فرس السنوسي الحمراء

خاص- ثقافات

*ابراهيم عثمونه

أنتم قد لا تعلمون أنه في واحات “لبوانيس” * الطينية القديمة حين يقولون \ أنه ليلة أمس نعسنا في الغرفة أو تعشينا في الغرفة أو ذلك الشيء تجده في الغرفة أو أنظر إلى تلك الغرفة هُم لا يعنون داراً بوسط البيت بل يعنون داراً أخرى صيفية تقع فوق سطح البيت. الغرفة في البيت الطيني (في واحة سمنو القديمة والزيغن وتمنهنت) لا تعني أحد الدور التي داخل المنزل، لا ، بل هي دار أخرى وأمامها فسحة للصيف فوق المنزل . ليست كثيرة هذه الغرف، وليست كل المنازل لها غرف للصيف فوق السطح، ويوم صمد واستبسل “السنوسي بن سالم” في غرفته بالزيغن وبصحبة رفاق له من البلدة ما كان وقتها يعتقد أنه ورفاقه كانوا يعطون معنى آخر للغرفة غير معنى الصيف الذي بُنيت لأجله. يا للعجب كيف اتسعت يومها مساحة السطح والغرفة لهم رغم ان المسقوف بقيّ كما هو، وكيف ارتفعت بهم هامة الغرفة ورغم أن طول جدرانها بقيّ كما هو ، ولو دخلت الزيغن اليوم وسألت أول شخص يأتي بطريقك عن “يوم الغرفة” سوف تجد عنده القصة كاملة التي دارت أحداثها في اسبوعين أو أكثر . وأنا إذ أسرد قصة تاريخية مضى عليها قرن من الزمان لا أسرد ذلك من باب المفاخرة ، فالسنوسي أصلاً لم يكن وحده ثم حتى لو كان وحده فالرجل في تصوري هو فكرة يمكن أن تتكرر وتتجدد اليوم وغداً وحتى من سلالة أخرى وبأشخاص وأدوات أخرى ، وما فرسه الحمراء التي امتطاها بنهاية القصة حين اتسع عنهم الحصار إلا اليوم سيارة “تايوتا” مُسلحة لكنها بأخلاق وقيم تلك الفرس . فالتاريخ – في تصوري – ليس حديثاً يروى وحسب بل هو صور تتكرر وتتجدد وتمر من أمام وجوهنا بأشكال عصرها.
يومها وهم واقعون تحت الحصار الذي دام لأكثر من اسبوعين، نفدت المؤن، ولم يبق لهم سوى بئر ماء بداخل البيت ونخلة تقف بالفناء حين دب الجوع واليأس فيهم وصار هناك مَن يُفكر في الاستسلام . لا ينقصهم الماء وليسوا عطاشى لكن عراجين النخلة المُعلقة بأعلى مكشوفة ومُعرضة للموت. نظروا لها ثم في ليلة من ليالي الحصار همهم وتململ وغامر “الحامدي” الذي كان بينهم وتسلقها. كان يعلم أنه قد يقع برصاصة من الخارج، وبالفعل لم تمض دقائق حين سُمع ارتطام جسده والعرجون على الأرض ، يااااالله ، قيل وقتها أن السنوسي شوهد من أسفل يدير وجهه عنهم ويبكي وهو بأعلى الغرفة.
دفنوه في الصباح بفناء المنزل وصلى عليه أخوه ورجل آخر معهم . يومها يقال أن السنوسي بن سالم قال قولته الشهيرة “هلنا ونهار غابت لعذار” أي أن الأهل ونهار غابت فيه الأعذار . ألهمهم الحامدي الحكمة والشعر والثبات إلى آخر لحظة وآخر يوم من الحصار ، حتى إذا جاءهم المد والدعم من خارج الزيغن وصار المحاصرون يتراجعون رويداً رويداً وصارت دائرة الحصار تتسع ساعة بعد ساعة ، خرج الشيخ الطاعن في السن من مكمنه يخاطب ولده ليقول له “الهارب ما تلحقه يا سنوسي” وكان سنوسي الذي امتطى فرسه الحمراء ، والتي اشتهرت أكثر فيما بعد ، يرد على والده “جونا وما جيناهم يا سيدي” أي أنهم أتوا لنا في عقر دارنا ولم نذهب لهم بعقر دارهم . كنتُ طفلاً صغيراً بمطلع السبعينيات صحبة أبي يوم أشار لي بيده إلى أطلال مبنى قديم وقال لي إنها غرفة السنوسي بن سالم.
لطالما فكرتُ بعدها وتساءلت هل كان نُبل الشيخ “سالم الشيباني” والد سنوسي أجمل حين قال لولده \ الهارب ما تلحقه يا سنوسي ، أم قرار القصاص العادل الذي اتخذه سنوسي وهو يطارد الهارب هو الرأي الصائب ؟

…..

* لبوانيس منطقة بجنوب ليبيا تتكون من ثلاثة واحات \ سمنو ، الزيغن ، تمنهنت

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *