من المواضعات الفنية التي لها أصل فلسفي رصين مواضعة ” المونولوج ” ، وهذه الكلمة في الوعي الجمعي العربي الشعبي أي بين عموم الناس يشير إلى فن فكاهي قصير عبارة عن مجموعة من الكلمات التي تعالج قضية مجتمعية كالطلاق أو الوظيفة الحكومية أو الاحتفال بالعيد متزامنة بالموسيقى الخفيفة ذات الإيقاع السريع ، لكن الحقيقة أن كلمة مونولوج ليست كما هي في قرار هذا الوعي الجمعي الضارب في القدم ، فهو يعني حديث النفس أو النّجوى ، وهو حوار يوجد في الروايات، ويكون قائما ما بين الشخصية وذاتها أي ضميرها ، بمعنى آخر هو الحوار مع النفس. ولقد ارتبط هذا المصطلح بالمسرح بل اقتصر في الارتباط عليه فقط ، بحيث يكون المونولوج من منظور شخصية واحدة في المسرحية مركزًا على وجهة نظرها بحيث يكون له معنى وهدف ويتسم بسمات وخصال الشخصية.
ولقد حدد رواد المسرح هدف استعمال المونولوج فنيا إذ يعتمد عليه سياق المسرحية فيما بعد، فيجب أن تكشف شيء يصعب كشفه للجمهور عن طريق حديث الشخصيات أو محادثة ثنائية فقط من خلال المونولوج، و يمكن هنا أن تكشف قصة أو سر أو جواب لسؤال متداول في المسرحية أو تعبير عن مشاعر الشخصية المتكلمة. يجب أن يخدم المونولوج هدفًا معينًا ويبدو وكأنه وحي بالنسبة للشخصية المتكلمة.
ولقد حددت الهيئة العربية للمسرح توصيفا دقيقا للمونولوج معتمدة على طروحات فلسفية بأنه العنصر الذي يتيح للشخصية المسرحية ان تفصح عن دخيلة نفسها ,لتكشف عن مشاعرها الباطنية ,وافكارها ,وعواطفها وكأنها تفكر بصوت مسموع ,ويلجأ الكتاب المسرحيين الى هذه الطريقة في التشخيص بالمونولوج ,حينما تجد الشخصية نفسها تحت وطأة أنفعال جارف أو أزمة عنيفة ويحتل فكرها ووجدانها الى مسرح حافل بالأحداث ينبغي ان يطلع علية المتلقي ولعل من أشهر المونولوجات قاطبة مونولوج هاملت (أكون او لا أكون ,ذلك هو السؤال) وقد أزداد شيوع هذا العنصر المونولوجي في المسرح مع ظهور مدرسة التحليل النفسي لصاحبها المضطرب نسبيا سيجموند فرويد، التي أمدت الكتاب بمعلومات هائلة عن التركيب الشعوري واللاشعوري للشخصية الإنسانية , والتداعي الحر للهواجس والأحاسيس والرغبات المكبوتة ,وكانت الحركة التعبيرية من أبرز الحركات ,الى جانب السوريالية.
وفي ضوء هذا التوصيف الفلسفي للمفهوم فإنه من الجائز جعله ثنائيا لاسيما حينما يشرع المرء للحديث عن العلاقة بين الأنا والآخر ليس فقط من المنطوق الديني ، بل العلاقات المتعددة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا أيضا ، ومشكلة المصطلحات قديمة كان سببها المطلق هو امتلاك البعض وأعني النخبة مفردات المصطلح ، وهذا الأمر هو ما انفرد به المفكرون السياسيون ، فرجال الفكر والفلسفة الملتحفين بأردية التوجه السياسي لهم اجتهاد خاص في وضع وتحديد المصطلح عامة و المصطلح السياسي بوجه خاص ، وتكفي الإشارة إلى أن ما اتفق على تسميته بثورات الربيع العربي في مصر واليمن وتونس وليبيا ألجأت الكثيرين من الناس للتفتيش عن دلالات بعض المصطلحات السياسية التي ارتبطت بمشاهد الانتفاضات العربية ضد أنظمتها الحاكمة آنذاك ، وكان من بين هذه المصطلحات الشائكة التوصيف مصطلحات مثل ائتلاف و دستوري ، وحكومة تكنوقراطية ، وراديكالية، وشرعنة السلطة .
ورغم أن هذه المصطلحات وغيرها من المصطلحات كانت متداولة إلا أن المواطن العربي العادي لم يكن مكترثاً وقتها بدلالة كل مصطلح ، لكن بعد تفشي الثقافة السياسة في أرجاء الوطن العربي حتى كادت من أبرز سماتهم الحصرية بعد تلك الانتفاضات الشعبية بات من اليقين أن ينهض كل مواطن عربي للتنقيب عن دلالة المصطلحات من أجل تحقيق الكفاءة في استخدامها وسط الحديث اليومي له. وهذا أيضاً يشكل قلقاً لدى بعض السياسيين غير المخضرمين حيث إن قاموس المصطلحات لديهم يبدو عشوائياً رهن استخدامه بعض الوقت ، بخلاف المفكر أو رجل الفلسفة الذي يسعى إلى ترتيب أولويات حديثه وتحديد المناطق التي ستناولها بالعرض والمناقشة واستخلاص النتائج ، وهذا الامتلاك من شأنه أن يعطي الفيلسوف قدرة فائقة على توصيف المشهد.
