خاص- ثقافات
*عزيز العرباوي: كاتب من المغرب
عن سلسلة عالم المعرفة التابعة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، صدر كتاب “الثورة الرقمية: ثورة ثقافية” (Révolution numérique, révolution culturelle ?) لريمي ريفيل، ترجمة الكاتب والمترجم المغربي سعيد بلمبخوت، والذي أبدع فيه من حيث اللغة والتهميش، كما استطاع أن يقدم لنا كتاباً جيداً يوحي بأن الكتاب المترجم هو تأليف جديد له.
يقول المترجم في مقدمة الكتاب: “أثار الانتشار السريع للتقنيات الرقمية خلال العقدين الأخيرين إمكانية الحديث عن العصر الرقمي. وأثر هذه “الثورة الرقمية” التي أحدثت تغييرا في وجه العالم لا يقتصر على الصناعات وطرق الإنتاج، لكنه يمتد كذلك إلى المنظور المعرفي. وعن مدى تأثير هذه الطفرة الصناعية، حاول ريمي ريفيل Rémy Rieffel كمتخصص في دراسة وسائل الإعلام والمجال الرقمي والصحافة والأنترنيت، في كتابه “الثورة الرقمية، ثورة ثقافية؟” إثارة التفكير في ظهور العصر الرقمي في سياق نمط مزدوج يتعلق بالتقنية والدراسات الثقافية. الفكرة الأساسية لهذا الاختيار هي أن الرقمي يعتبر مجالا تتعايش من خلاله المنتجات الثقافية على اختلافها مع الأقطاب التكنولوجية. في كتابه هذا يطرح ريمي ريفيل العديد من التساؤلات، من قبيل مزايا انتشار المعلومة وتأثير التكنولوجيات الحديثة على تصرفاتنا الشخصية والجماعية، وتقييم كيفية التصرف والتفكير والمعرفة. ويرمي إلى توضيح ما هو الرقمي بالنسبة إلينا (كأفراد)، وبالنسبة إلى غيرنا (كمجتمع)، وهل يعزز، كما يؤكد على ذلك دائما، أحد أشكال المؤانسة الجديدة (عبر الربط) ، و”تعبير” للأفراد (تعليق، أو حوار، أو إبداء الرأي)؟ ثم يتساءل عمّا يغيره الرقمي عند الولوج إلى المعرفة، والمعلومات (المعطيات، والمؤلفات، والأفلام.. إلخ)، هل يشجع شكلا جديدا من الإبداع، وتبادلات جديدة للمضمون وإنتاجات ذاتية (موسيقى، وأفلام، وألعاب فيديو)؟ وهل يشكل مصدرا حقيقيا للتجديد للثقافي؟ ويتطرق إلى ما يغيره الرقمي مع الوصول إلى المعلومة (بمعنى الخبر)، و ما يتعلق بالآراء والتمثيلات في المجال السياسي، وهل يعمل على تيسير نقاش الأفكار، ومزيد من التحاور، وتوسيع المجال العمومي، والديمقراطية التشاركية؟ ويخصص حيزا للحديث عن الملفات الشخصية، لاسيما لدى الشباب (مؤانسة الأحداث). ويناقش مسألة عدم التكافؤ السوسيو-ثقافي في مجال استخدام تكنولوجيا الإعلام والتواصل، والاختلافات من حيث استعمال الإنترنت، للتأكد من وجود شرخ رقمي”.
وعن أهمية ما جاء به المؤلف الأصلي للكتاب يقول المترجم سعيد بلمبخوت الذي يرى أنه يوضح في إطار ما يقدمه المؤلف من مادة معرفية وعلمية بكتابه: “أن الهدف هنا هو إعطاء تحليل شامل لكل القطاعات المعنية بازدهار الرقمي في ميدان الثقافة، مع التركيز على بعض الجوانب الرئيسية وتحديد خطوط التصدع وترقب ما يمكن أن يقع: أشكال مؤانسة جديدة، وعلاقات جديدة من حيث الإبداع والمعرفة والإعلام والمواطنة. وفي تحليله لتلك الرهانات الرقمية يرتكز على مقاربة سوسيولوجية للمشكلات، ويأخذ بعين الاعتبار الاستعانة ببعض التساؤلات الفلسفية والنفسية وحتى الاقتصادية؛ لأن الظاهرة، بحكم التعريف، هي متعددة السياقات والأبعاد، كما يقول ريفيل”.
ينقسم الكتاب من ثلاثة أجزاء أو أقسام حيث نجد المؤلف في الجزء الأول يحاول تعريف التكنولوجيات الجديدة واستعمالاتها، وبعد تعريف الرقمي والإنترنت يثير موضوع العلاقات بين التقنية والمجتمع وكيفية استعمال التكنولوجيات الجديدة، والسوق الرقمية وثقافة الرؤية. كما يتطرق المؤلف أيضاً في الجزء الثاني إلى ازدهار المدونات والشبكات الاجتماعية وثقافة التقاسم والطرائق الجديدة في القراءة على الشاشة ومستقبل الكتاب. ويثير مسألة الانتباه والذاكرة وقدرة الدماغ على التكيف. في حيث يناقش الجزء الثالث من الكتاب العلاقة بين الإعلامي والسياسي، والمشهد الإعلامي الجديد، والصحافة الرقمية والإنترنت كمصدر إعلامي، والتواصل السياسي عبر الإنترنت.
ويقترح المؤلف في خلاصة الكتاب بأسلوب متميز وبطريقة جامعة ومحينة لما جاء في الأجزاء الأخرى تحليلا اجتماعيا من شأنه أن يتجنب التركيز فقط على الابتكارات التكنولوجية، بل يتعين كذلك ملاحظة تأثير التكنولوجيات الرقمية على العالم الثقافي، ويبين أن السهولة في الوصول إلى المضامين الثقافية بكل أجناسها وانتشار المواقع الإخبارية، وتوسيع متابعة الموسوعات الجديدة عبر الويب، وتعدد المنابر لتداول المضامين، أدى أيضا إلى تفاعل كبير بين الخبراء والأفراد العاديين، وبين المهنيين والهواة والتحول في إعادة التشكيل الثقافي، وأن ازدهار التكنولوجيات الرقمية وسع من مجال تصرف الأفراد، ويدعو إلى عدم تجاهل الحدود والأخطار المحتملة التي تطرق إلى عدد منها.
وفي هذا الإطار، يؤكد المترجم في مقدمة الكتاب دائماً أن المؤلف قد “أوضح السهولة التي يتم بها حاليا التدقيق في التصرفات التجارية وتحليلها، وأن غير التجارية تؤكد أن التكنولوجيات الرقمية لا تختزل في أدوات التحرر، بل تشمل أيضا بذرة الأشكال المتجددة لتوجيه الأفراد واستهدافهم. و أن هذا الرصد الواسع النطاق للأفعال والتحركات على الشبكة العنكبوتية يمتد إلى ما وراء المنطق الاقتصادي والمالي ويلمس التصرفات السياسية، وبذلك يقود إلى ممارسات تجسس متطورة”. كما يؤكد المترجم أيضاً، أن ريفيل يرى في إطار من التحديد والتوضيح أن التكنولوجيات الرقمية، لاسيما في الميدان الثقافي، ليست سوى انعكاس الاستعمال الذي يقوم به المرء، ولا يمكن أن تحلل بمعزل عن الفاعلين الذين يمتلكونها، وأنها لم تضع حدا لعدم المساواة في ما يتعلق بالاستخدام، ولم تخف سوء التفاهم بين البشر ولم تقلص بتاتا النزاعات، لكنها وسعت بشكل ملموس الإطار الزمكاني، ووفرت وصولا غير محدود إلى المعارف، ورفعت من القدرة على التبادل والمشاركة؛ لأنها تحاول بشكل ما تغيير تصور المرء للعالم. وينهي الكاتب هذا المنجز بالقول: “بعيدا عن كل القيود، فعالم التكنولوجيا الرقمية يشكل وسيلة للتحرر والهيمنة في الوقت نفسه، وفي كل الأحوال فإنه لا يزال في الوقت الراهن وعدا وتحدّيا”.
وفي الختام، يمكننا القول إن الكتاب الجديد من خلال ترجمته يعتبر إضافة مهمة للمكتبة العربية التي هي في حاجة إلى مثل هذه الإصدارات التي تضيف العديد من الأفكار والمعلومات والمعارف على مستوى الثقافة الرقمية التي مازلنا نعيش هوة عميقة من ناحيتها ومن ناحية التفكير في ممارسة الوعي الرقمي أو -إن صح التعبير- الوعي بمستلزماتنا المعرفية والتقنية والتكنولوجية في عالم يتطور بسرعة كبيرة وقوية. كما أننا مدعوون إلى القول إن المترجم كان ذكياً في اختياره للكتاب من أجل ترجمته، كما كان ذكياً في اختياره لدار النشر التي نعرف أنها تحقق انتشاراً واسعاً على الصعيد العربي والعالمي. ولا بد من التذكير هنا بأن سلسلة عالم المعرفة يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، وتعد من أهم السلاسل الفكرية بالعالم العربي التي تقدم للقارئ موضوعات من قبل متخصصين وترجمات من لغات متعددة، وذلك منذ يناير 1978. وتطبع كل شهر ثلاثة وأربعون ألف نسخة توزع بشكل واسع على الصعيد العربي وفي بعض الدول الغربية.