أٌقفال الحبّ وأخلاقه

خاص- ثقافات

*بسمة الشوالي – تونس

إلى هذا الحدّ يسبّب الحبّ الانهيار حتّى لقلب المعدن..؟ سؤال بادر الذّهن حين اشتكى جسر الفنون بباريس أو جسر الحبّ كما يشتهي العشّاق تسميته من كثرة أقفال الحبّ المعلّقة بأهدابه حتى هبّت بلديّة المدينة إلى إزالتها حفظا له من الانهيار. لكن قبلا، لماذا وقع الاختيار على القفل دون غيره رمزا لتأبيد الحبّ في الشارع العموميّ للذّكريات؟ وهل من مشجب آخر غير الجسر يعلّق عليه العشاق أسماءهم وأسرارهم؟
في البدء كانت الشّجرة خيمة العاشقيْن الأوّلين آدم وحوّاء. كانت شجرة مقدّسة بالجنّة حلال ظلّها، حرام ثمرها. (آية 19- الأعراف) لمّا أكلا من ثمرها (وكان تفّاحا وقيل حِنطة)، غضب عليهما ربهما، لكنّه لم يخرجهما من جنته حتى غفر لهما(الآية 37 – البقرة). الحبّ طعام على نحو ما. على الأرض ستصير معظم أفعال الحبّ العربي على نحو مخصوص ومميّز وليمة، والجسد، جسد المرأة تحديدا بديلا عن الجنّة وأُكْلها، فهو “الرّوض العاطر” والبستان الفائح وطرحه الرُّطب الجَنيّة والتّفاح والعنب والكرز والرّمان والبرتقال والورد والرّيحان وشقائق النّعمان والعسل والماء الزّلال.. إنّ الحبّ بوصفه طعاما أو الطعام بوصفه فعل حبّ هو ما أدّى إلى انكشاف العري البشريّ بالحياض المقدّسة، ومن ثمّ اكتشاف الإنسان لجسده “ذي الجروح التّسع”، هذا الجسد الذي لم يكن مختلفا عن شركائه في الجنّة وهم الملائكة في مادّة خلقه ومصدر مادّته هذه فحسب، بل في وظائفه الحيويّة، ونمط معيشه (يأكل ويشرب) وثقل جسمه (يتنقل مشيا وركضا)، وخضوعه إلى ثنائيّة الجنس ذكر وأنثى كذلك. الحبّ إذن هو فاتحة الزّمن الأرضي بامتياز. والقدرة على ممارسته هو الاختلاف الجوهريّ للبشريّ عن الملائكة المخلّدين، وكثيرا ما يكون لعبة الشياطين المفضّلة، لكنّه بالمقابل كان السّبب الظاهري لنزول الإنسان إلى الأرض مفارقا دار النّعيم ممّا سيجعله بعدئذ خطيئة كبرى ستحمل المرأة وحدها وزرها على مرّ العصور التالية. في اليوم نفسه والساعة نفسها إذن أخرج آدم وحوّاء من جوار القدس، وكان نزول فرقة وبعاد، كلّ على حدة وفي مكان ناء عن الآخر.
