ويراه بوصفه تصورا اختزاليا يرتهنُ لمفهوم الحقل(champ)، وبالتالي يهتم بالمنتجين أكثر مما يهتم بالنصوص والأعمال. كما يستفيد من أبحاث إرفين بانوفسكي وميخائيل باكساندال، بالإضافة إلى أعمال كارل شورسك خاصة كتابه: “فيينا في نهاية القرن”.
لنقل إن النص الأدبي بالنسبة لـ برنار لاهير هو من الغنى والعمق بحيث يتعذرُ على الدارس أن يختزله في أبعاده الواقعية أو في مظاهره الشكلية. فالدنوّ من النص يتطلبُ دراسة مختلفة تقومُ على بناء شبكة من العلاقات المكثفة بين النصوص والتجارب الاجتماعية التي عاشها الكاتب. وعلى هذا الأساس يرى الباحث أن تشييدَ مقاربة تستفيدُ من السوسيولوجيا ومن علوم أخرى مجاورة هو أمر ممكن شريطة بناء منظور ملائم يأخذُ بعين الاعتبار طبيعة الموضوع المدروس ومستويات تعقيده. ولتوضيحِ هذا التصور يرى لاهير أن الباحثين الذين يتخذون النصوص الأدبية موضوعات للدراسة والتحليل بهدف استخلاص دلالاتها، والذين يقتطعون، لهذا الغرض، بعض الأجزاء من النص الدالة على ما يتقصّدون إلى كشفه ينبغي أن يوحدهم جميعا هاجسُ الوعي بضرورة أن تكون الدراسة واضحة في منظورها وفي خلاصاتها. وعندما يكونُ النّص النقدي أكثر التباسا وغموضا من النص المدروس، ينبغي أن نطرح بكل جدية سؤال ما الحاجة لهذا النقد. إن هذا الوضوح الذي يشددُ عليه برنار لاهير يغدو مسألة ضرورية عندما يتعلقُ الأمر بدراسة كاتب مثل كافكا يكثرُ من استدعاء الصور المضللة، وضروب اللايقين المعيش من قبل الشخصيات، والوضعيات الغريبة والمقلقة.
لا شك أن برنار لاهير هو يتقصّى العوامل والشروط التي كتب في ضوئها هذا الكاتب التشيكي أعماله الإبداعية مركزا فيها على موضوعات محددة، وبطريقته المميزة والخاصة في الكتابة، فإنه يبدي في هذه القراءة وعيا معرفيا عميقا وجادا، ليس فقط بالموضوع الذي يفكر فيه، وإنما كذلك بالمنهج وأدوات القراءة. لذلك نلاحظ أن من بين الأهداف التي يطمحُ لتحقيقها هي إظهار الإضافة التي يمكنُ للسوسيولوجيا أن تقدمها في مجال لم يكن متاحا بالنسبة لها من قبل. مجال غالبا ما نُظِرَ إلى المعرفة التي ينطوي عليها بأنها غير حقيقية أو مشكوك فيها. وليس في الأمر أي تزيد إذا قلنا إن هذه الدراسة ليست بالنسبة له، وهو باحث اجتماعي معروف قدم للسوسيولوجيا أعمالا شديدة الأهمية، مجرد لحظة للتأمل والتفكير في العمل الفني، مثلما يفعلُ بعضُ الباحثين من حقول أخرى خارج الأدب عندما يهمّون بالتفكير فيه. بل هي تندرجُ ضمن مشروعه السوسيولوجي الواسع الذي وضع أسسه في أعمال عديدة، يكفي أن نذكر منها دراسته اللماحة والمطولة بعنوان: الشرط الأدبي: حياة الكتاب المزدوجة (2006).
3 – بنية الكتاب
تتكونُ هذه الدراسة من أربعة أقسام. الأول بعنوان أسس لنظرية في الإبداع الأدبي، والثاني: صناعة الكاتب، أما الثالث فعنوانه: في حقيقة الأدب، والقسم الأخير جاء بعنوان: الهيمنة ووجهة نظر المهيمن عليهم. ويمكنُ القول إن الأسئلة السابقة التي انطلق منها الباحث ينتظمها سؤال أساس ومحوري يتسلط عليه الاهتمام هو كالتالي: لماذا فرانز كافكا يكتب ما يكتب بالطريقة التي يكتبه بها؟
قد يتساءلُ البعض لماذا دراسة أعمال فرانز كافكا بالتحديد؟ وفي هذا السّياق يرى لاهير أن ثمة أسبابا عديدة تبرر هذا الاختيار وتعطيه المشروعية. منها أولا أن كافكا يبدو لهذا الباحث، في دراسات أخرى سابقة، كاتبا ذا رسالة محددة، غير أن النهوض بها فرض عليه أن يزاول “حرفة ثانوية”(second métier). من هنا فإن دراسة حالة هذا المبدع، تساعد على امتلاك الأدوات والوسائل الملائمة لفهم كتاب آخرين تقاسموا معه نفس الشروط الاجتماعية والاقتصادية والأدبية لممارسة نشاط الكاتب. إنهم كتاب أنتجوا أعمالا إبداعية ليس بهدف الربح المادي والرفاه الاقتصادي، وإنما استجابة لحاجة أو ضرورة داخلية. هؤلاء الكتاب، ولهذا السبب، لا يستطيعون العيش اعتمادا على عائدات أعمالهم، ولذلك فهم مجبرون على ممارسة حياة أخرى مزدوجة، موزعة بين ممارسة الإبداع وامتهان حرفة أو وظيفة تحقق عائدا ماديا، وغالبا ما تكون بعيدة عن عالم الإبداع. أما السبب الثاني فيكمنُ في كون أعمال كافكا تمثلُ تحديا علميا بالنسبة للسوسيولوجي. فكافكا يعدّ من بين الكتاب العالميين الذين يمثلون الأدب الطليعي، مثل فلوبير وبروست وجويس وفولكنر، فقد ترك أعمالا ما فتئ النقاد يصنفونها بوصفها أعمالا لغزية وغير مألوفة، كما أنها مسكونة بالعجائبي والعبثي والخيال الجموح. ورغم ذلك فإن كتاباته التي تستمد نسغها من شروط خاصة عاشها، تمكنت من اختراق الحدود المحلية وارتياد أفق العالمية. إن هذه المقومات التي تتمتعُ بها أعماله الأدبية هي التي تجعلُ من مسألة وجود قراءات متجددة لقراء ينتمون إلى تجارب مختلفة ويؤولون النصوص انطلاقا من سياقات وآفاق متباينة، أمرا ممكنا وقابلا للتحقق. وبهذا المعنى يكون كافكا كاتبا مختلفا. أي أنه لا ينتمي إلى تلك الفئة من الكتاب الذين يمكنُ بسهولة لعالم اجتماع أن يقرأ أعمالهم. وحدها الدراسة المتأنية والعميقة التي تتكئ على السيرة الاجتماعية(la biographie sociale) وتتفحصُ الشكل الأدبي (من الجنس إلى الأسلوب) يمكنها أن توفي كاتبا مثل كافكا حقه. ولكي تكون هذه الدراسة السوسيولوجية في مستوى الإجابة عن تلك الأسئلة الكبرى يتعينُ أولا مواجهة سؤال من هو كافكا الذي ولد سنة 1883 ببراغ وتوفي بعد واحد وأربعين سنة متأثرا بمرض السل؟
للإجابة عن هذا السؤال، وبغية إنتاج معرفة عميقة بأعمال كافكا، يرى المؤلفُ أنه لا ينبغي الاقتصار على تكثيف سيرة هذا الكاتب في بعض العناصر الاجتماعية. بل من الضروري تقصّي ما يسميه لاهير تكون الكاتب اجتماعيا منذ التجارب العائلية المبكرة، وصولا إلى تلك التي اختبرها في أواخر حياته. ها هنا تمثلُ السيرة الاجتماعية أحد المرتكزات التي يقومُ عليها التحليل الاجتماعي في هذا الكتاب. وقد أتاح هذا الأسلوب للباحث رسم الخطوط العريضة للتنشئة الاجتماعية التي تعرّض لها كافكا، والتجارب المختلفة التي تدخلت في تكوين شخصيته. إن هذه المنهجية التي تتوقفُ عند محطات مختلفة من حياة هذا الكاتب العالمي يشبهُ عملها دور الكاميرا. فالأضواء المكثفة التي تتسلّط على هذه المحطات وتجليها، تنتهي إلى تشكيل صورة واضحة عن الوضعية التاريخية الموضوعية بشروطها الاقتصادية والسياسية والثقافية واللغوية التي واجهها كافكا مثلما واجهها من كانوا يعيشون بـ براغ في نفس الفترة. غير أن هذه الصورة الموسعة ليست كافية، بل يتطلبُ الأمر بناء تصميمات مصغرة يكونُ الهدفُ منها وصف مجموعات أو أوساط محدودة( الجيل، جماعة الأسرة، الوسط المدرسي، دائرة الأصدقاء)، قبل التركيز على كافكا وعلى مميزاته الذهنية والسلوكية. وبالنسبة للباحث، فالانطلاق من تكون الكاتب اجتماعيا يمثلُ مرحلة أساسية للانتقال إلى فحص وتحليل تكون الكاتب أدبيا بمميزات أسلوبه وخصوصيته الشكلية والموضوعية.
من المؤكد أننا إزاء دراسة تطمحُ إلى الاستفادة من علوم وخطابات مختلفة بغية بناء معرفة مغايرة بالعمل الأدبي لكافكا، لا تكون استنساخا للدراسات والأعمال الكثيرة التي تناولت هذا الكاتب في لغات مختلفة. وهذا ما يمثلُ تحديا منهجيا كبيرا، يتمثلُ أساسا في استخلاص العناصر وبناء الجسور بين مفاهيم تنتمي لمجالات وحقول غير متقاربة. تكفي ها هنا الإشارة إلى كون هذه الدراسة تستدعي أعمال مؤرخي المجتمع والثقافة وأبحاث المتخصصين في الشيء الأدبي، مؤرخين ولسانيين وسوسيولوجيين، بالإضافة إلى سوسيولوجيي التنشئة الاجتماعية(الأسرة، المدرسة..) وانتقال الإرث المادي والرمزي بين الأجيال. وهذا الحقلُ الواسع الذي يمتحُ منه بيرنار لاهير هو الذي مكنه من العثور على الأدوات والمفاهيم التي أسعفته في التفكير في أشياء غير مفكر فيها، أو أسيء التفكير فيها. فاستحضارُ الانتقادات التي يوجهها هذا الباحث للدراسات السابقة التي تناولت كافكا على اختلاف توجهاتها ومنطلقاتها النظرية والمنهجية من قبيل صدورها عن تصور ضيق يهملُ جوانب أساسية وشديدة الأهمية. فبعض الدراسات التاريخية أو المتأثرة بسوسيولوجيا الأدب لا تهتم سوى بالعالم الأدبي، كما أن دراسات أخرى تستفيدُ من التاريخ الاجتماعي والثقافي والديني لا تشتغلُ سوى على فئات يهود أوروبا الشرقية أو براغ نهاية القرن التاسع عشر. في حين ثمة دراسات أخرى تهتم فقط بالسيرة الأدبية أو تقوم بالتركيز فقط على مسألة المصادر والتأثيرات الأدبية لكافكا وبراغ. إن استحضار هذه الانتقادات يمكنُ من فهم ذلك التقصي العميق للنص الكافكاوي، وتلك القدرة التأويلية التي يفكك بها الباحث جوانب مختلفة من عالم هذا الروائي، وما يعتريه من ضروب الالتباس والتعقيد والاستعصاء على السبر. فكل مظهر من مظاهر نص كافكا، سواء تعلق الأمر بالمقومات الأسلوبية والخصائص الفنية، أو بالقضايا والأفكار التي يعبّر عنها، يجد أساس تفكّره وتأويله في الشروط الاجتماعية التي عاش فيها هذا الروائي، بدءا من العلاقة بالأسرة، وصولا إلى الجسم الاجتماعي الواسع.
تركيب:
لعلّ من أهمّ الخلاصات النظرية المهمة التي يمكنُ أن نستقيها من هذه الدراسة، والتي تقدم أوفى دليل على جدتها ورصانتها، هو أن الامتناع عن طرح السؤال عن الكيفية التي بها يستطيعُ العمل الأدبي أن يكون فضاء لانتقال بعض العناصر الإشكالية والشروط المحددة لما عاشه الكاتب، وتبرير ذلك التوجه بدعوى مراعاة استقلالية العمل الأدبي، سيؤدي، حتما، إلى إضاعة قدر كبير من المعنى. فعبر العمل الأدبي، أي الأشكال والطرائق الفنية الخاصة بالأدب، تتشكلُ وتتوضّع القضايا المعيشة والتجارب الحميمية التي يتعذرُ التعبير عنها دائما بشكل آخر. إن عناصر هذه الإشكالية لا يمكنُ أن تكون موضوعا للفهم والتفسير إلا من خلال جهد علمي يعيدُ بناء السيرة الاجتماعية للكاتب. وبهذا المعنى، يمثلُ كتاب بيرنار لاهير ردا قويا على القراءات المحايثة والاختزالية بأشكالها المتعددة وخلفياتها النظرية المتباينة التي يوجهها فهم نهائي وناجز للموضوع الذي تتناوله. ليس فقط تلك التي تعزلُ العمل الأدبي وتراه بوصفه موضوعا مكتفيا بذاته، وإنما كذلك القراءات التي تختزلُ الكاتب إلى مجرد موقع في الحقل، وتهمشُ السيرة الاجتماعية، ولا تعترف بالخصوصية الفردية للكاتب. فانطلاقا من هذه القراءة التي يتبناها بيرنار لاهير والتي يحضر فيها كافكا موضوعا ملائما للدراسة السوسيولوجية، بنفس الشكل الذي مثله فلوبير بالنسبة لسارتر أو بيير بورديو، يتضحُ أن قدرة الباحث الاجتماعي على إنتاج الفهم بالعمل الأدبي هي محصلة اللقاء بين النص وعالم قارئه، وبالأخص المعارف الأدبية والثقافية وغبر الثقافية المتنوعة التي يمتلكها. إن هذا القدر المتنوع من المعرفة الخارج نصية التي يحركها القارئ الناقد، هو الذي يؤهله لإقامة حوار منتج مع النص الأدبي، يمكنه من أن يجد فيه ما يكفي من العناصر التي يتحدث بها عنه. وبهذا المعنى يستردُّ لاهير للدارس باعتباره قارئا ذاتيته التي سبق أن حُرم منها، ودوره المحوري في بناء الفهم بالنصوص.
الهوامش:
1 – عبدالله إبراهيم: المحاورات السردية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت2012، ص23.
2 – Bernard Lahire, Franz Kafka, ?léments d’une théorie de la création littéraire, éditions La découverte, Paris 2010, p577.
3 – BARRERE Anne, MARTUCCELLI Danilo, Le roman comme laboratoire. De la connaissance littéraire à l’imagination sociologique, Lille, Presses universitaires du septentrion, 2009.
4 – Bernard Lahire, Franz Kafka, ?léments d’une théorie de la création littéraire, éditions La découverte, Paris 2010.
5 – Umberto Ecco, les limites de l’interprétation, Grasset, Paris, 1992.
6 – بيير ماشيري: بم يفكر الأدب؟ تطبيقات في الفلسفة الأدبية، ترجمة جوزيف شريم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت2009، ص25.
7 – Bernard Lahire, Op, Cit, p578.
8 – حول تعريف السوسيولوجيا الذي يقترحه بيرنار لاهير راجع خاتمة الكتاب بعنوان: أشكال، اقتراحات، تأويلات، من ص577 إلى ص599.
9 – Bernard Lahire, Op, Cit, p579.