خاص- ثقافات
*فضيلة معيرش
غَفتْ أصواتُ الرّجاء بصدري الدائم الحيرة مما آلت إليه أوضاع زوجتي خالدة ، أتأملها على فراش المرض للحظات وهي التي كانت تملأ صمتي مرحا ، تتسرب مسحة من الضعف لخلايا مفاصلي ، تكتسحُ ما بقى لي من جلدٍ . تعلق أهلها بخيط واهن من الأمل وحالي يماثلهم ، تذكرتُ يوم تركتُ أهلي وقريتي المنتصبة بأعالي مدينة سطيف وجعلتُ من خالدة وطنا لي ، لمحتها لأول مرّة منذ ست سنوات استيقظت فيّ حينها خلايا العشق بقلبي وأنا الفتى الأشقر الذي تطارده الفتيات أينما حلّ ، جذبتني سمرتها الممزوجة بحليب الطيبة وعلمت أن مدينة الحضنة ستحتضنني للأبد ، تجيد فن التعامل هي مدَّرسة . أتأملها الآن من وراء زجاج غرفة الإنعاش علها تفيق وترمقني عيناها النجلاوان بفيض الوفاء…طفلاها أمين و أيمن يسألان عنها وهما يداعبان أصابع أخيهما الصغير الذي لم يذق حليب حنانها بعد .كلاهما يحلو له أحيانا مناداتي باسمي بدل بابا …: لم تركت ماما ناصر وحدها في المشفى …ومن سيرضع هذا الصغير ؟ يرتديني الوجع ، يلمع دمع غيابي عن أهلي في هذه اللحظة أكثر من أي وقت مضى و أطفالي وخالدة كلّ أهلي .
تلتهم مواجعي ذكرياتي معك ، يقف الطبيب أمامي لا أدري ليواسيني أم ليشل ما بقى من حواسي يقول : ما أسعفت به من دّم أثناء الولادة لم يتقبله جسمها ، يمكنك أخذها من هذا المشفى الخاص لمشافي العاصمة علها تنجو . شدَّ غيظ قبضة يدي، أشحتُ بوجهي عنه وقلت :لا تجعلي أيامي القادمة باردة دونك . غرقتُ في تهويماتي في ذلك المساء عدت إلى بيتي منهكا ما تزال رائحة الحناء التي خضبت بها خالدة أطرافها تعبق بالأجواء ، تظلّ عادة محمودة لمن يقبلن على الولادة … تصرفت وحدها خالدة بحدس مسبق ، أخذتُ مبلغا من المال وطرقتُ باب جمعية للأيتام ، قالتْ أمّ خالدة وهي معتكفة في الدّعاء : تدفع الصدقة البلاء خذها لهم وعد مسرعا … يجب من نقلها للعاصمة ، لن نظلّ نتأملها ونبكي . يتشبع قلبي بالوجع كما يتشبع ليل الشّتاء بالظلام تركت محلاتي التجارية في عهدة أخ خالدة طارق …كنت منذ ست سنوات فارغ اليدين من كلّ مظاهر الثراء كنت ثريا بجمالها الذي لم يكن بريئا من غوايتي حتى استقر هواها بنفسي. حاولتُ تقشير ملامح البؤس من وجهي و الطبيب المعاين بالعاصمة ، يشير معاتبا لتأخرنا في إحضار المريضة ، حبلى عيون السحاب دونك خالدة ، ما كان يمكن العيش دون مواقف كبرى تهزني وها أنت تصنعينها دون أن تدري . لُفَ جسدُ خالدة بكفن الشّهادة وغصتْ دموع الفقد بحلقي وكلّ من عرفها ، وأضحت ذكرياتي معها مطرزة بكوابيس الغياب عوض الطمينة التي وعدتْ توزيعها على الجيران وهي تمني نفسها : سيكون هذا آخر مولود أرزق به سيدلل كأخويه .واكتفي به .