تروي كتب التراث فيما تروي من أخبار النّزول أن آدم أُهبط  بالهند وأُهبطت حوّاء بجدّة. وسار آدم أربعين حجّة “حتى أتى جمعا فازدلفت إليه حوّاء فلذلك سُميت المزدلفة، وتعارفا بعرفات فلذلك سُمّيت عرفات، واجتمعا بجمع فلذلك سُميّت بجمع” (بن كثير- الكامل في التاريخ). أماكن الحبّ الأوّل بقاع مقدّسة تحفظ ذكراه من الزّوال وتمنحه نوعا من الخلود الأرضيّ بعد أن فقد الإنسان فرصة الخلود بالجنّة، فهو ” وحده القادر على إضفاء  طابع مثاليّ على كلّ ما يمكن أن يكون محبوبا على وجه الدقّة، وفي جميع مفردات الإنسانيّة، مع إيجاد مُثل جمعيّة جديدة لأنّنا نريد أن نترك عالما يمكن العيش فيه ويكون أكثر ما يمكن استقبالا لمن نحبّهم، لأطفالنا وللأجيال القادمة” (لوك فيري). بعد انقطاع الوصل أربعين يوما وقيل أربعين سنة، تمّ التعارف الثاني بين آدم وحوّاء في تاريخ الإنسانية والأوّل في التاريخ الأرضيّ على قمّة جبل عرفات، أقرب ما يكون حينئذ إلى السّماء. “الحجّ عرفة”، ثمّ يتمّ النزول إلى المزدلفة، فالسّعي بين جبليْ الصّفا والمروة. حجر الصّفا أملس صلب فهو مذكّر، وحجارة المروة بيضاء ليّنة وهي مؤنّثة. وفي الجاهليّة كان ينتصب على الصّفا صنم أساف وعلى المروة صنم نائلة أشهر عاشقين عبدهما العرب. وذُكر في سبب التّسمية أنهما سُميّا كذلك لأنّ “آدم عليه السلام وقف عليه (الصّفا) فسُمّي به، ووقفت حوّاء على المروة فسُمّيت باسم المرأة وأنّثت لذلك والله أعلم” (شمس الدّين القرطبي).
من وجهة نظر ما قدّمنا، تمثّل شعائر الوقوف على عرفات والمبيت بالمزدلفة والطّواف بين الصفا والمروة استعادة رمزية لطقس التعارف الأرضيّ الأوّل الذي احتضنته هذه الأمكنة، لتلك اللّحظة الفريدة الحميميّة المفعمة بالحاجة والخوف والنّدم والحسرة والرّهبة والشهوة والحيرة والقلق إزاء المستقبل والشّوق الأبدي لاستعادة النّعيم المفقود.. تلك اللّحظة التي أسّست للتاريخ البشريّ على وجه البسيطة ورسّخت خطوته الأولى على ترابها القضّ اليابس الأبعد ما يكون عن رغد الجنّة وطراوة ملامسها، تلك التي في استعادتها يتجدّد طقس التعارف بما هو تواصل وتحابب وسلام وتساكن عاطفي تحت ظلّة الإنسانية الوارفة ونسائمها العليلة، وتعمير للأرض بما يوجب قانون الاستخلاف وما يستوجبه هذا القانون من السّعي الضروري بين قطبي الإخلاف الرّجل والمرأة/ الصفا والمروة.
سريعا ما احتكرت الطقوس التعبّدية المحض جبل عرفات وما جاوره من الأماكن المقدّسة وصار من الضّروريّ اختراع تقنية أخرى لتخليد الحبّ في قلب الكون، من طلل آبد يكون مزارا دائما للذّكرى، ونقشا على وجه الزمن لا يبلى، من مكان مرتفع آخر. الجسر بما هو طريق مرتفعة تربط بين ضفّتي منخفض يشكلّ خطرا على حياة الإنسان، كان، فيما نرى، البديل الرّمزيّ عن قمّة الجبل، وكان القفل نوعا من التأريخ للحظة الارتباط الأولى بين العاشقين، ينقشان الحرفين الأوّليْن من اسميْهما على وجه المعدن ويلقيان بمفتاحه في جوف النّهر حيث يرسب هناك إلى الأبد. في القصص المتناصّ مع التراث كثيرا ما كان يُعثر على خاتم في جوف سمكة إحالة على خاتم سليمان الذي وقع يوما قديما في البحر وعثر عليه الشّيطان فحكم باسمه أربعين يوما قبل أن يُكتشف أمره. مفتاح قفل الحبّ ليس خاتما ملكيّا لإدارة العالم بأهواء الحكام، هو عالم بأسره حالم آمن مبهج ومتوقّد المشاعر تمتدّ مساحته من القلب إلى القلب ويكتب النّبض تاريخه في سجلّ الشوّق الأبديّ. من يعثر على مفتاح في جوف سمكة ما يوما فليمجّد الحبّ، وليلقه ثانية في النهرّ القريب. كلّ المياه متشابهة، وكلّ الجسور العتيقة حمّالة أقفال وأشواق بفرنسا، بإيطاليا، بألمانيا، بنيويورك، بالصّين، بروسيا.. لكن لمَ لا يوجد جسر واحد للحبّ في الوطن العربيّ تعلّق عليه مثل هذه الأقفال؟ هل لانعدام الأنهار أم لندرة العشّاق..؟
من الجليّ أن القفل ومفتاحه والجسر وشبابيكه المعدنيّة تقاليد تنحدر من صلب مجتمعات صناعيّة تخلّصت من طقس الاعتراف الكنسيّ المكفّن بحسّ الخطيئة وخوف الإثم حتى من النظرة العاشقة المنفلتة عن السيّطرة إلى الاعتراف العلنيّ بالحبّ. يقتضي هذا الإشهار مراسم هي تعليق الأقفال إلى شبابيك الجسر المعدنيّة، والقبلة، وضغطة الحضن الملهوف تتمّة لمشهديّة الحدث والمضيّ عنه بأصابع متشاجرة مع وعد أكيد بالعودة يوما ما إلى المكان نفسه وهو ما يتنافى مع أخلاق الحبّ الشّرقيّ الذي لم ينج إلى اليوم من تهمة الانحلال الأخلاقي والفتنة وإفساد المجتمع بما يستوجب الحظر والتضييق والحصار المضروب بشدّة حول جسد المرأة باعتبارها السّبب الرّئيس في الفتنة والفساد، وما يستتبع ذلك من فتاوى التحّريم والتّجريم بهذا الشأن وكذا ما ينجر عن خرق المنع من عقوبات زجريّة قاسية تستهدفها بدرجة أولى وأساسا. هل يعني هذا أن العاشق الشّرقيّ لم يبتدع له مزارات خاصّة للحبّ يحجّ إليها حين هبوب رياح الشّوق العاتية أو حين تولد في قلبه طفلة الهيام الأولى مكتفيا بالبكائيات والرّثائيات في الأغاني والأشعار؟
ثمّ من قال إنه لا أقفال للحبّ ترقد في الأنهار الشرّقية للغرام..؟
في لسان العرب يفيد الجذر (ق ف ل) ومنه القُفول معنى الرّجوع. وسُمّيت القافلة قافلة تفاؤلا بقفولها عن سفرها الذي ابتدأته. معنى القفل هو العودة المستمرّة في الزّمن نحو البدايات، إنّه تلفّت القلب غير المنقطع إلى الخلف، إلى ماض لا ينفكّ يكون جزءا من المستقبل وإن بشكل خفيّ وغير متوقّع. وهل أكثر تلفّتا من المجتمعات العربيّة؟ وهل من ماض أقدر على التحكّم في مستقبل الشعوب كما في وضعنا؟ ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل، ما زلنا نردّد جيلا عن جيل، وما يزال البكاء على الأطلال مترسّخا فينا وإن بشكل خفيّ ومعدّل “جينيّا”. القفل هو أيضا وهنا أحد الأطلال الرّاسخة الأثيرة في العشق الشّرقي، إحدى تقنيات الحبّ في الانفلات من قيد الزّمن والتطلع نحو الخلود.
كيف وليس من جسر واحد مكرّس لذلك ولا مفتاح بأي نهر من الأنهار؟
لنتأمّل في لسان العرب: قال أبو منصور: القفل جمع قفلة وهي شجرة بعينها تهيج في وغرة الصيف، فإذا هبّت البوارح بها قلعتها وطيّرتها في الجوّ. والمقفل من النّخل: التي يتحاتّ ما عليها من الحمل، حكاه أبو حنيفة عن ابن الأعرابي . الشّجرة بهذا المعنى هي القفل الذي يُقفل كما الباب على أسرار العشاق وهي الجسر الحامل لها في آن، على لحاء جذعها الحيّ تحفر الأسماء، وفي ماء نسغها تُرمى ماتيح الغرام. هي إلى ذلك الأقرب إلى زمن البدايات المقدّسة، حين كانت مثلا عن الخير العميم. فورقها ستر للعورة، وفروعها ظلّة من الهاجرة، وثمرها جُنّة من الجوع، وريحها غواية للحبّ، وجذعها مستودع أسرار العشاق وآهاتهم المحاصرة بلاءات المجتمع الكثيرة، وفي ارتفاعها عن الأرض يتجلّى البديل الرّمزيّ عن جبل عرفات الذي احتضن آدم وحوّاء بعد فراق النّزول. وكما يُختبر الإيمان على عرفات، يختبر العشّاق على جذوع الشّجر، قلْ لي أين تكتب اسم حبيبك أقل لك أيّ عاشق أنت، تغنيّ فيروز: “بِكْتُبْ اسمك يا حبيبي على الحور العتيق/ تكْتُبْ أسمي يا حبيب ع رمل الطّريق/ بُكرة بتشتّي الدّني على القصص المجرّحة/ يبقى اسمك يا حبيبي واسمي بيمّحى/”. ذلك أنّ الجسر ليس الشّجرة، ينهار هو من ثقل الحبّ المحمول في كتل معدنية ترزح على كاهل حاملها، ولا تضيق الشّجرة بالمحبّين، تهب نفسها سجلاّ دائما للحبّ المحفور على جسدها الحيّ ما لم تقتلعها يد البشريّة المتعجرفة، ورسولا ينشر عقيدة الحب في العالمين. العشّاق الذين يرقشون أسماءهم على شجرة “الفيكس” المنتصبة بمدخل برج القاهرة، يتحوّل حبّهم المرفرف في الهواء إلى جذور قويّة تضرب في الأرض ليستمرّ الحبّ، تقول الأسطورة (رانيا سعد الدّين/ اليوم السّابع). وفي ربع جغرافيّ آخر، بالشّمال الغربي للبلاد التونسيّة تهب الوليّة الصالحة “أم العكاريش” النّائمة في حضن شجرة خروب ضخمة عتيقة بركتها لزوّارها خاصّة من النّساء. من أغصان الشّجرة المباركة تتدلّى أخلاق أقمشة وشرائط شالات وسيور فساتين وملاءات علّقتها  النّسوة العاشقات زوجات وأرامل وعرائس تأخرت أفراحهنّ وحالمات تعطّل قطار الحبّ في طريقه إليهنّ، وأحلاما تخفق كلّها في مهبّ الرّياح.. أخلاق الأقمشة المدلاّة هذه هي صورة أكثر مرونة عن تلك الأقفال المعلّقة إلى الجسور. وتلك المفاتيح الملقاة في جوف النّهر هي نفسها القطع النّقديّة التي يرمي بها المحبّون في بئر مسعود بالاسكندرّية.
الحبّ فوق الجسر، كما “تحت التّفاحة” (كما يغني فهد بلان)، على “الحور العتيق” (كما تشدو فيروز)، أو “تحت الياسمينة في الليل” (كما يهزج الفنان التونسي الهادي الجويني) هو دائما واحد وخفيف، هشّ واحتراقيّ يلد القصص من أرحام القصص المترمّدة ويشهق في وجه الفناء خالدا مدى الحياة، والعشاق كُثر ومختلفون لكنّهم جميعا وفي كلّ مكان من العالم متشابهون، يتحدّون النّسيان، والإهمال، ويقفون رسلا للخير والسلام والتعاطف الإنساني إزاء الكراهية المتفشّية في أعطاف العالم، وهم إذ يعلّقون أقفال الحبّ على شبابيك الجسور وأخلاقه على أشفار الشّجر يشهرون رايات الجمال عاليا وينشرونها على أجنحة الرّيح مقابل كلّ تلك الرؤوس البشريّة التي تقاذفتها أسنّة الإرهاب ورماح الشرّ المحمولة على ظهور الدّبابات وترسانات الأسلحة الكيمياويّة والبيولوجية الحديثة.. وهم إذ يحفرون أسماهم على أجساد المعدن الصلب، أو على لحوم الشّجر الحيّ، يسكنون ذاكرة العالم المعطوبة طاردين منها كل أسماء القتلة والسفاحين وعرّابيهم في مختلف الأقطار بمختلف جهات العالم. إننا نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى “ثورة الحب”، بعبارة لوك فيري، علّها تغسل شوارعنا من دمائها المهراق وتطهّر مدننا من كلّ القتلة والمستثمرين في اقتصاد الكراهية.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *