سرد: طريق الموت ..!

خاص- ثقافات

*عبد الرحمان المكاوي

رجع الكائن الأعظم إلى أرض الوطن بعد غيبة دامت أكثر من أربع سنوات، كان هاجس نسيان جروح الماضي الدافع الأساسي لطول الغيبة عن المدينة التي أحبها كما أحب أعز أحبابه بها , كل شيء جميل لم يكن يعكر صفوه إلا ذكرى صديق طفولته المؤلمة التي حاول عبثا إبعادها عن ذاكرته  من أجل لحظة سكينة تنسيه رتابة حياة العمل الشاق بديار الروم , لكن الذكرى طلت تطارده حتى وهو يخرج في جولة قصيرة بأقرب شارع لمحل سكناه , إلى أن قدفته قدماه إلى عتبة المقهى حيث كان آخر لقاء له مع رفيق دربه قبل أربع سنوات خلـــت .

    فقد اختارا كعادتهما كل صباح الزاوية اليمنى الخلفية لمدخل ذلك المقهى المرموق في نظرهما معا، لم يكن فيه ما يثير حقيقة إلا اسمه المطابق لاسم المدينة الإيطالية التي استقرا بضاحيتها منذ هجرتهما إلى هناك، بيد أن نسيم الوطن الأم كان يذكرهما بكل شيء جميل بهذه المدينة الصغيرة حيث تابعا دراستهما الإعدادية. لازال الكائن الأعظم يتذكر اليوم الذي أخذه فيه أخوه الأكبر لأداء واجبات الدخول المدرسي بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، إنه يوم احتضنته هذه المدينة كما تضم الأم يافعها يوم اللقاء بعد بَيْنٍ طال أمده.. كم أنت قاس أيها الزمن؟ مرت تلك اللحظات، لتمر معها الأيام والسنون تاركة وراءها ذاكرة مثقوبة لا تحفظ إلا عوائق النجاح لتنغص على فؤاد مكلوم بأغلال الغربة فرحة العودة إلى الوطن. رشف الكائن الأعظم من كأس القهوة وقال مكسرا الصمت الذي لم تكن تلعنه إلا خشخشة رفيق دربه وهو يشعل سيجارة أخرى :

ـ ” ما أجمل بلدنا يا صديقي ! لا أخفي عنك أنني بدأت أفكر بالاستقرار نهائيا بهذه المدينة الصغيرة , سئمت الغربة .. أكاد أجن كلما تذكرت البعد عن العائلة والأصدقاء ” .

قهقه النديم كعادته ساخرا :

ـ ” كفى خرفا يا صديقي ..  يبدو أنك اشتقت إلى أيام الفقر والتسكع والنميمة والغيبة ” .

أردف الكائن الأعظم  قائلا وهو يسعل :

ـ ” كف عن التدخين يا صديقي لقد آذيتني وآذيت نفسك , كيف تنكر جمال بلدنا ؟ ” .

ـ ” لا أحد ينكر إثارة هذا البلد ولكن لا حسن ولا جمال مع الفقر , إن العقليات بهذه البلاد تعلقت بالدرهم والربح السريع مما ساهم في انتشار الفساد حيث يصعب على المبتدئ البسيط الانطلاق ثم الاستقرار ” .

تنهد الكائن الأعظم  :

ـ ” معك حق , لقد صرت محللا مقتدرا , إن تغيير الوضع ينبني على تغيير العقليات , وذلك يتطلب زمنا طويلا ” .

ـ ” المشكل ليس قضية الزمن فلكل زمن أجياله , جيل يضحي ليعيش جيل آخر , ولكن المشكل الأكبر هو غياب إرادة التغيير , التفت إلى الوراء قليلا كيف كانت هذه المدينة ..! وكيف بقيت دون تغييرات تذكر ..!  رغم أن الموارد المالية تصرف ولا أحد يدري أين يذهب ريعها ..! ” .

نفث دخان سيجارته بعيدا ثم أتبع متجهما :

ـ ” لماذا تثير دائما مثل  هذه المواضيع المملة , أمن أجل هذا دعوتك لنجلس معا  ؟ ” ,

أجاب الكائن الأعظم  ساخرا :

ـ ” ولماذا دعوتني ؟ ماذا سنفعل بهذا المكان غير التحدث في مثل هذه القضايا المصيرية ؟ ”

ضحك الكائن الأوسط قائلا :

ـ ” أأنت غبي أم تتغابى يا صديقي ؟ أنسيت موعد السهرة التي اتفقنا عليها ؟ ” ,

تأفف الكائن الأعظم  :

ـ ” السهرة مرة أخرى ؟ كف عن هذا يا أخي  لقد سئمت هذا الطريق الأعوج ” .

