تطوير الفنون يفرضه تطور الخيال وتلون الحالة النفسية الاقتصادية والاجتماعية ودرجات الاستيعاب العميقة للحواس المعبّر عنها فنيا، لونا وخطوطا، ضوء وملامح، وهو ما حدث منذ بداية سطوع فكرة الاستشراق كظاهرة مع فنانين بدأ تعلقهم بالشرق فكرة وصلتهم، ثم رحلة عبرت إلى أعماق خيالهم المنعكس من أضواء التاريخ والحضارة وسحرها العبق، بعبير القصص والحكايات والتفاصيل التي تجاوزت كل تلك التفاعلات النمطية للتشكيل، ولفكرة الرسم المألوف والقوالب الجاهزة بل تطوير الاعتماد على المناظر الطبيعية الاعتيادية والتعبيرية، وهو ما كسبه الفنان المستشرق من الشرق بيئة وجغرافيا من تداخل التنوع والألوان والطبيعة والعادات والارث الثقافي والأدبي الحضاري فكلها تركت أثرا في المضمون المادي والمعنوي للوحة وخلقت مبالغة مكثفة في تصاميمها خاصة حضور الخط والشعر العربي والحياة العامة سواء بواقعها أو بخيالها، الآثار والتحف، التاريخ واللغة والادب خصوصا بعد ترجمة قصص “ألف ليلة وليلة” أو في الحضور المتنوع والمعايشة والاندماج في المجتمع الشرقي.
ولذلك انفصل الفنانون المستشرقون إلى عدّة أصناف تمثلت في المستشرقين الأوائل من كانوا يرسمون اعتمادا على ما ينقله الرحالة من أخبار أو ما يترجم من كتب فتتمازج الحكاية مع التأويل والتهويل والمبالغة، لترسم اللوحة بمراسم معتمدة على موديلات غربية، المستشرقون الرحالة وهم أيضا لم تخل أعمالهم من مبالغة مقصودة أولا لأن الرحلة خلقت انبهارا ولأنهم لم يتوغلوا أكثر في البيئة وبقي الشرق عندهم مناظر وصور ظلت محرّمة وممنوعة من الاقتحام ما خلق من خلالها شغف الخيال مثل صور الحريم كفضاء ومكان وعالم صاخب الاثارات.
ثم مستشرقي القرن العشرين وهم رحالة كانوا بمرحلة الاحتلال الأوروبي للشرق وبالتالي عكسوا واقعا مختلفا ركّز على الحياة والبيئة ونقلها كواقع، باختلاف الأسلوب التأثيري التعبيري الوحشي والرومنسي كل هذه المراحل والتجارب ابتكرتها التنوعات والتنويعات المفروضة في ظاهرة الاستشراق حيث لم تؤثر على الفنان الغربي فحسب بقدر ما أثرت أيضا على ملامح التعبير الفني التشكيلي الشرقي الذي بدوره تشبّع بالخيال فأصبح يرى واقع شرقه بعيون خيال المستشرق نفسه.
الحديث عن الاستشراق، كثيرا ما يستفز الفكرة خصوصا بالتعبير عن تجارب يثيرها هذا البحث الدائم والنبش في علاقة الاستشراق بالفنون الحديثة وتطورها ومنها عدة تجارب فنية غربية تعود لكل تلك المراحل التي حققت الاستثناء التعبيري وخصوصا المرحلة الأخيرة التي بدورها كانت خطوة من خطوات بداية التأثير الغربي الشرقي على النمط التعبيري التشكيلي والتحول نحو المرحلة الحديثة من الفن المتمثلة في التجريد والسريالية والتأثيرية الجديدة والوحشية فهي لم تستحدث من فراغ بل من تنوع وتجريب خاض في كل خصوصيات الشرق وحضاراته.
ومن بين هذه التجارب نذكر تجربة ادوارد لوغران، شارل أنطوان، كارل أوسكار بورغ.
إدوارد لوغران (1892-1970) ولد بفرنسا وتنقل عبر أوروبا باحثا عن تفاصيل الفن، وبين الولايات المتحدة الامريكية والمغرب العربي أثرى تجربته التي عاد بها إلى فرنسا ليكون أبرز الفنانين الذين ركّزوا على تشكيل المناظر الطبيعية وملامح الشرق وتفاصيل علاماته ورموزه ودلالتها المختلفة في رسم الجداريات ورسومات كتب الأطفال ورسم القصص المصورة وأفيشات الدعاية التي اعتبرت حديثة الفكرة بتطويراتها والتأثير الذي لامس غرائبية الصورة في سحر المغرب العربي واختلافاته المعيشية والحياتية بتفاصيل قصصه ورواياته التي سردها بصريا.
إن رحلته تلك إلى المغرب هي التي أثرت على صقله وتطويره فنيا بشكل أثرى أفكاره وأنضج خياله، فقد شارك بأعماله الاستشراقية سنة 1932 بالمعرض العالمي لأعمال الحفر بشيكاغو ممثلا فرنسا.
فالتعبير الفني الذي يقدمه إيدي ارتقى بفكرة الاستشراق الفني التي لم تمثل مجرد انبهار بل توغلا في الثقافة والتراث والمجتمع بتفاصيل طبيعته المتنوعة لامست الحياة العامة والملامح الشخصية فابتكر لكل منها دورا تقمّصته جماليا في حكاياته المحبكة بسرد بصري رسم الطفل والشيخ والمرأة ملامحا وعادات وأزياء صمّم دقتها رسما وألوانا تفاصيل أمازيغية وعربية بين الملاحم والفروسية والأفراح والطبيعة شكّل عناصرها بتوافق تعبيري حديث، كما شكّلت المرأة عنصرا جماليا في لوحاته بعالمها الواقعي بعبق الخرافة والحضور المثير في حلّتها وحليّها المزخرف وملامحها ولباسها وطقوس يومها بين الطبيعة لتحمل رؤاه الألوان والدقة في التفاعل مع الأضواء في تحديد الطبيعة والأمكنة بمساحاتها.
كما نجد تجربة الرسام شارل أنطوان (1823-1898) فنان تشكيلي فرنسي ينتمي إلى المدرسة التعبيرية والتشخيصية هو تلميذ دولاكروش وجيروم ودوفال يعد أبرز الرسامين الفرنسيين المتأثرين بالشرق والتعبير الحديث سواء المعتمد على الرومنسية والكلاسيكية والتأثيرية وتطوريها، فما صُقل عليه شارل باعتبار التوافق الكامل بين النظرة الغربية للفنون والصحوة العامة للتجديد الحداثي استدعاه للتركيز على رسم العمارة والكنائس والطقوس والعبادة والملامح الدينية والحربية وغيرها من التفاصيل الغربية وحمل تلك الرؤية في رحلته للشرق فالأمكنة تغيّرت عليه وأثّرت فيه تفاصيل التلقي العام في تلوين الفكرة وتوليفات الصورة وزخرفاتها، حيث اقترب أكثر من ملامح المجتمع الشرقي وتفاصيله ودقّق على حضوره العام مع تلك الميزة المتناغمة في رصد التفاصيل ملقيا الضوء على الاختلاف والتوافق على التنوع مبرزا العلاقة بين البيئة والطبيعة والأشخاص والامكنة والألوان والضوء مركزا على أدق تفاصيل المكان لترى وكأنها مألوفة والأشخاص فيها حركتهم حيوية الحضور.
التشخيص اعتمد الغرائبية في تنسيق الملامح مع الألوان مع الأدوار مع الصفة التي تهم كل شخص في التعبير الفني فالتركيز على العربي الشرقي كان واضحا في الأزياء والألوان والحلي بعلاماته ورموزه الزخرفية ودلالاته، فقد حمّل الجسد طاقة كبرى في التعبير والتجسيد والتفاعل مع بيئته كما أثار الألوان وخدم الأضواء والابعاد الضوئية وحركتها التي خلّفت التفاعل بين الداكن والفاتح كتعبير عن الزمن الغابر أو عن اختيارات تفرق بين بيئتين.
Charles Antoine
أما تجربة الفنان والنحات السويدي اوسكار بورغ (1879-1947) مع الشرق فقد أسّست لابتكارات جديدة كسرت كلاسيكية اللوحة في التوفيق بين الفكرة وانسانياتها والعناصر فهو بالألوان يحبك القصة البصرية وبالفكرة يمنح جمود الشخصيات حركة تثيرها الألوان مواقفا، إذ يخترع تفاصيلها المغرية الرسام فقد كان للشرق عند بورغ حضورا مميزا في صقل موهبته في خلق تفاعلات اللون مع الفكرة بوحشية برية مكّنته من أن يتحوّل بفنه إلى الولايات المتحدة الأمريكية ويختار تجريب الفكرة بالقرب من سكان أمريكا الأصليين وتصوير تفاصيلهم وهو ما جعل آفاقه في الفن غير محدودة.
فتركز أعماله التعبيرية والانطباعية والتشخيصية على الرؤى الجديدة لتفاصيل الواقع والبيئة العربية بزخارفها وكذلك بالتركيز على المناظر الطبيعية كما المكان والبيئة وتفاصيل الأزقة والشوارع وما يدور فيها والجدران بدقة الخدوش والبنايات والمنازل الواسعة وزينتها، حيث اهتم بتوثيقها التصويري وخلط الألوان والاستفادة من تفاعلات الضوء والظلال بين الألوان والأبعاد في تكونها فهو يعيش قصة المكان وكأنه يقوم بجولة عبر كل فكرة وحجر وتاريخ بتفاصيل اجتماعية بسيطة لا تستثني هوية الانتماء تتفاعل مع ألوان الشرق، فقد عشق بورغ الهدوء ولم ترق له فكرة التقنيات والصناعة والسكك الحديدية بل كان يبحث بين ثناياها عن رؤية حديثة لرسم المناظر الطبيعية وهو ما أجاده وأتقن تفصيله.
ممتاز