سميح القاسم واحد من الشعراء الذين لا يموتون

خاص- ثقافات


*عمر ح الدريسي 

 

هل نُصدق بحق أننا أمام أمة تُأْكَل أوطانها أمام أعينها وتُقهر مقاومتها، والأدهى والأمر أن أعلامها تُبلع تِبَاعاً: ” فما الذي ابقانا أحياء كي نرى ذبح الوعول على الوحول” على حد تعبير شاعر المقاومة الكبير معين بسيسو، ما يحدث في كل بقع العالم العربي، أَلَا يُؤْلِم حَقاًّ كل من له ضمير اتجاه أُمته؟

الجفاف والتصحر  بات يملأ الفكر والوجدان، بموتهم تِبَاعا : غسان كنفاني، نزار قباني، عبدالرحمان منيف، ادوارد سعيد، ممدوح عدوان، مظفر النواب، محمود درويش وآخرون و سميح القاسم هذا، الذي تحل ذكرى موته يوم 19 أغسطس/ غشت من كل سنه.. !؟

أصحاب الحناجر الصادقة الصافية من شوائب الوُصُولية والنفاق لا تُخمد أصواتهم: “هم الشعراء نبوءة ﻻ تموت // يكتبون بعادات الوحي القديم // يطرقون باب الله  // وﻻ يكفون // هم الشعراء وإن مات الشعر // ﻻ يموتون// هم الشعراء يا صديقي إن ماتوا..”.

الشاعر والفيلسوف نيكوس كزانتزاكيس، مؤلف  الرواية الرائعة “زوربا اليوناني” وصاحب الأوديسة ذات الثلاثة والثلاثين الفا وثلاثة مائة وثلاثة وثلاثين (333 33) بيتا شعريا، القائل حين دقت أبوابه الموت، وهو بين أيدي أطبائه، هامسا لهم : ““أو تعلمون أن الشعراء لا يموتون، أو يكادون لا يموتون“، أما سميح القاسم فيقول، بشجاعة الشاعر، حين بدأت تترآى له بوادر الرحيل، مع الموت:

“أنا لا أحبك يا موت !
لكنني لا أخافك .
وأعلم أني تضيق عليّ ضفافك .
وأعلم أن سريري جسمي،
وروحي لحافك .
أنا لا أحبك يا موت !
لكنني لا أخافك.

هُمْ من خَلَّفوا  ويُخَلِّفوا شعوبًا من ياسمين “، منهم سميح القاسم  الذي صاح في وجه عصابات الإحتلال: ” ربما تحرمني شبابي وثيابي…// ربما تسطو على ميراث جدي ..// من أواني وخوابي…// يا عدو الشمس لكن لن أساوم // والى آخر نبض في عروقي // سأقاوم .. // وأقاوم …// وأقاوم.”، إنه شاعر المقاومة العربي  بامتياز رفقة “كل من …   عربي.. بسيط أنا وأحب جميع الأمم”.  مثل أصحاب هذه الأصوات لا تخمد أصواتهم أبدا.

العظماء يتساقطون ببطء… قال الشاعر سميح القاسم مستخلصا واقعا مريرا: ” يا أيها الموتى بلا موت // تعبت من الحياة بلا حياة..”، ثالث لآلئ شعر المقاومة الفلسطيني يرحل؛ إنها غصة أخرى في حلق الشعر العربي بعد رحيل كل من محمود درويش وتوفيق زياد اللذين سبقاه إلى الموت، إنه واحد من العظام الذي ترجّلوا عن دنيانا، ولكنهم أبقوا فلسطين أقوى وأنصع بوجهها الكوني،  في الهُناك ستجتمع اللآلئ الثلاثة ليكتمل جمال العقد الشعري الفريد في اللَّاهُناك،  انتم أنتم ﻻ تموتوا كمثل البشر …لكم روح تحلق فوق سماء ارضنا ..ولكم صوت ﻻيغيب ..قلوب أصحاب الذوق اسيرة محبتكم …لكم ذاكرتنا التي لن تغادروها قط …

1-  كيف ولدت التجربة الشعرية لدى الشاعر سميح القاسم

في سؤال من احد الإعلاميين للشاعر سميح القاسم  حول علاقته بالشعر فكان الجواب كالتالي:” منذ عقود من الزمن. هكذا، بدأت قصيدتي، بالوجع الشخصي، الذي هو وجع شعب ووجع وطن، ولا تستطيع أن تجد فيه الحد، بين ما هو ذاتي وما هو عام، بين ما هو فردي وما هو قومي، لأن الخطر الذي تهددني ومازال، يتهدد آخرين، هم من اصطلحوا على تسميتهم بأبناء شعبي الفلسطيني. لذلك، فميلاد التجربة الشعرية، وميلاد القصيدة، والهاجس الفني، والقلق الشعري، يبدأ من جرح صغير في خاصرة الطفولة، ويستمر إلى الجرح الكبير في جبين الأمة والإنسان في المطلق”.

2-  موقفه الشاعر سميح القاسم من الشعر الكلاسيكي

كان شديد التعلق و الحب لبناء الشعر القديم و لبحوره على خلاف جل الشعراء المُحدثين والجُدد، وفي سؤال وُجِّهَ  له عن موقفه من الشعر الكلاسيكي  يجيب: ” هم تركوا الشعر الكلاسيكي ليس لأنهم يريدون تركه بل لأنهم لم يستوعبوه. أقولها بصراحة. لم يكتشفوا عبقرية الأوزان العربية. العرب فقط من يملكون هذه الثروة من الإيقاعات. هذه ثروة موسيقية هائلة. صاروا يقولون إنها قيود. كيف تقولون قيودًا؟ هي قيد لمن لا يعرفها. ولكنها أجنحة حرية إذا أنت استوعبت الأوزان وصارت جزءًا من تكوينك الداخليّ، من إيقاعك الداخليّ، من نفسك، فهذه أجنحة حرية ستأخذك إلى أماكن لا تتخيّلها. ولكن حتى في الأوزان الكلاسيكية خطر ببالي مرة أن أضيف شيئًا فأضفتُ. ففي الكلاسيكيات ثمة صدر وعجز في البيت الشعريّ. وأعتقد أنني ربما في رثاء حافظ الأسد طلع معي صَدران للبيت فأبقيتهما، ثم جاء عجزان فأبقيتهما. وتكرّرت معي أكثر من مرة. هذه أصبحت إضافة شخصية للكلاسيك. الأوزان الكلاسيكية بحدّ ذاتها تحوي ثروة، وخسارة خسارة وجود نوع من التغريب في تعليم اللغة العربية. ثمة غزو فكريّ وثقافي عند العرب، حتى أنهم لا يتعلمون العروض في المدارس. كيف سيستوعب الطالب المتنبي إذًا عندما يكبر؟ والمعري؟”.

3-  فلسفة وفكر سميح القاسم الشعرية

سميح القاسم كان دائم البحث والتنقيب والتحليل والنظر والتفكير في كل ما يدور حوله في الكثير من القضايا الفكرية والفلسفية. كما يتجلى ذلك بوضوح في ديوانه الساخر “أنا متأسف” (2009)، وفي مجموعته الشعرية “كولاج2″، التي تحفل بالرؤى الفلسفية والتأمل في الحياة وفي مصير الإنسان (ص23):  أين تفاحتي وكأس نبيذي ** وكفافي من خبز حزني اللذيذ // أين ناري وشمعتي وورودي ** وصلاة الوداع والتعويذ // للرحيل الأخير قد هيأت نفسي** ولدى الله ساعة التنفيذ..”. 

4-  حياة الشاعر سميح القاسم معركة ومقاومة متواصلة للإحتلال

ولد يوم 11 أيار 1939 في مدينة الزرقاء الأردنية، ودرس في بلدة الرامة وبالناصرة شمال فلسطين، عُرف بمقاومته الدائمة للاحتلال الإسرائيلي، وسجن مرات عديدة، وفرضت عليه الإقامة الإجبارية والاعتقال المنزلي وطرد من عمله عدة مرات بسبب نشاطه الشعري والسياسي.. مُحبا للأناقة بشكل يوحي بنقاء وصفاء السريرة، اشتغل معلماً وعاملاً وصحفياً.. أسهم في تحرير منابر إعلامية؛ “الغد” و “الاتحاد” ثم رئس تحرير مجلة “هذا العالم” عام 1966، ثم عاد للعمل محرراً أدبياً في “الاتحاد” وسكرتيراً لتحرير “الجديد” ثم رئيساً للتحرير.. وأسس منشورات “عربسك” في حيفا مع الكاتب عصام خوري عام 1973، وفيما بعد أدار “المؤسسة الشعبية للفنون” في حيفا.. وهو إلى ما قبل وفاته رئيس مجلس إدارة تحرير “كل العرب” الصادرة في الناصرة، ورئيس تحرير الفصلية الثقافية “إضاءات”..

صدر له أكثر من أربعين كتاباً في الشعر والقصة والمسرح والمقالة.. وصدرت أعماله في سبعة مجلدات عن ثلاث دور نشر في القدس وبيروت والقاهرة.. ترجم عدد كبير من قصائده إلى لغات أجنبية عديدة .. حصل على الكثير من الجوائز عن شعره منها “غار الشعر” من اسبانيا، وجائزة البابطين للإبداع الشعري..

5-  القاموس الشعري المقاوم  وسميح القاسم:

لم يُشفي الغليل  كتاب غسان كنفاني “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة” الذي صدر عام 1967، ولا القصيدة  الشهيرة لنزار قباني “شعراء الأرض المحتلة” التي كتبها عام 1968،   وجاء شعر العملاق  معين بسيسو و تلاه سميح القاسم وزيّاد ودرويش، وسكن أدب المقاومة وشعرها  وجدان الشعوب والجماهير العربية، وتحولت بذلك إلى شعارات وحتى إلى مرافعات سياسية؛  منهم قصائد توفيق زياد ومرافعاته ضد سياسات إسرائيل داخل الكنيست (البرلمان الصهيوني)، وقصائد سميح القاسم وارتباطه بالأرض. مربع شعري شكل جوهر شعر المقاومة في تلك الحقبة التي أعقبت الهزيمة  العربية 1967 واحتلال ما تبقى من فلسطين، وما تلاه من  تأسيس “منظمة التحرير الفلسطينية” واعتماد الكفاح المسلح. كلمات من قصائد لن تنساها  ذاكرة الوجدان العربي وبخاصة الفلسطيني: “سجل أنا عربي” لمحمود درويش، و”هنا باقون” لزيّاد، بينما كان نصيب سميح القاسم قصيدته “خطاب في سوق البطالة” التي اشتهرت أكثر باسم “يا عدوّ الشمس”، وفيها كتب: “ربما تسلبني آخر شبر من ترابي// ربما تطعم للسجن شبابي// ربما تسطو على ميراث جدي// من أثاثٍ وأوانٍ وخوابِ// ربما تحرق أشعاري وكتبي// ربما تطعم لحمي للكلابِ// ربما تبقى على قريتنا كابوس رعبٍ// يا عدوّ الشمس لكن لن أساوم// وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم..”.

6-  نفحة الحب الصادق لدى سميح القاسم:

لم يكن يرى في الحب إلا اكتمالا لشخص، لم يكن يجد في الحب إلا وجودا حقيقيا، و انحلال هيكلين في هيكل / حلول اثنين في واحد، يقول: ” أصبحتُ، مذ نادى بعينيك السبيل.. كما ترين // سُكْرٌ غريب الخمر.. منكِ.. اجتاحني قلباً و عين // ماذا؟.. أحُلماً ما أرى.. أم واقعاً.. أم بين بين // يا طلّة الأسحار قلبي ذاب في غمّازتين // و ثوى هنالك ناسكاً، ما حمّلَ المعبودَ دَين // يا حلوة العينين، إنكار الهوى زورٌ، و مَيْن // فتشجّعي .. و بقبلةٍ صغرى أبيعك قبلتين // و تشجّعي .. و الحبّ يخلقُ هيكلاً من هيكلين // إن تعطِني عيناكِ ميعاداً ألمّ الفرقدين// أيكون من حظي لقاءٌ يا ترى ؟ و متى ؟ و أين ؟”

7-  الشاعر سميح القاسم في رثاء الشاعر محمود درويش

الشاعر سميح القاسم في رثائه لصديق النضال والوطن والهم والإنسانية الشاعر محمود درويش قال: ” ومن كل قلبك أنت كتبت // وأنت كتبت.. ومن كل قلبي // كتَبْنا لشعب بأرض.. وأرض بشعب // كتَبنا بحب.. لحب “.

“سنحبكم دائما ..لأنني ﻻ ادري هل صحيح ان وطننا يسكن كلماتكم أم ان كلماتكم تسكن وطننا وانا العاشق التائه بين مفردات الوطن وبينكما..”،  إذ ذاك قال سميح القاسم قبل عقود: ” عَصَافيرُنا يا صَديقي تطيرُ بِلا أَجنحهْ // وأَحلامُنا يا رَفيقي تَطيرُ بِلا مِرْوَحَهْ…”.

 أنتم  الشعراء ﻻ تموتون مثل البشر… لكم روح تحلق فوق سماء ارضنا ..ولكم صوت ﻻ يغيب ..قلوبنا اسيرة محبتكم… لكم ذاكرتنا التي لن تغادروها قط.. !!

عمر ح الدريسي

Omar-drissi1@live.fr

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *