خاص- ثقافات
*د.فراس ميهوب
هذا الشِّتاء، كان ثقيلا وقاسيا جدَّا، فقد أمطرت السَّماء طويلا، ودون توقف، كان هناك عواصف كثيرة، وانبثق الماء من الأرض أيضا.
هذا الشِّتاء، عانيت من الملل، وكدُّت أفقد أصابعي من ملامسة الجليد، وغاصت أقدامي في العشب الذي قتله الصقيع.
اجتزت أمكنة ضيِّقة، وحيدا، سقف العالم فوق رأسي تماما، وحولي قليل من الأشخاص الذين بالكاد أعرفهم.
لكنَّ هذا الشِّتاء، كنت رجلا آخر، لأنِّي استطعت الكلام، بعد عقود من الصَّمت المقيم خلف صوت الرَّعد القالع، وأبصرت نفسي منعكسة على مرآة الشفق الأحمر،
وقلت للمرة الأولى من أكون، وأنِّي أرفض الظُّلم، الزَّيف، والتَّجاهل المقيت.
هذا الشِّتاء، تذَّكرت شتاءات طفولتي بعد أن نسيتها، وغزا الشيب مفارق حياتي كلها، عدت إلى شهر كانون قديم، غدوت في أحلامي صغيرا، رأيت بعيون الذاكرة أنهار قريتنا تسيل دون توقف، تغطس فيها أرجل رفاقي الصِّغار، غير آبهين بخطر الغرق المحيق، رجعت مثلهم طفلا لا يعرف معنى الخوف من المجهول، فالأفق قريب قريب، تألفه القلوب، وتشعر بالأمان، فالأطفال لا يخافون الموت، لأنَّهم آتون للتَّوِّ من لحظة الولادة، وهم في وسط انفجار الحياة في الكون الفسيح، وفكرة الفناء لا تعني شيئا للخارجين من درب التَّبانة.
لكنَّي عاينت المآساة التي نعيشها نحن الكبار، والخوف الذي يسمم حياتنا، والتناقض المبكر الذي يهزمنا بسهولة، فتنهار مقاومتنا، ويظهر صاخبا وعلنيا ضعفنا الإنسانيَّ، متجليَّا عندما رأيت أواخر هذا الشَّتاء، طفلا في العاشرة يصارع المرض الوخيم، ضعيفا، ومصفرَّا كالزَّعفران، آيلا للسُّقوط كأوراق الشَّجر، كبر سريعا، ودفعة واحدة، وذهب إلى النهاية غير المنتظرة.
هنا، وبلا مقدمات، تألمت بشدة، حزنت، ثمَّ بكيت، كنت أدرك سلفا أنَّ الخسارة في الحياة نسبيَّةٌ، ولكن موت طفل هو الفقد المطلق، ولا مجال فيه للتأويل، و لا يقبل القسمة على عدد صحيح.
هذا الشِّتاء، وأنا انظرعبر زجاج نافذة الحياة، حجب نصفها ثلج أسود، وغشَّى النصف الآخر بخار الحيرة، اقتنعت رغم ذلك أنَّ معنى الحياة يكمن في أن نعيشها، ولا يتجلى في الكسب المستمر، وخصوصا لا يتوقف عند أيِّ خسارة ماديَّة مهما كانت جسيمة.
هذا الشِّتاء، فهمت أنَّ الماء يغسل أجسادنا وينظفها من الدَّنس اليوميِّ، و لكنَّ أرواحنا لا يطهرها إلا الشِّعر الجميل، والحكمة الصَّادقة، ولا يجلي همومها إلَّا الدُّموع.
هذا الشِّتاء، جلست وحيدا على مقعدي الوثير، بالقرب من مدفأة تأكل الحطب ولا تشبع، وسجَّادة عجميَّة جميلة تغطي الأرض، تأكدُّت أنَّ الوحدة في هذه الظُّروف تبدو ضربا من الترف الباذخ لعائلة تنام تحت البرد، بلا دفءٍ، ويحلم أفرادها بكنزة صوفيَّة كأنَّها آخر الرغبات المستحيلة.
هذا الشَّتاء، لم أعد أهتمُّ كثيرا بما يقال عن كآبة تسقط على رؤوس البشر محمولة مع قطرات المطر، لأنَّ الغيوم رغم بكائها شبه المستمر، ومنذ دهور عديدة، تعود بيضاء في الرَّبيع، وتختفي في الصَّيف دون ضجيج أو شكوى.
وقبل نهاية هذا الشِّتاء، أيقنت أنَّ الأمل يسكن في عمقه، لأنَّ تتالي الفصول يشير إلى أنَّ الأيام سجال، وأنَّ الحياة ماضية، ولا تنتظر أحدا.
هذا الشِّتاء، كانت النَّهارات قصيرة، وظلامها يأتي سريعا، ومسيطرا، ولكنَّ ضوءا ما، خافتا بالتأكيد، ولكنَّه ثابت في نهاية كُلِّ طريق، نراه فقط عندما نبحث عنه، وننظر بعيدا بعيدا عن اليوميات المتكرِّرة، واللَّيالي المغرقة في وحشتها، ولو بدت بلا نهاية.
هذا الشِّتاء، كان قاسيَّا كعادته، وربما أكثر من أيِّ وقت مضى في الخارج، ولكنَّه كان دافئا في قلبي، وأشدُّ دفئا في عقلي، وسرت حرارته في دمي.
هذا الشِّتاء الأخير، كان حقَّا شتاء آخر، مشابها لشيءٍ جديد، كأنَّه فصل خامس للرُّوح الناجيَّة من برد و حريق الأوطان المعذَّبة، طقس لولادة أولى بعد زمن عقيم.
14/07/2018