خاص- ثقافات
*بسمة الشوالي
الجوع أيضا أسلوب في مقاومة الموت، تقنية في البقاء حيّا. في رواية ” في بلد الأشياء الأخيرة ” لبول استر، كتبت آنّا بلوم لصديقها :” .. لولا جوعي لما استطعت أن أستمرّ. على المرء أن يتعوّد على الاكتفاء بأقلّ قدر ممكن. فكلّما قلّ ما يريده، رضي بالقليل، وقلّت حاجته، وأصبح في حال أفضل. هذا ما تفعله المدينة بك..” تلك المدينة الأوروبيّة التي خرّبتها الحرب العالميّة الثانية وصار فيها الجوع ” لعنة تحلّ في كلّ يوم. والبطن حفرة لا قاع لها، بحجم العالم”، ممّا جعل عدد النحيلين جدّا يتكاثرون حدّ أنّهم “أحيانا تذروهم الريّح، والرّياح في المدينة شرسة” ممّا يجعلهم “يتجوّلون في جماعات من اثنين أو ثلاثة. وأحيانا عائلات بأكملها ترتبط معا بحبال وسلاسل لكي يدعم بعضهم بعضا في وجه الهبّات القويّة”.
والجوع قبل ذلك، فنّ من الفنون التي عرفت في عصور خلت فترة ازدهار. في قصّته “فنّان الجوع” يرصد كافكا سيرة حياة أحد فنّاني الجوع العظماء في عصره. لكن، بأيّ معنى يكون الجوع فنّا استعراضيّا؟ أيّ جماليّة في عرض جسد أخواه السّغب المنظّم حتى قبّحه؟ ما وجع السّعادة في التقاط صورة تذكاريّة إلى جانبه؟ أيّ نفعيّة من هذا النّمط الفريد من الفنّ؟
بنسق مسترسل كنهر متدفّق تتلاطم فيه التفاصيل الصّغيرة للأفعال والحركات والهواجس الذاتيّة والمكان وهيئات الشّخصيات وأحوالهم البدنيّة والنّفسيّة فضلا عن الدّقائق والسّاعات والأيام والأشهر والأعوام تمضي بنا هذه القصّة وكما في نفس قرائيّ واحد وطويل نحو نهايتها. لكنّ المفارقة الكبرى أنّ راويها لا يبدو متعجّلا موتورا كما قد يتهيّأ للقارئ، بل هادئ متعقّل هو، يلتزم مكانه الآمن من زاوية السّرد وينقل الأحداث بفنّ القصّ الذي لحرفيّ ماهر يُربك ولا يرتبك، يوتّر مجرى دم القارئ ولا يتوتّر، ساخر يتستّر خلف جمل اعتراضيّة أو شروح مختصرة تبدو للوهلة الأولى غير ذات جدوى، وعلى قدر ما يتكشّف مستقبل الحكاية على نهايتها المأساوية مقطعا فآخر نتفاجأ بالمنعرجات السّرديّة التي تنعطف بنا مشوّشة علينا ما رسخ فينا من اعتقاد حول “سعادة” جسد الفنان الذي ينتهي أمامنا بصمت فظيع وهدوء مضيض تحت طائلة الجوع المستمرّ.
يضعنا العنوان “فنّان الجوع” إزاء شخص مختصّ حصرا في الجوع اختصاصا تقنيّا بالأساس نتيجته فنيّة يفترض أنّها ذات بعد جماليّ بالضّرورة: عرض حيّ مُغرٍ ومُدهش للجسد البشريّ مجوّعا تجويعا. جسد “شاحب اللّون، في التّريكو الأسود، بأضلاع شديدة البروز، رافضا حتى المقعد”، مبذول للفرجة العموميّة في فضاء مفتوح، متواضعا للمشاهدين “يمدّ ذراعه من خلال القضبان لكيّ يترك الآخرين يجسّون نحوله”، مجيبا “على أسئلة تارة مؤمّنا برأسه في أدب وتارة مبتسما بإجهاد”. وهذا الفنّ الاستعراضيّ قديم كما أسلفنا: ” لقد كانت أزمانا أخرى، يقول الرّاوي، وقتئذ شُغلت المدينة كلّها بفنّان الجوع، ومن يوم جوع إلى آخر زادت المشاركة. وهو ليس متاحا لكلّ من هبّ ودبّ من المبتدئين والهوّاة غير الأكفّاء. إذ أنّه يقوم على مبدإ تنافسيّ شديد الصّرامة قوامه القدرة على الصّوم “مدّة أقصاها أربعون يوما “. يختلف الصّوم هنا عن كونه ممارسة دينيّة جزاء الصّائم فيها “فرحتان” أو كفّارة ما. إنّه فنّ من فنون الجسد قائم بذاته، يشرف عليه “متعهّد فنّي” يقوم له بـ “الدّعاية ” اللاّزمة، وله جموع “معجبة به أيّما إعجاب”، وأطفال يتفرّجون عليه “مدهوشين، فاغري الأفواه”. فنّ انتقائيّ بامتياز لا ينال الشّهرة فيه إلاّ الصّوّامون الكبار وهو ما يفسّر ما آل إليه الأمر من ” نقص جوهريّ في الإقبال ” من جهة المتبارين. بيد أنّه ورغم أنّ ” في العقود الأخيرة تضاءل الاهتمام بفنّاني الجوع ” إلاّ أنّ ذلك لم يمنع أحدهم من الاستمرار فيه، ” لا لأنّه أعظم صوّام وفنّان جوع على مدى الأزمان كلّها فحسب، بل لأنّه (يستطيع ) أن يجاوز طاقته إلى ما هو غير معقول”، إذ أنّ “قدرته على الصّوم لا حدود لها.”
ولأنّه صوّام عظيم، يتمتّع صاحبنا بزاوية خاصّة لعرض جسده الجائع باعتباره مادّة عمله الفنّي، وهي قفص انفراديّ خاصّ به مفروش بالقشّ وبه ساعة هي “قطعة الأثاث الوحيدة بالقفص” تعدّ أيّام صومه وساعاته، مثلما يتمتّع ككلّ الفنانين الكبار بحرّاس شخصيّين “تخيّرهم الجمهور”، و” من عجب أنّهم عادة جزّارين”، حرصا لا على سلامته الجسديّة من أيّ اعتداء خارجي، إنّما “لكي لا يتناول طعاما بطريقة ما سريّة”، رغم أنّ “المطّلعين عرفوا حقّ المعرفة أنّه ما كان سيأكل في أثناء فترة الجوع أيّ شيء على الإطلاق ولا بأيّة حال حتى ولو بالإكراه. إنّ شرف فنّه يحرّم عليه هذا”. لذلك هو يحظى بشهرة واسعة يعيش خلالها “في بهاء ظاهريّ، محترَما من العالم”. ويوم التّتويج يقام لأجله حفل بهيج، فـ “يملأ المدرج نظّارة متحمّسون وتعزف فرقة موسيقيّة”، و”تأتي سيّدتان شابّتان سعِدتا بأنّ الاقتراع وقع عليهما بالذّات” لتُهبطاه من “القفص المكلّل بالزّهور” بعد أن يفحصه طبيبان الفحوصات الضّروريّة”، ويُعِدّا له الطّعام الصّحّيّ الملائم، ليستأنف بعدئذ الصّوم استعدادا للموسم الموالي. لكن وكأيّ فنان يفقد مواهبه أُهْمل صاحبنا آخر أيامه وترك مرميّا في قفصه على مقربة من الاصطبلات، في الطريق إلى مشاهدة الحيوانات المفترسة التابعة للسرك. لم يعد فقرة مغرية للمشاهدين. لمَ لم يعتزل أوج شهرته ونجاحاته؟ هل راقه أنّه الفنان الأخير في مجاله؟ هل تستلب الشّهرة الإنسان حتى تحمله على الانتحار الطّوعيّ والتحلّل البطيء أما العيون والكاميرات؟
“الفنّ لا يعرف الهذيان” على رأي بارط، وفنّان الجوع يعرف ما يفعل: يريد أن يعجب الناسَ صومُه الذي هو فنّه. هل لأنّه فنّان حقيقيّ؟ كلاّ. ” ما كان يجب أن يعجبكم صومي” قال للمراقب. ثم أردف شارحا: ” لو أنّي وجدته (الطعام) لما كنت محطّ الاهتمام ولملأت بطني مثلك ومثل الجميع”. لكنّ هذا الشّكل من الفنّ الانتحاريّ على نحو ما أعجب لقرون طويلة المشاهدين وشكّل مجال استثمار حيويّ لمتعهّدي الحفلات وأصحاب السرّك. كان إذن يريد أن يُزْدرى ويُرغم على الكفّ عن عروضه هذه بدل أن ينال الإعجاب.
ولد فنّان الجوع قبل تفشّي ظاهرة الانتحاريّين المشهديّين الذي يوظفون أحدث التقنيات العلمية لجعل الموت أكثر هولا و”جمالية” ومشهديّة، وأسرع من سفر الأوراح إلى مثاويها الأخير في وصوله إلى أكبر عدد من المشاهدين عبر الصورة. هو “عيّنة مخبريّة” قديمة للانتحاريّ “يفجّر” بشكل ما أجهزته الحيويّة على نحو علنيّ أما عدسات الأعين البشريّة وأجهزة التّصوير المختلفة و بـ “سعادة” و”تفان” يروم من خلالهما أن يعجب الآخرين، خاصّة زمرة الأطراف القوية الخفيّة غالبا والمؤثّرة في المنتحر والتي تصفّق له إعجابا وتكافئه على تعريض جسده لأنياب الموت الفاتكة ملء مشاهدين غالبا سعداء أو باردين أمام الشاشات التي حوّلت المشاعر الإنسانيّة الكبرى إلى عروض فرجويّة للاستهلاك العمومي والتجارة المربحة وإلى طرق فعّالة في تعليب وعي المشاهد في الخانات الإيديولوجية والسياسية التي يقع الإعداد لها جيّدا إعلاميّا عبر الصوّرة.
هؤلاء الآخرون/ المعجبون لا يعيرون آذانا ولا عيونا لذلك الصّوت الإنسانيّ العميق الذي ربما يحتجّ حينها في صدر المنتحر: “أردت ألاّ يعجبكم موتي”. صحيح أن صاحبنا لم يقتل أحدا غير نفسه بشكل مباشر، لكنه أكثر من قتل فيزيائيّ. إنّه شهادة على موت أخلاقيّ جماعي، وسقوط للإنسانيّ في ضحل الحيواني.
يصوّر كافكا ببرود سارد تشعر معه لفرط حياديّته كأنّما هو أحد هؤلاء المشاهدين اللاّمبالين أو صاحب السّرك نفسه، ربّ عمل هذا الفنان، وذلك مبلغ الصّدق الفنّي الذي يتقنه كافكا، يصوّر النهاية المرعبة لفنان الجوع: فبعد أن ” طُمِر فنان الجوع والقشّ معا”، أمر صاحب السّرك مباشرة فوُضع مكانه بالقفص نمر صغير تُشكّل مرآه “راحة ملموسة حتى لأشدّ الحواسّ بلادة” ولم ينقصه شيء من الطعام الذي يحتاجه ليكون رشيقا وقويّا وجميلا يعجب النظّارة الذين “تزاحموا حول قفصه” ليشاهدوه يمزّق اللّحم تمزيقا منعمّا بالصحّة الوافرة والحريّة. أيهما أكثر كلفة طعام ذلك البائس البشريّ أم مؤونة هذا المفترس من اللّحوم الحمراء..؟
صاحب السّرك غير معنيّ بحياة فنّان الجوع في حدّ ذاته. هو فقط معنيّ بتوفير عروض فرجويّة تعجب الزّوار مثلما كان الصّحفيّ كيفن كارتر، في فترة زمنيّة لاحقة، معنيّا بالتقاط صورة الطفلة التي على وشك أن تكون طعاما لنسر حطّ بقربها، أكثر من حياة الطّفلة نفسها. لقد انتظر عشرين دقيقة علّ النّسر يقع عليها فيلتقط أفضل صورة ممكنة، لكن ذلك لم يحدث. كانت مهنته كصحفيّ أن يلتقط صورة تعجب النّظارة عبر العالم. في الصّورة، كان وجود الطفلة وهي تموت أكثر حيويّة وإثارة لـ “الضمير الإنسانيّ العالمي ” من الطفلة نفسها في اللّحظة تلك وفي كل اللحظات المشابهة لها مستقبلا وحتى ماضيا كما في حال فنان الجوع.
ثيمة القصّة في النّهاية هي الحريّة. النّمر حرّ لأنّه شبعان. القفص والغابة سواء بالنسبة إليه طالما أنّه مكتف غذائيّا. هل يعني ذلك أن فنان الجوع / الإنسان كان يمكن أن يقبل أن يعامل كحيوان في القفص شرط شبعه؟ وهل أعوزته الحيلة أن يكون كذلك؟
في قصّة “النمور في اليوم العاشر” للقاصّ السوريّ زكريّا تامر، يخضع النمر الشرس الذي وقع تجويعه أخيرا إلى سلطة مروّضه فيتحوّل من كائن لاحم إلى عاشب وديع وأليف: “وفي اليوم العاشر، اختفى المروّض وتلاميذه والنمر والقفص، وصار النمر مواطنا والقفص مدينة”. في قصّة كافكا، اختفى الفنّ وصاحبه وظلّ الجوع أداة للتّطويع والإخضاع. يقع الفنّ في المنطقة المضادّة للذّلّ. إنّه إحدى وسائل المقاومة الناجعة. ويشكّل الجوع المحفور على محمل الجسد الحرّ بهذا المعنى إحدى موضوعات الفنّ المقاوم.
الطّعام/ الاكتفاء الغذائيّ شرط ضروريّ للحريّة أيضا. الجوع كفر وعبوديّة قد تتخفّف لغويّا بما يلائم النفوس الحديثة وما بعد الحديثة المرهفة فتسمّى “تبعيّة اقتصادية”، سياسة ناعمة في الأسر والتحكّم في شؤون العالم الجائع يديرها الشّباع على الجياع في كلّ بقاع العالم وفي المناطق الحيويّة منه حيث يديرون حروبهم المباشرة وغير المباشرة، لكنّه بالمقابل سلاح فعّال بيد نمط من هؤلاء المجوّعين بطريقة أو بأخرى للاحتجاج والمقاومة، ولئن اختفى عصر فنّ الجوع المقاوم لمذّلة السّؤال، فقد حلّ بإلحاح منقطع النّظير فنّ الإضراب عن الطعام.