لعلها الصدفة أن أزور بيت أسرة الفنانة التشكيلية ربا أبو دلو لأبارك لها ولأسرتها تفوق ابنتهم نوران بالثانوية العامة، هذه الطفلة التي كبرت في غفلة من الزمان فقد عرفتها من قبل عشر سنوات، وما زلت أشعر بها طفلة وإن كبرت، فشاهدت بعض من أعمال ولوحات الفنانة ربا ومنها مشهدين لمواقع أثرية لم أراها من قبل فسألتها عنها، فقالت: هذا سبيل الحوريات بعد أن تم ترميمه وافتتاحه قبل عام بمهرجان فني وثقافي، وهذه لوحات شاركت بها في مناسبة افتتاح المكان، ففوجئت بذلك فالمكان في ذاكرتي كان مهمل ومغلق ولم نكن نشاهد منه ألا قسمه الخلفي ملوثا بدخان السيارات، وحتى حين جرت عملية تنقيب وترميم لاحقة بقي المكان مغلق في وجه الزوار، فقررنا الذهاب إلى وسط المدينة ربا ونوران وأنا لنجول في هذا المعلم المهم بعد ترميمه.
أوقفت السيارة في مصف سيارات في شارع الأمير محمد قريب من قلب المدينة واتجهنا سيرا على الأقدام عبر شارع الملك فيصل وعبرنا فرع شارع السعادة إلى ساحة المسجد الحسيني الكبير ومنه إلى منطقة “حسبة الخضار” خلف سوق السكر لندخل إلى ساحة مرممة تشكل مساحة سبيل الحوريات، هذا المعلم التاريخي الذي كان يشكل جمالية معمارية مختلفةقبل 2000 عام حين كان الرومان يحتلون عمَّان ويسمونها فيلادلفيا، وكان هذا الأثر من أجمل الآثار التي تركها الرومان ومن أكثرها تميزا ولم أشاهد مثله في كل المدن التي تركها الرومان في الدول التي زرتها.
عمَّان كانت محط أنظار الغزاة منذ القديم فهي تمتلك موقعا استراتيجيا مهما، والأهم وجود سيل عمَّان الذي كان يشكل نهرا صغيرا يمتد من منطقة رأس العين جنوب غرب عمَّان التاريخية، حيث كان يسيل بقوة من عين الماء التي كانت متفجرة هناك، وفي الشتاء كان يتغذى من مياه السيول القادمة من المرتفعات المحيطة به، وكانت أيام خير وكميات الأمطار مرتفعة فيفيض السيل في الشتاء ويقسم المدينة إلى قسمين الشرقي والغربي، وما زلت أذكر مشهد السيل حين يفيض في طفولتي المبكرة وكيف كان يستمر بجريانه حتى منطقة رغدان حيث كانت تغور مياهه في الأرض، وما زلت أتذكر كيف كانت حوافه غابات من الأشجار، ومياهه تعج بالأسماك الصغيرة، وكيف كان مقصدا للناس للتنزه والاستمتاع بالطبيعة والماء، وعمَّان قبل أن تصبح عاصمة سياسية وتتوسع ويزداد عدد سكانها بالتهجير من فلسطين عامي 1948 و1967، كنت أذكرها بطفولتي حيث قلب المدينة ممتد من المصدار جنوبا حتى جسر رغدان شمالا، ومن منطقة المحكمة في شارع الملك حسين حتى مطالع الجوفة والأشرفية والمهاجرين وصولا إلى مطلع جبل عمَّان من شارع الأمير محمد.
والرومان حين احتلوا عمَّان وبنوا فيها فيلادلفيا، تم البناء على النمط الروماني حيث كان هناك شارعين مبلطين تحفهما الأعمدة أحدهما من الشمال للجنوب “شارع كاردو” ويمتد إلى سيل عمَّان وتحديدا قرب منطقة طلوع جبل الجوفة القريب من وسط المدينة مارا بالمدرج الروماني ومسرح “الأوديون” الشتوي بجوار المدرج الروماني وساحة رغدان والشارع بعرض ثمانية أمتار ونصف من بوابة عمَّان، والآخر “شارع دوكيومانوس” من الشرق للغرب وعند نقطة اللقاء بين الشارعين تقريبا كان سبيل الحوريات، وأنشأوا أدراج تصعد لجبل قلعة عمَّان حيث معبد هرقل مقابل المدرج، وبنوا سبيل الحوريات قبل المدرج على حواف سيل عمان “نيمفيوم nymphaeum” وتعني مبنىأو هيكل حوريات الماء، وكان مجرى السيل من عهد الرومان تغطيه بهندسة معمارية مذهلة للمهندسين الرومان القناطر التي تسهل الحركة بين ضفتيه وتحفظ مجرى الماء من التلوث ، ولكن العبث وأطماع البشر أزالت هذه القناطر واحدة إثر الأخرى، ومن ثم تم سقف السيل في سبعينات القرن الماضي بعد أن انخفض منسوب المياه فيه كثيرا وتحول إلى مكرهة صحية وفقد أشجاره وجماله وأصبح سقفه من جسر الحمام إلى المصدار إمتداد لشارع رئيس حمل اسم شارع قريش يتوسط بين شارع الملك طلال وشارع الطلياني حتى يلتقي ثلاثتهم مع شارع راس العين في جسر المهاجرين، والقسم الثاني من جسر المهاجرين وصولا إلى رأس العين تحول إلى متحف الأردن وساحات ومواقف سيارات وأبنية ومسرح وقاعات عرض للفنون التشكيلية وغيرها تتبع أمانة العاصمة بتصميم جميل ومريح، وأصبحت المنطقة أحد المراكز الثقافية المهمة في العاصمة عمَّان.
سبيل الحوريات من أهم الأثار المتميزة في فترة الرومان فقد بني على حافة سيل عمَّان وفوق كهف بداخله نبع ماء عذب كان يسقي المدينة، وكان الهدف من إنشائه أن يكون حماما ومسبحا وموقع ترفيه على قدر كبير من الفخامة يناسب علية القوم، فكانت الأميرات وكبار القوم يستخدمونه للاستحمام والسباحة والترفيه عن النفس، وكان بناءًا فاخرا متميزا حيث كانت واجهته الداخلية مكسوة بالرخام وحوض السباحة واسع وكبير، وفي أرجاء سبيل الحوريات كانت النوافير والأعمدة الرومانية المعروفة بطولها الذي يبلغ عشرة أمتار والتيجان عليها، وحسب بعض المصادر أن السبيل استخدم لنفس الغرض في عصور مختلفة منها البيزنطية والأموية والعباسية.
ما إن دخلنا من البوابة المعدنية حتى كنت أقف بانبهار أمام هذا التاريخ وبدأت أتجول بكل المساحات المتاحة، فمن الساحة الأولى المكسوة بالحصى حيث السبيل على يميننا، اتجهت بعد جولة في الساحة التي وجدت فيها لوحات ارشادية تعطي معلومات أولية جيدة باللغتين العربية والإنجليزية، فهمست لربا ونوران أنني أتمنى أن يتم المحافظة على هذه اللوحات وتجديدها لأنها ستتأثر بالعوامل الجوية، كما تأثرت يافطات في مواقع أثرية أخرى وأصبحت بدون أية معلومات، ولم يتم الاهتمام بصيانتها أو بتجديدها، ثم إلى الساحة الداخلية المبلطة بالحجارة، والأعشاب تنمو بين البلاطات والمفروض إزالتها أولا بأول قبل أن تتحول إلى عوامل تخرب ما تم إصلاحه، وبين الساحتين سور حجري وشجرة تين تنبت من الكهف الذي كان تحت الأرض، وحول الساحة والسور بقايا الأعمدة الرومانية وتيجانها وحجارة منقوشة بالزخارف والمنقوشات البارزة لحيوانات وزخارف وطيور والتي دمرت عبر الزمان بعوامل الطبيعة وبعض الزلازل، وعوامل بشرية لم تكن على وعي بقيمة هذه الآثار وتتعامل معها أنها ليست أكثر من أطلال وخرائب، وقد أشارت يافطة إرشادية أن هذه الساحة بني عليها بالفترة الأموية ومن حجارة السبيل وأعمدته خزان مياه، وأنه بفترة هجرة الشيشان والشركس وبعض القبائل العربية لهذه المنطقة استخدمت حجارة السبيل وأعمدته في بناء المنازل والمباني، وقبلها وفي مرحلة لم تكن عمَّان متألقة كان سبيل الحوريات خان ينزل فيه المسافرون المارون ويربطون دوابهم في ساحاته، والمؤسف أيضا أنني رأيت غطاء لمنهل تصريف مياه هابط بالساحة وموضوع عليه بعض قطع البلاط الحديث القليلة والتي لا تحمي شخص غير منتبه من إمكانية انهيار الغطاء تحته وتعريض حياته للخطر.
بعد إنهاء الجولة بالساحة المبلطة عدنا للساحة المفروشة بالحصى للصعود إلى السبيل وآثاره، وقد أشارت إحدى اليافطات أن بعض التماثيل التي وجدت في السبيل محافظ عليها في متحف القلعة، وتجولت متأملا القاعدة السفلية للسبيل فوق هذه الغرف القوسية والتي تشكل القاعدة للبناء، ومنها ممر للساحة الخلفية فنزلت الدرج الحجري والذي تم وضع درج خشبي بجواره ولكنه بحاجة لتصليح درجة فيه، متجهين للساحة الخلفية المطلة على شارع قريش، وهي الواجهة التي كنت أشاهدها حين أمر بالمنطقة قبل عام 1997 قبل عودتي للوطن المحتل وغيابي عن عمَّان ما يقارب أحد عشر عاما متواصلة، في فترة كان السبيل مهملا تماما حتى جرى الترميم الأولي في تسعينات القرن الماضي حتى بدايات عام 2000م من خلال دائرة الآثار العامة، والتي قامت بالتنقيب فيه وإخراج كل ما كان تحت الأتربة والأوساخ من آثار حتى اكتشف ما تبقى منه، ولم أكن في عمّان ولكني شاهدت الترميم بعد عودتي لعمَّان وكانت البوابات مغلقة في وجه الزوار فالتقطت عدستي مجموعة من اللقطات من الخارج.
في الساحة الخلفية جرى تنظيف الحجارة في عملية الترميم الأخيرة التي قامت على أسس علمية خاصة بالترميم من السواد بسبب عوادم السيارات ومن الأملاح التي كانت تأكل حجارة السبيل، وجرى تبليط الساحة الخلفية والتي شارك بها طاقم متخصص كانت مدير المشروع فيه د. عبير البواب والتي شاهدت وقرأت العديد من المقابلات معها ومع زملائها والتي زودتني بها رفيقة الجولة الفنانة ربا، وشعرت حجم الجهد الكبير الذي بذلته د. عبير وزملائها، ومعها طاقم متخصص منه د. محمد الخليلي مدير أعمال الترميم والصيانة، د. رمضان عبد الله ونزار العداربة و د. يحي الشوابكة و د. مروان أسمر
وكل له مهامه، إضافة للجنود المجهولين من العمال والعاملين والمتطوعين من الطلاب والطالبات، وهذه المرحلة كانت على مرحلتين بين أعوام 2014 و2018 بالتعاون مع دائرة الآثار العامة وأمانة العاصمة ومن خلال مركز حمدي منكو للبحوث العلمية بالجامعة الأردنية، وبدعم مالي من صندوق السفراء الأمريكي، حتى افتتح في تشرين أول 2018 باحتفالية كبيرة، فصعدنا عبر ممر خشبي للوصول إلى درج حجري يصعد للأعلى حيث سقف خشبي للمرور عليه، وهذا الجسر والسقف الخشبي أضيفا خلال عمليات الترميم لتسهيل حركة الزوار والمحافظة على المكان، بينما بالأصل كانت المياه تنزل من الأعلى إلى الأسفل على شكل شلالات لحوض السباحة والحمامات حسب ما أفادته لوحة إرشادية، وقفنا نتأمل الحنايا والأبنية والأقواس والأعمدة الضخمة والمثيرة للدهشة بجمالها بين البرجين المتبقيين وما بينهما من آثار، قبل أن نغادر البوابة حيث وقفت أنظر للرصيف أمام السبيل وعربات وأخشاب وصناديق كرتون ومخلفات تتناثر عليه، فنحن في حسبة الخضار وهذا موضوع يجب على الجهات المختصة حله حتى يكون الرصيف نظيفا وأنيقا أمام هذا الصرح الأثري الضخم، وأن يستقبل الجمهور حتى المساء وليس للواحدة والنصف ظهرا حسبما أفادنا الموظف هناك، فليس الجميع يتمكن من زيارته في الصباح وخاصة العاملين والطلبة، متمنيا فعلا أن الطموحات التي قيلت حين الافتتاح وأثناء العمل تتحقق، بأن الموقع سيعيد لعمَّان تألقها الثقافي والفني ويصبح سبيل الحوريات مركز جذب للجمهور المحلي والسياح والفنانين التشكيليين والفنانين عامة وأمسيات الموسيقى والشعر والأدب والثقافة.
صباح عمَّاني لطيف ونسمات منعشة تداعبني مع فنجان القهوة في هذا الصباح الباكر على شرفتي العمَّانية، ومع شدو فيروز وهي تشدو: “عمَّان في القلب أنتِ الجمر والجاه، ببالي عودي مري مثلما الآه/ لو تعرفين وهل إلاك عارفة، هموم قلبي بمن بروا وما باهوا”، أهمس: صباح الخير يا عمَّان.. صباح الخير يا حلوة.. صباحكم أجمل..