استعادةٌ، بمحاولةُ استعادة؟ (تأملات حول قصيدةٍ شعريةٍ)

خاص- ثقافات

*محمد مختاري

            نشر الشاعر المغربي رضوان بن شيكار، مؤخّراً، بالصحيفة الإلكترونية العربية المتميزة: “آفاق حرّة للثقافة”، نصًّا شعريا* أسماهُ “استعادة”، لكننا، سنرجئ وسمَهُ بالمتميّز إلى ما بعد التّحليل، وذلك حفاظاً على أي توجه موضوعي قد يصدر من هذه الأسطار.

*        *        *

            تنطلقُ رؤيانا النّقدية، هنا، من مقصد أساسي، يتوخى الإبانة عن مدى كون النصّ الشعري، المتطرق إليه، في هذا الوضع، عبارة عن “محاولة استعادة“، وليسَ “استعادة“. إن كلّ محاولة منّا لترسيخ هذه الفكرة، لا تدّعي إقصاء البعد الانتقائي للعنوان عند الشّاعر؛ ذلك بأنه ليس من الضرورة أن يكون العنوان، دوماً، مركزاً جاذباً إلى الدلالة التي يحملها القارئ عن النّص، فقد يسعى، بانحرافاته الإبداعية، جذبَ القارئ إلى توجّه دلالي آخر. فنكون، حينذاك، بعيدين، كلّ البعد، عن النّص، وعمّا يتمخض عنه من رؤى. لكن، بما أن التأويل، يحاول، مجتهداً، الفصل بين النص وكاتبه، وإعطاء القارئ كل الإمكانات من أجل قراءة النّص من خلال علاقته به، فإننا سنترك كل أثر يوحي لنا بسلطة المؤلف جانباً.

            ولأجل فهم هذا التحليل أكثر، ندعو القارئ إلى قراءة نصّ القصيدة أولاً، قصد التفكير من خلال النص الأصلي، لا من خلال النص الواصف لهذا النص الأصلي.

*        *        *

            يجلسُ “المُستعيدُ” تحتَ ظلّ تتفرّعُ عنه ظلالٌ كثيرة، مما يفترضُ وجود شمسٍ حارقة، ويفترض، أيضاً، هذا الجلوسُ، سَفَراً. إن “المستعيد”، فيما يُعلِمُنا النّص، مسافر، وأي مسافر؟ إنه مسافر عبر الصحراء القاحلة التي يساوي، فيها، الحصولُ على ظلٍّ، الفوزَ بحياةٍ ثانية.

لكن، هل هو حقًّا ظل هذا الذي وجده “المستعيد”؟ يجيبنا الشاعر:

“تحت الظلال الوارفة

للظل العابر المقيم

الذائب في دمي،

المترنّح بين دُخان الغياب”.

إن “المستعيد” من شدة تشوّقه إلى ظل يحتوي وجوده المكتوي، صار يتخيله، يحس به عابراً تارةً، مقيماً تارةً أخرى، حتى يضيق المكان، وتقترب الحقيقة من تصورّه، فينفلتُ هذا التناقض، ويختفي، ليذوب هذا الظل في دمه، ويخرج، أخيراً، من فمه (ما دام دُخانا، كدخان السيجارة مثلاً) كالدخان المتصاعد إلى الأقاصي، والأعالي.

ماذا عليه أن يفعلهُ الآن؟

يبحثُ “المستعيد” عن قوة تعينه على الانفكاك من هذا الاحتراق. لن يجد خيراً من الكلمات، التي لكونها مشحونةً بالشجن، صارت متقدّة بالأشجار المتخيّلة التي استظل بظلها في أول الأمر. هاته الأشجار ما هي إلاّ رؤياه الواسعة التي يلجأ إليها للتخلص من ربقة الواقع ونمطيته. فتتحول كل هذه الآهات إلى حكايات، حكايات في شكل قصائدَ طبعاً.

*        *        *

            قبل أن نتمّ قراءة النّص، اكتشفنا، من خلال الأسطر الأربعة الأولى، أن “المستعيد” كان مُسافراً، لكن الشاعر يؤكد لنا ذلك، فيكتُب ابتداءً من السطر التاسع:

            “أستلقي قربها قليلاً

كمسافرٍ أنهكَهُ التّرحال”.

