هل هناك «لغة شريفة»، ولغة ليست كذلك؟ لغة مقدسة، وأخرى دونها في المنزلة؟ ثم، هل هناك لغة علمية، وأخرى أدبية أو شعرية، لغة دقيقة، وأخرى سائبة محشوة بالإنشاء، كما حالنا الآن، أو تسمح به؟ لا نكاد نعثر في الأدبيات اللغوية، وعند فقهاء علماء اللغة على أسئلة كهذه إلا عندنا نحن العرب. والسبب واضح: إننا ننظر للغة كعنصر قائم بذاته، منعزل عن تاريخنا القديم والحديث، ومراحله المتعاقبة المليئة بالتغيرات الكبرى، ودورات الزمن المتعاقبة، عنصر منفصل عن تطورنا الاقتصادي الاجتماعي والثقافي، وبنائها الذهني والنفسي في كل مرحلة من التاريخ. وكأن اللغة وجدت لذاتها، وجوداً سرمدياً لا يصقله أو يخدشه الزمن. كأنها ولدت وكبرت خارج التاريخ، أو كأنها شيء سقط علينا من فوق، وبذلك اكتسب صفة القداسة للأبد. ولأننا لا نعتبرها لساناً يعبر عن هواجسنا ومخاوفنا، ومشاعرنا وعقولنا، ووجودنا في هذه اللحظة أو تلك من تطور واقعنا وتاريخنا، ولأننا لا ندرك أنها تعجز حين نعجز، وأنها تشمخ وتقوى بنا، وترتفع معنا إذا ارتفعنا، ظللنا نملأ الدنيا صراخاً من الخوف عليها من زحف شقيقاتها الأجنبيات «الشقراوات المغريات»، ومن هجران أهلها لها، وتلاعبهم عن جهل بقوانيهنا وقواعدها وفقهها، وبشكل خاص من محاولات «المس» بها.
وربما لهذا السبب، ظلت مجامعنا اللغوية مسمرة أمام الدنيا، لا تعرف ماذا تفعل بقاموسها، الذي مضى عليه أكثر من ألف سنة، من دون تغذية يفرضها التطور الهائل الذي قلب العالم خلال هذا الزمن الطويل، وكأنها تخاف أن ترتكب معصية انتهاك هذا الكائن «المقدس»، الذي هو ليس بمقدس على الإطلاق، بل هو كلماتنا، ومفرداتنا، التي نختارها لنعبر بها عن أرواحنا وعقولنا، ونكتب بها شعرنا ونثرنا. إنها نحن، وليست شيئاً آخر هبط علينا من السماء.
علماء اللغة يعرفونها بأنها الوجود المادي للفكر. وهي تعبر عن هذا الفكر. إذا كان متقدماً، انعكس ذلك عليها، وعلى مفرداتها وبنائها، وتركيبها وصياغاتها، وإذا كان متأخراً تهلهلت شخصيتها، واضمحل تأثيرها، وبهتت مفرداتها.
كان «ابن جنّي» يقول إن اللغة العربية «لغة شريفة»، وقد وجد فيها «الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة». ولكن لا لغة أفضل من لغة أخرى، كما يقول عن حق حمد الشمري، الذي ترجم كتاب «عبقرية اللغة»، في الحوار المنشور معه في هذه الصفحة على هامش الترجمة. توجد كتل بشرية أفضل من غيرها، في لحظات تاريخية معينة، فتزدهر لغتها وتكتنز باغتنائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، كما حصل في عصر ابن جني، العصر العباسي، شارح أشعار المتنبي، الذي اشتهر ببلاغته وحسن تصريف الكلام، وأغنى القاموس العربي بـ«الإبانة عن المعاني بوجوه الأداء ووضع أصول في الاشتقاق ومناسبة الألفاظ للمعاني»، وكما حصل مع اللغة الإنجليزية في عصرنا الحالي، ولا نقصد انتشارها لأسباب استعمارية قبل كل شيء، وإنما باغتناء قاموسها بمفردات الحياة المعاصرة، وتطوره ارتباطاً بتطور العلم والثقافة والاجتماع والتكنولوجيا. ولذلك لا تجد إنجليزياً واحداً يرطن بلغة أخرى، أو يستخدم مصطلحاً معاراً. لغته جاهزة للتعبير عما يريد.
اللغة، أي لغة، أداة محايدة. ليست هي ضمن البناء الفوقي وليس ضمن البناء التحتي، حسب مصطلحات الفلاسفة.
ولا مشكلة في أي لغة. المشكلة في الناس الذين يستخدمون هذه الأداة، بشكل مستقيم أو معوج. والاستقامة والاعوجاج مرتبطان بالتطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتعليمي في أي أمة من الأمم.
اللغة ليست شيئاً آخر. إنها نحن.
this true