وباختصار واختزال شديدين فإن مصر تحديدا تمتلك ـ وحدها ـ الرصيد الأكبر من حوارات الأنا والآخر نتيجة التعدد الثقافي بين ربوعها العريضة ، وهذا الامتلاك التاريخي ساعدها طيلة قرون مضت على إقامة علاقات طيبة ومتسامحة بين أصحاب الديانات المختلفة الأمر الذي يمكن رصده بسهولة ويسر في كافة الأزمات والمحن التي تعرض لها هذا الشعب العظيم سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو خلال فترة الحروب العظيمة التي خاضتها مصر .
ولست بمستغرب بهذا النموذج الإنساني المتحضر لعلاقة الأنا والآخر في مصر ، ذلك لأنني ممن يطالعون كتاب شخصية مصر للعبقري جمال حمدان الذي لا أمل من الحديث عنه أو عن موسوعته الثقافية المصرية عن هذا الوطن العظيم الذي كان ويظل نبراسا في الوسطية والاعتدال مكانا وتاريخا ضاربا في القدم ، لكن المشكلة الحقيقية أننا حينما نتحدث عن علاقة المسلم بالمسيحي ، ونهرع للترويج للعلاقة الذهبية بينهما نحترف في استدعاء نماذج وشخصيات كارتونية مقتبسة من حكايا المسلسلات المملة ، وليست هؤلاء المحترفين أن يجتهدوا قليلا فيعقدوا مسابقة سريعة قبيل انعقاد المؤتمرات والمنتديات الوهمية عن الشراكة الوطنية وحقوق الآخر وهذا الكلام الكبير حجما أن يطلبوا من المواطنين الشرفاء طبعا أن يقصوا حكاياتهم وأسمارهم الحقيقية عن شركاء الوطن ومن ثم اختيار وتقديم صور حقيقية عن أبناء هذا الوطن العظيم .
وقد تعتري هذه العلاقة الطبية بين الأنا والآخر بعض الشوائب التي تقف في طريقها لاسيما في ظل تعدد المنابر والاجتياح الطوفاني لوسائط الاتصال الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر ، والمشكلة الحقيقية في حوار الأنا والآخر ثمة إحداثيات نراها جميعا ضرورية منها أن الثقافة الراهنة تبدو أحيانا مضللة لأنها من زاوية واحدة دون أدنى اعتبار للآخر ، وتبدو أيضا راشدة حينما يشترك فيها نسيج الوطن الواحد ، وما أجملها حينما تصير بالفعل تنويرية أو موجهة للمجتمعات . والإحداثية الثانية هي أننا نحترف ممارسة إجراءات ثقافية غير مرئية بين بعضنا البعض مثل الإقصاء والتهميش والعزل المجتمعي وأخيرا الاستبعاد الاجتماعي .
ولن نصل إلى حوار حقيقي بناء وفعال إلا حينما نعتمد الثقافة سلوكا إنسانيا في مدارسنا وجامعاتنا وشوارعنا أيضا ، وأن تتحول تلك الثقافة إلى مهارات معرفية التي سرعان ما تتحول لتستقر إلى هوية دائمة مستدامة . و باختصار شديد مصر عظيمة ثقافيا بالفعل ، لكن في ظل هذا التسارع الرقمي وشيوع المنصات الافتراضية التي تكرس للتعصب والكراهية ونبذ قبول الآخر بات الأمر شديد الصعوبة في معالجته بصورة فطرية ، وخصوصا أن هناك ثمة محاولات مستمرة لا تنتهي لتجريف الشخصية المصرية ، وتعتمد هذه المحاولات على بعض المنابر الإعلامية السطحية طبعا التي تروج جاهدة للمفاهيم السطحية التي تنال من سمعة هذه الثقافة المصرية الأصيلة .
لكن في وسط عتمة المشهد الثقافي في قبول الآخر بعيدا عن الكتب المدرسية الكئيبة ، تظل هناك صور عظيمة من المحبة والتسامح والمودة والرحمة بين شركاء الوطن الواحد ، ليس بالضرورة في الحديث عن ملامح وسمات كل دين ، إنما من خلال هذا السمت المصري الخالص ألا وهو الثقافة البعد الغائب عن حياتنا . وحينما نذكر الثقافة لا يمكننا الفكاك من أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء الدكتور زكي نجيب محمود ، وخصوصا أن زكي نجيب محمود اهتم كثيرا بنقد الحياة الاجتماعية في العالم العربي بوجه عام من أجل استخلاص رؤية تنويرية للإصلاح لا مجرد النقد ، وربما ينتابني الحزن المصاحب بالاكتئاب نظرا للإهمال الإعلامي المقصود صوب أديب الفلاسفة الدكتور زكي نجيب محمود وما قدمه من إسهامات فكرية رائعة وقابلة للتطبيق والتنفيذ والتجريب أيضا .
وإذا كان الحديث اليومي السائد آنيا في مصر لا يخرج عن فلك قضيتي التربية والتعليم ، بوصفهما يمثلان عبئا وهما قائما بالفعل ، فإن الثقافة هي الدرس الأول من كتاب التربية وليس تابلت طارق شوقي ، وأن الصين منذ عام 2017 اعتمدت الجانب الوجداني المتمثل في تعليم واكتساب القيم والفضائل والاتجاهات الوطنية جزءا أصيلا للمناهج المدرسية وليست الماديات وسطوتها هي التي تبني العقول والأمم .