رد الكائن الأوسط متنهدا :

ـ ” إننا شباب عزب يا صديقي , لا يمكن أن نتنكر لحقنا الطبيعي ” ,

ـ ” لا أخفي عنك يا صديقي لقد قررت الاستبراء من كل مظاهر الفساد .. ثم الزواج .. إن الطريق الذي نمشي فيه يرعبني ” ,

ـ ” عن أي فساد تتحدث ؟ أنت لا تدخن , لا تشرب الخمر , فهل تعتبر  حقك الطبيعي فسادا ؟ ثم هل وجدت الزوجة المناسبة لتتحدث عن التوبة ؟ ” ,

ـ ” كلا , لازلت أبحث , ولكن التوبة يجب أن تسبق الزواج , فالاستبراء قبل الطهارة واجـــــب ” .

ـ ” مهما يكن لقد اتفقت مع صديقنا المعلوم  على أن نلتقي في المكان المعتاد , سيحضر سيارته , وسأصطحب سيارتي , أما سيارتك فدعها ترتاح هذه الليلة ” .

    التقوا بالمكان حيث ألفوا اللقاء , كانوا ستة نفر , ثلاثة ذكور وثلاث إناث  , ركبوا السيارتين وانطلقوا خارج المدينة متحاشين حاجز المراقبة الأمني , كان الطقس معتدلا في تلك الليلة المقمرة , حيث بدا الفضاء وضاء , فالسماء الصافية أمطرت المكان بنور القمر حيث تبدى كحديقة بلاط بضاحية المدينة الصغيرة الخالية من السكان ماعدا بعض المنازل المتفرقة المتباعدة , التي كانت أضواؤها تبدو شاحبة مع أشعة القمر .

   انتصف الليل .. كانوا قد تعبوا لهوا , غنوا ورقصوا , أكلوا وشربوا وضحكوا , عربد الكائن الأوسط  كعادته وراح يدعو ندماءه لمزيد من الرقص , كانوا يلبون طلبه الواحد تلو الآخر ذكورا وإناثا , إنها ليلة من الليالي التي يحن إليها كلما حن إلى وطنه , لا ينساها , يتذكرها دوما .. ويتحدث عنها أمام زملائه حديث الحنين والشوق بديار الغربة .

  انتفض الكائن الأوسط  واقفا فجأة  وتوجه مسرعا نحو سيارته كالسهم .. فتح باب السيارة , دلف , ثم شغل المحرك , تعقبه الكائن الأعظم  في رمشة عين .. أوقفه متسائلا : ” إلى أين يا صديقي  ؟ ” , قهقه الكائن الأوسط  مزهوا : ” عائد إلى المدينة لقضاء غرض مستعجل , سأرجع في الحين .. لا تقلق يا صديقي  ” .. لكن النديم  أمسك بمقود السيارة محاولا منع صديقه من مغادرة المكان قائلا : ” لا تفعل يا هذا ! إنك ثمل ..  الطريق خطر عليك في هذا الليل المخيــف ” .

   أقفل الكائن الأوسط  باب السيارة بعنف ثم انطلق سائقا بسرعة جنونية نحو الطريق المعبد .. تأفف الكائن الأعظم  ولبث واقفا بكمانه محتارا .. التفت نحو زميله الكائن الأصغر  متسائلا : ” إن هذا المخلوق  يزعجني كثيرا بمثل هذه التصرفات لست أدري لماذا رجع إلى المدينة في هذه اللحظة المخيفة من الليل ..؟ كل ما نحتاجه موجود هنا ” , ضحك الكائن الأصغر متهكما وهو يرد على تساؤل زميله : ” إنك تعرف صاحبنا  أكثر مني .. كلما ازداد نشاطا اشتاق لزجاجة الخمر الإيطالية المفضلة لديه ” , جلس الكائن الأعظم  جنب صديقه  وأردف قائلا : ” وأين سيجدها ؟ فمحل بيع هذه الآفة قد أوصد بابه ” , ضحك الكائن الأصغر  من كلام زميله قائلا : ” إنها لا توجد بالمحل المذكور أصلا , بل سيجدها عند بائعي السوق السوداء الذين لا يعرفون النوم .. إنها الخمرة يا صديقي  لا يزعجها ظلام الليل .. فدهر شرابها وبائعيها نهار .. ” .

  أوغل الليل كثيرا ولما يعد الكائن الأوسط  .. تجاذب الندماء أطراف الحديث في كل المواضيع , داخليا وخارجيا .. بيد أن الكائن الأعظم  بقي قلقا لم يرتح له بال .. وكيف يهدأ وصديق طفولته وغربته غادر فجأة دون رجعة , نظر إلى ساعة هاتفه , انتفض واقفا وقال للكائن الأصغر : ” أعطني مفاتيح سيارتك , قلبي يحدثني أن أمرا غير عاد يلوح في الأفق .. لقد تأخر صاحبنا  كثيرا على غير العادة ” , تثاءب الكائن الأصغر  وهو يبحث عن مفاتيح السيارة قائلا : ” اجلس يا صديقي  .. لا تقلق قد يكون جالسا الآن في المقهى الليلي مع أحد أصدقائه , اتصل به هاتفيا ” .

   اتصل الكائن الأعظم  بصديقه بالهاتف أكثر من ثلاث مرات .. كان الهاتف يرن دون جواب .. نفذ صبره .. أخذ مفاتيح سيارة الكائن الأصغر  .. شغل محركها وانطلق باتجاه طريق الإسفلت قاصدا المدينة الهادئة , كان سكون الليل سيد الفضاء .. لم يكن يكسره إلا هدير محرك السيارة الخافت .. سيارة جديدة .. لم يحس الكائن الأعظم  بمتعة ركوبها وقد دهاه خطب تأخر صديقه  .

   تراءى للكائن الأعظم  بمدخل المدينة حشد من الناس , وبضع سيارات متوقفة جانبي الطريق .. أوقف السيارة لما اقترب من الحشد أكثر وترجل عنها وسار وقد أتى عليه الخوف , كان رجال الشرطة ورجال الإنقاذ يملؤون المكان .. صدم نظره فجأة بسيارة صديقه  وقد انقلبت , صار أسفلها أعلاها .. لم ينبس الكائن الأعظم  ببنت شفة وهو يدنو من سيارة زميله .. أثقل الرعب لسانه , وماذا عساه يقول .. ؟ وإن صرخ من سيسمع صراخه ..؟

  تعاون الحاضرون فأعادوا السيارة المنكوبة إلى وضعها الطبيعي .. أخرجوا الكائن  مدرجا في دمائه .. دنا الكائن الأعظم  من صديقه مقتحما حشد الناس وهو يصرخ : ” أخي .. صديقي ! ماذا حدث لك ؟ حذرتك من السياقة في هذا الليل المخيف ! ولكن لم تنصت إلي .. يا إلهي ! كيف كنت وكيف أصبحت ! .. ولكن لا بأس .. ستشفى .. ستعود للحياة ” .

  حمل رجال الإنقاذ الكائن المنكوب  إلى المستشفى .. حيث لحق به زميله , وقد ألفاه لا يزال ممددا على مرقد بقسم المستعجلات .. دنا منه وراح يمسح وجهه محاولا التخفيف مما علق به من دم وأوساخ وهو يقول : ” لا تقلق يا صديقي  سأبذل كل ما أستطيع لتشفى .. هل عرفتني ..؟  ابتسم الكائن الأوسط  لصديقه متحديا ألمه المميت وهو يغمغم : ” كيف أنساك يا صديقي  ..! يا أعز أخ لم تلده أمي .. أوصيك يا أخي بأبي وأمي .. إن نسيتني .. لا تنساهما ” , أجهش الكائن الأعظم  في البكاء : ” لا.. لا.. لن تموت يا أخي .. لن تموت ”  , أمسك الكائن الأوسط  براحة صديقه وقد أتى عليه الوهن وهو ينبس : ” إني أراها أمامي .. تخيفني .. ” , ازداد الكائن الأعظم رعبا وهو يتساءل متمتما : ” ماذا ترى ..؟ ” .. رد الكائن الأوسط بوهن : ” نارا  تتجلى أمام عيني مخيفة .. أحس بحرارتها ” .

  لبث الكائن الأعظم جنب صديقه الجريح , لم يبرح المكان قط إلى أن تقدم فريق طبي لتشخيص حالته الصحية .. خفت صوته فجأة وكفت أطرافه عن الحركة .. دنا منه كبير الممرضين , فحص دقات قلبه , حرك أطرافه .. تنهد وهو يغطي الجسد المتهالك بغطاء المرقد وقال : ” لقد فارق الحياة ” .

  كانت أكبر صدمة يصاب بها الكائن الأعظم  مذ رأى نور الحياة .. أن يرى أعز صديق له يلقي حتفه في هذه الظروف المؤلمة , قطع على نفسه أن يتوب إلى الله ففعل .. لكن ذكرى صديقه ظلت تطارده في حله وارتحاله .. في حزنه وفرحه .. وهو يكتم سره ويتألم وحيدا إلى أن فاتح إمام مسجد ألف ارتياده للصلاة في الموضوع .. وحكى له القصة كاملة وسأله قائلا : ” هل  سيآخذني الله بذنب المشاركة في مقتل صديقي ؟ ” , ابتسم الشيخ مجيبا : ” كل نفس يا ابني بما قدمت رهينة , والله يغفر الذنوب جميعا إلا الإشراك به , ادع الله ليغفر لك ولأخيك ولكافة المسلمين , استعن بالصبر والصلاة والصدقات , وما خاب من تضرع لله وتاب إليه ” .

 

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *