خاص- ثقافات
*محمد نعيم/ جامعة شعيب الدكالي- الجديدة
لا شك أن المشروع النقدي للمفكر محمد عابد الجابري قد أثار الكثير من الزوابع وخلف ردود أفعال كثيرة تراوحت بين السلبي والإيجابي، بين الإشادة والتنديد، بين التقريظ والتقريع. ولعل من أبرز ردود الأفعال السلبية التي خلفها هذا المشروع هو ما تبلور كمشروع نقدي مضاد تمثل فيما سٌمي “نقد نقد العقل العربي” لجورج طرابيشي. هذا المشروع الذي رام فيه صاحبه نقض كل دعاوى محمد عابد الجابري ودحض جميع أطروحاته، بأي وسيلة كانت.
وبما أن المقام لا يسمح بالوقوف على كل نقطة نقطة مما ورد عند جورج طرابيشي ولا بفحص كل المسائل التي اعترض فيها على الجابري، فقد وقع اختيارنا في هذه المداخلة على مسألة واحدة متعلقة بحقيقة إخوان الصفا، فجعلنا عنوان مداخلتنا كالتالي: حقيقة إخوان الصفا بين محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي.
والذي جعلنا نخصص نظرنا في هذه المسألة هو ما ورد في آخر نص كتبه جورج طرابيشي والذي اختار له كعنوان “ست محطات في حياتي” نٌشر أول مرة في صحيفة أثير الإلكترونية[1] ثم تناقلته مجموعة من المواقع الإلكترونية الأخرى. لقد اعتبر هذا المقال كنص وداع لأن صاحبه كتبه قُبيل وفاته وكشف فيه عن بعض أسرار حياته من بينها علاقته المتوترة بوالده وبمحمد عابد الجابري.
لقد استعاد طرابيشي في هذا النص ذكر السبب الذي جعله يقضي ربع قرن بكامله يقرأ الجابري ويقرأ مراجعه، وهذا السبب لم يكن سوى ما كان قد كتبه الجابري عن إخوان الصفا واصفا إياهم بأنموذج العقل المستقيل في الإسلام، وهو الأمر الذي جعل طرابيشي يبدي شيئا من الشك والتحفظ وإعادة النظر فيما كان قد كتبه في مجلة الوحدة عن كتاب “تكوين العقل العربي” بُعَيد صدوره بقليل، حيث قال: “إن هذا الكتاب ليس فقط يثقف بل يغير، فمن يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه”. ويقول عن سبب شكه و تحفظه هذا: “فمن دراستي الجامعية في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق كانت تكونت عندي فكرة عامة عن انتماء إخوان الصفا إلى العقلانية الفلسفية الإسلامية والحال أن الجابري كان قال كلاما سلبيا للغاية عن إخوان الصفا ناسبا إياهم إلى “العقل المستقيل في الإسلام”… وهكذا ارتسم عندي شك يتعلق بهذه النقطة تحديدا” انكببت..انكبابا مرعبا على قراءة التراث وعلى مطالعة عشرات المراجع التي ذكرها الجابري”[2]
لقد كانت أول خطوة قام بها طرابيشي هي قراره القاضي بالعودة إلى “رسائل إخوان الصفاء” للتحقق من حكم الجابري الذي أصدره بحقها، فتبين له، بعد مطالعتها، أن حقيقة إخوان الصفاء على عكس ما يقول الجابري، أي أن هؤلاء عقلانيون ومدافعون على المنطق الأرسطي وعن الفلسفة. وما أن اتضحت له هذه الحقيقة حتى شعر، كما يقول هو نفسه، بصدمة كبيرة و بطعنة في كبريائه كمثقف، ومنذ ذلك الحين عقد العزم على إعادة تثقيف نفسه.[3]
إذن فحقيقة إخوان الصفا ونسبتهم إلى الهرمسية وإلى الدعوة الإسماعيلية من طرف الجابري كانت هي السبب الرئيس المعلن لانطلاق رحلة جورج طرابيشي مع صاحب “مشروع نقد العقل العربي” والتي دامت لمدة خمسة وعشرين سنة، انعكست في مشروع مضاد سماه “نقد نقد العقل العربي”، قدم له بكتاب مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة، وأخرجه في أربعة أجزاء وهي نظرية العقل العربي وإشكالية العقل العربي ووحدة العقل العربي والعقل المستقيل في الإسلام. ويمكننا أن نضيف جزءا خامسا وهو كتاب من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث النشأة المستأنفة، رغم تصريح طرابيشي في خاتمة هذا الكتاب بأنه مفصول عن مشروعه حيث كتب: “كان يفترض بهذا الكتاب عندما شرعنا بالعمل فيه قبل ست سنوات أن يكون الجزء الخامس والأخير من مشروع نقد نقد العقل العربي في الرد على مؤلف تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي… ولكن عندما انتهينا من إنجاز هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ، لم نجد مناصا من التسليم بأن محمد عابد الجابري لم يكن له من حضور فيه إلا على نحو عارض”[4]. نعم رغم هذا الادعاء أو التسليم كما سماه، فإن قارئ هذا الكتاب يدرك جيدا أن محمد عابد الجابري حاضرٌ فيه وبقوة، وأن سعي طرابيشي فيه هو محاولة إبطال كل ما أثبته الجابري في مشروعه، ومن بعض مظاهر ذلك أنه خصص جزءا مهما من هذا الكتاب للتأكيد على أن لا علاقة لابن حزم بالعقلانية التي نسبها إليه الجابري، حيث كتب: “يؤكد مؤلف العقل العربي أن كل المشروع الظاهري لابن حزم إنما يحكمه من الزاوية الإبستمولوجية المحض إيمانه بكونية العقل وطموحه إلى جعله السلطة المرجعية الوحيدة في مختلف مجالات المعرفة. والحال… إن كل مشروع ابن حزم إنما يقوم على حصر السلطة المرجعية بالنص.”[5]
إذن قبل التطرق إلى اعتراضات طرابيشي وتقويمها علينا بادئ ذي بدء العودة إلى كتابات الجابري والنظر فيما يقوله عن إخوان الصفا؟ والوقوف على الأسس التي بنى عليها أحكامه تلك التي اعتبرها طرابيشي أحكاما سلبية.
ليس يخفى أنه منذ كتابه نحن والتراث اعتبر الجابري “رسائل إخوان الصفا” بمثابة الحاضن للهرمسية وأنموذج العقل المستقيل في الثقافة العربية الإسلامية، لأنها، في نظره، عبارة عن مدونة هرمسية كاملة[6] سيكون لها بالغ التأثير على مجموعة من الفلاسفة المشرقيين وعلى رأسهم ابن سينا.
ويرى الجابري أن هدف هذه الموسوعة الفلسفية ذات الطابع الشيعي الإسماعيلي الواضح، كان هو دمج الدين في الفلسفة والفلسفة في الدين لأغراض ومطامح سياسية[7]. فهي قد حُررت من أجل التوظيف السياسي والإيديولوجي للطائفة الشيعية الإسماعيلية ضدا على المشروع الثقافي للدولة العباسية القاضي بتنصيب العقل الكوني، أي المشروع الذي دشنه الخليفة المأمون. يقول الجابري: “تأتي رسائل إخوان الصفا في إطار إستراتيجية إسماعيلية مضادة (إستراتيجية المأمون) تقوم على تكريس وتعميق الاتجاه”الباطني” الغنوصي اللاعقلاني في الثقافة العربية الإسلامية بهدف “امتلاك النفوس” وصولا إلى امتلاك الأبدان”[8]
فمعلوم أن التقسيم الذي وضعه الجابري للعقل: عقل بياني وعقل برهاني وعقل عرفاني، جعل رسائل إخوان الصفا أهم مظاهر تطور العقل العرفاني في الإسلام، وهو في واقع الأمر عقل مستقيل. فالرسائل تدور، في مجموعها، حول النفس بهدف امتلاك نفوس الناس وصولا إلى امتلاك أجسامهم والعمل على إسقاط الخلافة العباسية و إقامة دولة الشيعة الإسماعيلية. وهنا الجابري لا يعدم الشواهد، إذ استحضر ما قاله المؤرخ اليمني إدريس عماد الدين المتوفى سنة 872 ه في المجلد الرابع من كتابه”عيون الأخبار” وأيضا ما قاله الفقيه اليمني شرف الدين جعفر بن محمد بن حمزة المتوفى سنة 834 واللذان يؤكدان معا أن تأليف رسائل إخوان الصفا قد جاء كرد فعل ممنهج لمقاومة ما أقدم عليه الخليفة المأمون من حمل الناس على الاعتقاد بما قاله فلاسفة اليونان[9].
بعد ذكر هذه الشواهد وغيرها يعود الجابري إلى الرسائل فيقرأها وفق منهجه الذي أفصح عنه في كتابه نحن والتراث، أي قراءتها بتعيين الإشكال الواضح الذي يتمحور حوله فكر أصحابها وذلك بربط الأفكار بعضها ببعض. ثم النظر فيها وتقويمها باستحضار كل أبعادها الثقافية والإيديولوجية والسياسية والاجتماعية. وأخيرا الكشف عن الوظيفة الإيديولوجية التي كانت تؤديها؛ وهذه الخطوات المنهجية هي التي سماها: المعالجة البنيوية، التحليل التاريخي والطرح الإيديولوجي، وهكذا فكل حكم على رسائل إخوان الصفا لا يمكن أن تتضح حقيقته إلا انطلاقا من استحضار هذه الرؤية المنهجية.
انطلاقا من هذه الرؤية يرى الجابري أن إخوان الصفا لا يخفون انتماءهم للهرمسية وذلك جلي من خلال كثرة الإحالات على هرمس وأغاثاديمون وفيتاغورس، بالإضافة إلى تبنيهم للعلوم السرية ودفاعهم عنها، ويقصد “علوم التنجيم والكيمياء والسحر والطلسمات والعزائم وغير ذلك من منتجات العقل المستقيل”.[10] ثم تبينهم لفكرة الإله المتعالي ونظرية العقل الكلي المكلف بتدبير الكون إضافة إلى قولهم بالطبيعة الإلهية للنفس الإنسانية التي يجب الإقبال عليها بالرياضة والتهذيب والزهد والتعلم حتى تتطهر وتعود إلى أصلها الإلهي.
كما أن الرسائل تقيم تطابقا بين الإنسان والعالم وبين المجتمع أو الدولة، مما يعني في نظره أن هناك توظيفا سياسيا إيديولوجيا سافرا للهرمسية وهو كالآتي: “فكما أن العالم تسيره وتسري فيه نفس كلية مثلما تسري نفس الإنسان في جسده فكذلك المجتمع أو الدولة يجب أن تسري فيه وتسيره نفس “نبوية” إي إمام من سلالة النبي يساعده دعاة وحجج مأذونون. وإذا كنا لا نجد في رسائل إخوان الصفا التعبير الصريح عن هذا الجانب السياسي والإيديولوجي فلأنها ظهرت في “دور الستر” من جهة ولأنها تمثل الصورة”الشعبية” للفلسفة الإسماعيلية من جهة أخرى.”[11]
هذا بإجمال هو حكم الجابري الذي أصدره على رسائل إخوان الصفاء وكذلك هذه بعض مبررات ذلك الحكم.
أما إذا عدنا إلى كتابات جورج طرابيشي التي خصصها لمحمد عابد الجابري خصوصا كتاب مذبحة التراث في الثقافة العربية المعصرة الصادر عن دار الساقي سنة 1993 وكتاب العقل المستقيل في الإسلام الصادر أيضا عن دار الساقي سنة 2004، فإننا نجد طرابيشي قد جند طاقته البحثية و استدعى ما رسب في ذاكرته منذ أن كان طالبا في قسم الدراسات العربية بجامعة دمشق[12] ليدحض أحكام الجابري السلبية عن إخوان الصفا وذلك بأسلوب لا يخلو من عنف لفظي وتجريح لا يصدر إلا عن كاتب مصدوم فعلا ومطعون في كبريائه، كما يقول هو نفسه[13]، إلا أننا نرى أن سبب صدمته وطعن كبريائه شيء آخر غير ما يدعيه.
وعلينا أن ننظر في السند الذي اعتمده طرابيشي لبناء دعوته الجديدة والمناقضة لما قال به الجابري.
بداية يقر طرابيشي أن الجابري بربطه إخوان الصفا بالفكر الإسماعيلي لم يأت بجديد لأن ما قام به “يندرج في سياق تقليد عتيق بدأه المتأخرون من الدعاة الإسماعيليين وتابعهم فيه من بعدهم المستشرقون والمؤرخون الرسميون للفلسفة العربية الإسلامية”.[14]
وبالفعل يتطرق طرابيشي إلى ذكر مواقف مجموعة من الدارسين الذي أكدوا إسماعيلية رسائل إخوان الصفا، ويقسمهم إلى ثلاث فئات: المستشرقون وذكر منهم غولدتزيهر وكازانوفا وإفانوف وكوربان ثم الدارسون العرب الذين اهتموا بتاريخ الفلسفة الإسلامية مثل ماجد فخري وحنا الفاخوري ثم الدارسون المتخصصون في الفكر الإسماعيلي وعلى رأسهم مصطفى غالب وعارف تامر. لكن عوض أن يناقش أطروحات هؤلاء ويفحص حججهم، نجده يقفز إلى الأمام ويعرض عنهم متهما الجميع أنهم “إما باحثون غير منعتقين من الهوى الإيديولوجي أو مستشرقون مصابون بهستيريا الإسماعيلية”[15].
وهكذا ولأنه لم يعثر على أي دراسة متخصصة اهتمت برسائل إخوان الصفا أو بالفكر الإسماعيلي عموما تدعم رأيه، ضرب صفحا عن الجميع، مخطِّئا رأي كل مؤرخ من مؤرخي الفلسفة إذا وافق رأيه رأي الجابري[16]، فحاول أن يبدأ من الصفر ويجند طاقته التأويلية ويقرأ النصوص وفق فهم خاص، المهم عنده أن يكون هذا الفهم مغايرا لما ذهب إليه الجابري، حتى وإن تم ذلك بإخراج نصوص رسائل الإخوان من سياقها ومعارضة كل ما قاله الباحثون ومنهم المتخصصون الذين قضوا زمنا طويلا في دراستها.
نعم، إن المقدمة التي انطلق منها طرابيشي للتعريف بإخوان الصفا قد خالف فيها كل الآراء السائدة عنهم بدءا من اسمهم أي لماذا تسموا بذلك الاسم، وهنا يرى طرابيشي أن اللقب الذي تلقبت به جماعة الإخوان لا ينطوي على أية رمزية “باطنية” فاسمهم مشتق –كما يقول- “من رموز المملكة الحيوانية من كتاب ذي طابع “علماني” مكشوف ومنقطع الصلة بأي أدب إمامي مستور”[17]. إنه هنا يعمل مباشرة على ربطهم بالأدب الهندي وتحديدا بكتاب “كليلة ودمنة” الذي نقله ابن المقفع إلى اللسان العربي، ليؤكد أن لا علاقة للرسائل بفكر الطائفة الإسماعيلية.
إن السند المنهجي التي اعتمده طرابيشي لنقض دعوى الجابري القاضية بأن رسائل إخوان الصفا تنتمي إلى الفكر الشيعي الإسماعيلي وإقامة دعواه الجديدة كان هو ما أسماه التحليل المضموني للرسائل، حيث يقول وبكل وثوق: “إن التحليل المضموني لرسائل إخوان الصفا لا يدع مجالا لأي شك: فليس لشبهة الإسماعيلية من مدخل إليهم”[18] وهكذا صار إلى النصوص يفصلها من سياقها فصلا، وينتقي منها بعض الفقرات انتقاء، باحثا فيها عما سماه نوافي التسمعل. ولأن المقام لا يسمح بتتبع كل الشواهد النصية التي قدمها كحجج لإبطال دعوى الجابري حول إسماعيلية إخوان الصفا، سنكتفي هنا بالتطرق إلى أربعة عناصر أوردها طرابيشي تحت عنوان نوافي التسمعل، وهي:
-
التسوية بين عثمان وعلي في المقتل
-
توقير عائشة
-
التسوية بين النواصب والروافض
-
نفي التشيع