إذن، يُصبح التملص من ثيمة “السّفر” غير ممكنٍ هنا، فهو، في نظرنا، الهدفُ الذي يستقبل كلّ الطّرق المتشعّبة في النّص.

*        *        *

            تبدأ، الآن، محاولة الاستعادة التي تقصّدنا الكشف عنها في هذا النّص. إنه، بالإضافة إلى الحكايات الحزينة التي ساعدت “المستعيد” على التخلص من سيل عارم من المكنونات الدفينة والأليمة، يوجد معين آخر. ويتجلى هذا المعين في: محاولة استعادة “الوجوه” القديمة التي يكنّ لها المشاعر الطيبة؛ لأن الطبيعة البشرية، تميل إلى التخفيف عن الكروب من خلال مجالسة الأحباء، وتذكّرهم. هذا يعني أن هؤلاء الوجوه، هم بالضرورة لهم علاقة وطيدة، وطيبة بـ”المستعيد”.

            بفعل العوامل القاسية التي كان يوجد فيها “المستعيد”، وبفعل الذهاب، بعيدا، بالتفكير، نحو أقاصي الخيال، فقد وعيَه، ودلف إلى عالم آخر. هذا العالم، فوّتَ عليه اللّقاء بأحبّائه، واستعادة وجوههم، أو رؤيتهم. لذلك لم يبق له سوى لوم هذه “الوجوه” التي لم توقظه، على الأقل، لتحيّيه تحية وداع. وحينما استفاقَ، فاته أن يرى “الوجوه” الأخرى بسبب القطارات المتسارعة بين المحطات، فصاروا، بعد ذلك، غرباء، “دون أن يستقربوا المسافات أو يتواسوا بمواعدة ثانية”.

            هذا كله في غمرة السّفر القاسي الذي دَفعه إلى تحويل الحكايات الحزينة، الممزوجة بظلال التخيّل، من طابعها السردي والحكائي، إلى ما يجعلها تقول: “ها أنا ذا، لقد صرتُ قصيدة حزينة”.

*        *        *

            يبقى لنا، إذاً، أن نؤكد ما بدأناهُ، ونقول: إنّ القصيدة هذه، محاولة استعادة، وليست استعادةً، فالاستعادةُ تقتضي استحضار الوجوه التي تحسر الشاعر عن عدم لقائه بها، ولو بمواعدة تمكنه من بث الأمل في القصيدة. إنها محاولة استعادة، عانى فيها “المستعيد” (الذي صار بإمكاننا الآن أن نسميه “الرجل الذي حاول الاستعادة”!) ما عاناه من آلام، وآهات، وأحزان. ثم إن الأشياء التي نتمنى تحققها، لا تعود لها أي قيمة فور تحققها، لذلك فضل الشاعر أن لا يستعيدها، لتبقى القصيدة، كما كانت، منذ الأزل، بحثاً متواصلاً.

            لقد صار بإمكاننا، أيضا، أن نقول: إن القصيدة “استعادة” متميزةٌ؛ ذلك بأنها استطاعت أن تخلق مكانا “مؤثثاً” بالمشاعر، وتخلق لنفسها رؤيا وجودية متميزة. ناهيك عن تماهيها مع نصوص أخرى، كرواية “وجوه” لمحمد شكري، التي استعاد فيها وجوها كانت لها بصمة ذات أثر في حياته. كما لن ننسى تماهيها مع الزمن المستعاد، الذي ما فتئ بروست يتغنى به.

* نص القصيدة:

تحت الظلال الوارفة

للظل العابر المقيم

الذائب في دمي،

المترنّح بين دخان الغياب

المتصاعد في الأقاصي،

ونار الكلمات المتّقدة

بحطب الأشجار المنكسرة

في عروق الحكايات.

أستلقي قربها قليلاً

كمسافر أنهكه التّرحال

كي أستعيد بعض الوجوه

القديمة،

التي نزلت في الطّريق

دون أن توقظني لتلقي

علي تحية الوداع،

وأخرى حالت بيننا

القطارات،

فتهنا بين المحطات

كالغرباء،

دون أن نستقرب المسافات

أو نتواسى بمواعدة ثانية.

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *