*هيثم حسين
يبوح التشيكي فرانز كافكا (1882 – 1924) في كتابه “رسائل إلى ميلينا” بمشاعره التي كان يحرص على إبقائها في داخله، بعيدة من الكشف والكتابة، ويفسح المجال أمام قلبه للاعتراف للمحبوبة بلواعجه، وأشواقه، وأحزانه وآماله بالوصال، ومأساة البعد والجفاء، ولا يقيد رسائله برؤاه الكابوسية والأجواء الغرائبية التي سادت كتاباته وبلورت شخصيته الفريدة كمؤلف استثنائي.
كانت رسائل كافكا إلى ميلينا بمثابة نافذة يشرعها لمشاعره المخبوءة وما يعتمل في أعماقه من صراعات لا تهدأ، وكان الحب دافعاً ومحرضاً له على البوح والكشف والاعتراف، يتعرّف القارئ في رسائله إلى شخصيته الحسّاسة التي كان يحاول حجبها كي لا يتمّ تظهيرها بصيغة ما في أعماله التي اصطبغت بصبغة عجائبيّة.
تواصل روحي
كافكا الذي عرف بأنّه رائد الكتابة الكابوسية أو الغرائبية، كان يفضل العزلة، ويعيش معاناته وحيداً، بمعزل عن محيطه الأسريّ والاجتماعيّ، وجد في مراسلاته لميلينا مخرجاً من تعاسته، لا سيما أنه كان مشهوراً بعلاقته السيئة بوالده الذي كان يخطط له أن يكون رجل أعمال من بعده، لكنه لم يمضِ في الطريق التي رسمها له، وفضل أن يخطّ طريقه في عالم الإبداع.
تكون الرسالة الأولى من كافكا إلى ميلينا مؤرّخة في نيسان سنة 1920، ولم يكونا قد ارتبطا بعلاقة حبّ أو زواج بعد، وكانت ميلينا لا تزال في فيينا، تعاني من صعوبات في زواجها الأوّل، وتحاول أن تخطّ دربها في عالم الكتابة والصحافة والترجمة، وبعد ذلك قامت بترجمة أوّل عمل من الألمانية إلى التشيكية، وكان ذاك العمل رواية فرانز كافكا التي وطدت علاقتهما كثيراً ومهدت لارتباطهما لاحقاً.
تشكل كتابته لرسالة إلى حبيبته ميلينا مناسبة تستحقّ الاحتفال لديه. يتذكّر لقاءه الأول معها في فيينا، ويصفه بأنه كان سريعاً، شبه صامت، وأنها كانت لا تزال غريبة في فيينا ويذكر أنها كانت سعيدة في غربتها، وأنها رغم صعوبة حياتها فيها كانت تستمتع، ويسألها إن بقيت كذلك، ويقول لها ربما أن استمتاعها ببلد غريب بتلك الصعوبات التي عاشتها فيها هي دلالة سيئة، وأن سعادة كتلك غير موجودة.
يبوح كافكا لميلينا بأن أكثر ما يهمه هو أن تكون بخير وتعيش بسعادة، وتراه يراجع نفسه بين الرسالة والأخرى متسائلاً ما إن كان قد أزعجها أو أغضبها بشيء، ويقول لها إنه لا يتحمل ضياع لحظات السكون التي يعيشها حين يقرأ كلماتها. ويقدم لها بعض الاقتراحات بتغيير حالتها ومزاجها والسفر إلى مناطق مميزة، ويعبر لها عن انتظاره لها، وأنه ليس له إلا انتظار أحد الأمرين، أن تواصل صمتها الذي يعني له أنها بخير، أو يقرأ بضعة أسطر تخطه إليها تطمئنه عليها.
يعبّر كافكا لميلينا عن أسفه حين سماعه بمرضها بذات الرئة، ويحدّثها عن مرضه قليلاً، يخبرها أنه ينظر إلى مرضه أحياناً من جانب إيجابي، يراه أفضل ما حدث له، عرّفه إلى أناس مميزين، ويطلب منها ألا تهمل علاجها أبداً، ويطلب منها التوقف عن ترجمة أعماله لحين تحسن صحتها، ويؤكد لها أنه لن يسامح نفسه إذا كانت تعمل على ترجمته بينما هي معتلّة وتعاني آلام الرئة وتحتاج لنقاهة.
يتحدّث كافكا عن نوع من التواصل الروحيّ بينهما، وكأن صحتهما صدى لبعضهما بعضاً، يمرض حين يسمع باعتلالها، ويتحسّن حين تتحسّن هي، وحين علم بخبر مرضها، ويسألها أن تلازم الفراش، أو تتجه إليه، ويقول إنه مشغول بها باستمرار، ذلك الانشغال الذي لا يتعدّى التفكير، يعرف عن مرضها، ويفكر في مرضه هو نفسه، لأنها بالنسبة إليه تتجسّد بصحته ومرضه.
قوة الكتابة
يسرّ صاحب “المحاكمة” لحبيبته أنه شعر بالإحباط حين أخرج ترجمة الكتاب من الظرف الكبير، ولم يجد رسالة منها. فكيف له أن يسعد بسماع صوت كتاب يعلم ما فيه جيداً في حين كان ينتظر سماع صوتها. ويتساءل لماذا دخل صوت الكتاب بينهما، وتراءى له أن الكتاب وسيط بينهما. ويعبّر لها عن إعجابه بعملها الكبير في الترجمة والإخلاص والأمانة التي تم بها العمل، وأنه لم يكن يتوقع أن يترجم عمله إلى التشيكية حتى رأى قدرتها على صف الكلمات بطريقتها التي يصفها بالخلابة.
يصف صاحب “التحول” قوة الكتابة وتأثيرها الإيجابي فيه، وكيف أنها تحسّن مزاجه وتخفف من أرقه، يخبرها أن بإمكان الكتابة أن تكون مفيدة للمرء، وأنه يكون أهدأ مما كان عليه قبل كتابته، وإنه استفاد من درس واقعي شاهده بين خنفساء وسحلية، يصوّر سقوط خنفساء أمامه على ظهرها، وتحاول جاهدة أن تنقذ نفسها، وهي تبعد عنه مسافة خطوة وكان بإمكانه التحرك لمساعدتها لكنه لم يستطع أن يترك رسالته لأنه كان منجرفاً في خياله، وحين رأى سحلية تزحف باتجاه السلحفاة قام بقلبها لتستعيد الخنفساء هدوءها ثم تسرع هاربة وكأن شيئاً لم يكن.
يكتب لها عن أحلامه وهواجسه، يخبرها أنه حلم بها مجدداً وكانا جالسَين متجاورين، وكانت تتجنبه، ليس بطريقة مغضبة وإنما بطريقة ودية لطيفة، ولم يكن سعيداً إطلاقاً، ليس لأنها دفعته بعيداً منها، بل لأنها تعاملت معه كامرأة خرساء، حين تجاهل كلماتها الموجهة له، وأنه ربما لم يكن يتجاهلها بقدر ما كان غير قادر على الرد، لتتركه بائساً أكثر من المرة السابقة.
يصرّح لها برعبه من الصراع الدائم بين اليهود والمسيحيين، وكيف يمكن لذلك أن يتسبّب في كوارث خطيرة، وأنه سيصعب عليها أن تتخيل القوة والضراوة بينهم، وبرغم أنها من المرجّح أن تفهم تفاصيل القصة أكثر منه، لكن ما لا تستطيع فهمه كيف لشعب كامل أن يتبع مثل طقوس القتل التي يصفها، وكيف أن قلوبهم امتلأت بالغيرة والخوف، ومأساة الجرائم المقترفة.
يعبّر كافكا لحبيبته ميلينا عن استغرابه لأنه يشعر بأنه لا يستطيع أن يكتب عن شيء إلا عما يخصهما فقط، في ذلك العالم المضطرب، وكيف أن كل شيء يبدو غريباً عنه، ويجد أن ذلك خطأ منه، وأن شفتيه متوهجتان ورأسه مستلق في أحضانها، يشعر بوجوده الدائم وقربها الكبير منه.
يلاحظ القارئ تغير حالة كافكا النفسية بين الرسالة والأخرى، مع طغيان جانب السوداوية جرّاء البعد والمواقف التي كان يجد نفسه فيها، كان يحيا في الرسائل حياة مختلفة عن واقعه، يحاول تفادي الإحباطات والإزعاجات الكثيرة التي كانت تحيط به، وكانت ميلينا بالنسبة إليه القلب الحنون، مركز العالم الذي يبقيه متوازناً ومحتفظاً ببصيص أمل وسط العتمة الحاجبة التي كانت تغرقه.
___________
(*)الكتاب من “منشورات الأهلية”، عمان، ترجمة هبة حمدان 2017م.
*المصدر: المدن