*لطفية الدليمي
قراءة في رواية ( ستيمر بوينت ) للروائي اليمني ( أحمد زين )
تعيدنا أوضاع اليمن الراهنة التي افترستها الحروب الأهلية والتناحر الطائفي والعرقي الممتد على جغرافية اليمن – شمالها وجنوبها – إلى مشهدية عدن – المدينة العالمية التي خضعت طوال قرن وربع القرن من تأريخها لهيمنة الاستعمار البريطاني ، حتى عدّها المستعمرون في مراحل متأخرة من وجودهم فيها بأنها ثالث أكبر وأهم ميناء تجاري عالمي بعد ليفربول ونيويورك ، كما تستدعي وقائع الحرب الراهنة والتدخلات الأجنبية الى أذهاننا مرحلتي المقاومة والإستقلال وصراعات وتناحر الايديولوجيات المتنافرة التي تركت آثارها على واقع المدينة الإجتماعي والديموغرافي والإقتصادي وهو بعض ماتصدّت له رواية ( ستيمر بوينت ) الرائعة للروائي اليمني ( أحمد زين ) .
يختار أحمد زين عبارة مفتاحية للسياسي البريطاني الراحل تشرتشل ليضيء بها عتبة العبور إلى عالم روايته الساحرة ( ستيمر بوينت ) مع اقتباس هجائي لمدينة عدن للشاعر رامبو واقتباس أخير من الذاكرة الشعبية . يقول تشرتشل : ” إمبراطوريتنا تبدأ من أسوار عدن “ ، هذه عبارة لا لبس فيها تفصح عن حقيقة النزوع الاستعماري للهيمنة وماتمثله عدن من أهمية للامبراطورية البريطانية ، ومن هذا المدخل التوثيقي البارع تبدأ أمواج الرواية المتلاطمة تنهال صوراً متتابعة ومشاهد تتغير بايقاع متسارع مكتوبة بإحساس جمالي فريد وسرد متقن تتألق فيه لغة الروائي البارعة مثلما تتسارع فيه الوقائع المشتبكة التي تشكّل متن الرواية ؛ فنشهد دوامات متداخلة من التقاطعات والأهواء الخفية والمعلنة لشخصياتها القلقة ، بينما يفصح توتّر السرد وتدفق ايقاعه الفاتن عن المواجهة اللاهثة بين النفس وصاحبها من جهة ومع الآخرالغريب المتعالي والآخر المستتر القابع في أغوار الشخصية المحلية المتناقضة مع ذاتها ، وتتجسد التناقضات الصاخبة في انصهار بعض الشخصيات وتماهيها حد إنكار الذات مع قيم المستعمر والإقرار بفضائله كما يحدث لدى كثير من أفراد الشعوب المحتلة ؛ بينما تتّخذ الشخصيات الأخرى مواقف متنافرة تسوّغ العمل المُهين مع المستعمر وتعتمد مواقف ملتبسة مع ذاتها ومع المقاومة الفعالة التي تمارس رفضاً قاطعاً لهذا التماهي مع المستعمر وتجتهد لتفكيكه ونبذ ممارسيه .
ينتقي الروائي أحمد زين برؤية نقدية تحليلية متقنة تأريخاً مفصلياً تنطلق منه وقائع روايته البديعة ( ستيمر بوينت ) وهو عام 1967 وبالتحديد اليوم السابق لانتهاء الاستعمار البريطاني لمدينة (عدن ) وإعلان استقلالها ، ومن هذه النقطة التأريخية يستعيد الروائي – بسرده المكثف وشخصياته العديدة المتنافرة القلقة أو تلك المتصالحة مع ذواتها – تأريخ احتلال عدن منذ 1839 ماراً بسنوات التحولات الكبرى التي طرأت على ( عدن ) وما تلا استقلالها من خيبات وانكسارات ؛ فيأخذنا الكاتب وهو يروي حكاية عدن الأمس بسرده الساحر ولغته المنضبطة إلى مايحصل اليوم في عدن من استقطابات وحروب أهلية يذكي حرائقها صراعٌ عرقي وطائفي – قبلي تغذّيه تدخلات خارجية مشبوهة ، وقد أوشك هذا الصراع أن يعيد اليمن – ولربما أعادها فعلاً- إلى عصر ماقبل الإستعمار .
المدينة الكوزموبوليتانية وساكنوها
يقدّم أحمد زين في روايته البارعة (ستيمر بوينت) صورة حية لمدينة كوزموبوليتانية تسكنها أعراق متباينة من أوروبيين وأفارقة وآسيويين ، تخصّصت كل مجموعة عرقية في مهن برعت فيها وشكّلت كتلة المدينة البشرية من طبقات متعددة وضعت في مراتب لاتتخطى حدودها المرسومة : أبناء البلاد أغراب في بلادهم وهم يتوزعون بين مثقفين حالمين بالحرية والثورة وبين منتفعين من المستعمر يمثلون ضرباً من ( الآخر) المنسلخ عن هويته ؛ بينما يمثل الغرباء الآخرون بهوياتهم المتعددة ذلك الآخر الراسخ في مكانته المتمسك بأدواره ، ويتكشّف النظام الطبقي الإستعماري عن صراعات معلنة وأخرى مستترة بين الأعراق المختلفة تدور في معظمها حول الثروة والأعمال التي توفّرها قوات الأحتلال والتجار الأوروبيون والهنود والفرس واليهود للمواطنين المعدمين القادمين من المدن البائسة في شمال اليمن والعمال الغرباء القادمين من الصومال واثيوبيا ، وتحتضن عدن المأسورة بين البحر والجبال كل هذه التناقضات المجتمعية والسياسية والإقتصادية لتمسي مرجلاً فوّاراً لاتنصهر في غليانه ولا تتمازج مكوّناته بقدر ما يتجذر تنافرها وتصادمها المحتوم .
يستكثر أحد الضباط الإنكليز على (عدن ) – وقد عدّها البريطانيون ثالث أهم ميناء عالمي – سعيها للتحرر عبر حركات مقاومة مستميتة لم تكن لتتوفر على رؤية واضحة للغد ، وثمة في المقابل نزوع رافض للمقاومة لدى بعض المواطنين العاملين لدى التجّار الأجانب والمستفيدين من المصالح الإستعمارية ، ويعلن بطل الرواية ( سمير ) خوفه من الإستقلال الذي سيهدد مصالح التجار الأجانب – فهو يعمل مشرفاً على مستخدمي تاجر فرنسي عجوز – ، كما يخشى البعض الآخر على تخلخل التعددية العرقية وزوال الرفاه الإستهلاكي الظاهري المتمثل بوفرة البضائع الأجنبية وانتشار المقاهي والفنادق بعد الإستقلال ورحيل المستعمر .
رؤية نقدية متوازنة
تقدّم رواية ( ستيمر بوينت ) عبر فصولها رؤية نقدية جريئة لواقع مدينة عدن وتحوّلاتها وتكشف عن التناقضات الحادة والصراع المحتدم بين شخصياتها وواقعها ، ولاتتردد هذه الرؤية الجريئة عن الإعتراف بالايجابيات اليسيرة التي أحدثها الاستعمار في بنية المدينة الإجتماعية والإقتصادية ونسيجها الحضري المناقض للإقليم الجغرافي المجاور لها ، ثم يكشف الروائي مقابل هذه الايجابيات المحدودة حالة الاستلاب والصلف الإستعماري والنظرة الإستشراقية المتعالية نحو العرب ، ولايكتفي بذلك بل يفضح عبر شخصية الباحثة البريطانية ( آيريس ) الأساليب والممارسات الإستعمارية إزاء الشعوب الخاضعة للبريطانيين برؤية مابعد كولونيالية ناقدة للواقع الذي سبق الإستقلال والحال التي آل إليها بعد الإستقلال ، ومن اللافت للنظر هنا أن يرى بعض البريطانيين في مناصرة ( آيريس ) للعرب ( محض اعجاب رومانسي بالمتوحش النبيل ) فتدافع عن نفسها بأنّ ماتفعله ( ليس حباً صريحاً بالعرب وإنما لأنها تنتمي إلى عائلة تكسب قوتها من الدفاع عن الآخرين ) .
ينعطف السرد ليقدم لنا آيريس الانكليزية من وجهة نظر رجال محليين يخدمونها ويتشهون نيلها وفي الآن ذاته يشمئزون من شبقها وعِرقها الأجنبي ؛ بينما كان ( سمير ) الذي يعمل لديها إضافة لعمله عند التاجر الفرنسي مهجوساً بسؤال لايفتأ يؤرقه على الدوام : ما الذي سيحلّ به إذا فقد عمله بعد الاستقلال فيما لو غادر الفرنسي وهاجرت آيريس ؟
المرآة : الأبعاد اللامنظورة
تمثل المرآة شخصية محورية في الرواية ؛ إذ من أعماقها تنبثق صور متلاحقة عن أغوار النفوس والأفكار السرية التي تنتاب الشخصيات وتشكّل هواجسها ونظرها للآخر المختلف من جانب والآخر المتخفي في الذات البشرية نفسها ، وقد امتدّ حضور المرايا على امتداد فصول الرواية كاشفاً عن الحقد والذل والخوف والتبجح والنكران والتشهي وعلى نحوٍ يظهِرُ التشوهات الوحشية للنفس البشرية مثلما يظهر ضعفها المهين وتواطؤاتها ، كما استخدم الروائي شخصية آيريس الملتبسة ليعكس تناقضات الذات الأجنبية إزاء رحيل البريطانيين وتشوه الذات المحلية في تعاملها معها بين انصياع كامل واشتهاء مرضي انتقامي وبين اشمئزاز نافر من انتمائها للمستعمرين – مرايا كثيرة استخدمها الروائي لملاحقة تناقضات الذات المحلية والذوات الأخرى للهنود المتصارعين مع بعضهم لاختلاف الدين وصراع النفوذ الفرنسي مع البريطاني والفارسي ، وتناقضات المقاومة في داخلها وانقساماتها المتتالية ،،، مرايا لاحصر لها تعكس تشوهات النفوس وجشعها واستسلامها وضياعها وهلعها ؛ فكانت رواية ( ستيمر بوينت ) بمثابة مرآة هائلة ممتدة على جغرافيا فكرية وجغرافيا مصالح وجغرافيا تشوهات وصراعات ماتزال تتكاثر في حروب اللحظة الراهنة ؛ فتحوّلت رواية ( أحمد زين ) بسرده البارع الى انعكاسات أضواء فاضحة كشفت عري الجميع أمام حقيقتهم وحقيقة عالم يتغير كل آونة وتتحلل مكوّناته العتيقة من غير أن ينجح في تشكيل واقعه الجديد .
عنوان الرواية : ستيمر بوينتالروائي : أحمد زينالناشر : دار التنويرالطبعة : الأولىسنة النشر : 2014عدد الصفحات : 172 |
__________
*المصدر: العرب