الحابل والنابل الافتراضي

*أمير تاج السر

كلنا يعرف تلك الخطى السريعة التي ركضت بها التكنولوجيا الحديثة، بحيث غدت جزءا مهما من روتين الحياة اليومي، ولدرجة بدت معها السنوات السابقة لظهورها، محل استغراب كبير، كيف عاشها الناس الذين أدركتهم التكنولوجيا، بعد ذلك، والذين مضوا قبل أن تتطور الأمور؟
كان ظهور الإنترنت في الواقع، هو الإنجاز التكنولوجي المذهل الذي سيخيم بثقله في شتى النشاطات، ويلغي أو يهمش ببرود شديد، إنجازات سابقة للإنسان كانت مهمة في زمانها، مثل اختراع الثلاجة، والتلفون، واللاسلكي الذي ساهم بضراوة في وصل البعيد بالقريب وفي أزمنة الحروب، حين كان لا بد من اتصالات بين النقاط المختلفة في جحيم الحرب.
أذكر في عام 1995، حين أخبرني صديق بأن هناك شبكة عنكبوتية، ستظهر خدماتها في بلادنا قريبا، أخبرني عن مزايا تلك الشبكة، وكيف أن الأخبار والصور والتعليقات يمكن أن تنتقل عبر سلك التليفون العادي إلى أي مكان في الدنيا يملك الخدمة نفسها. كان شيئا غريبا يصعب تذوقه، لكنه حدث، واستطعنا بعد سنوات قليلة من ذلك الخبر أن نتواصل عبر الشبكة، ننقل أشياءنا التي نريدها أن تنتقل لأماكن أخرى، ونتلقى الأشياء التي نريدها أن تأتي، ظهر البريد الإلكتروني، هوت ميل كأفضل ناقل للرسائل، ظهر الياهو كباحث يعتمد عليه عند الضرورة، قبل أن يقضي غوغل بخدماته المتعددة، على سطوته ثم ظهرت أخيرا وسائط التواصل الاجتماعي، تويتر وفيسبوك وغيرها من الآفات التي يلتحم فيها الناس في صداقات قد تكون ناجحة وقد تكون تحمل إخفاقها العظيم، ومتابعات قد يكون بعضها للمعرفة وبعضها لمجرد التلصص على أشخاص لم يكن في الإمكان التلصص عليهم إلا بهذه الطريقة.
أردت أن أقول بأن كل الناس سارعت إلى إنشاء صفحات لها على مواقع التواصل، الذي يملك سلعة يريد أن يعرضها للآخرين ويروج لها، والذي لا يملك أي شيء، حتى ذكريات عائلية بسيطة، وتطبيقا لمقولة الحابل والنابل القديمة، فقد اختلط بالفعل حابل وسائط التواصل بنابله، أصبح كل من يريد أن يصبح صديقا لأحد ما، صديقا له بالفعل، وكثرت المناداة بكلمة يا صديقي، حتى لتخال الناس كلهم أصدقاء للناس كلهم.
أعتقد أن هناك إيجابيات كبرى في ذلك الامتزاج الكبير، منها التخفف من تعب الحياة وقضاء أوقات طيبة رفقة أصدقاء بعيدين، ربما كانوا سيكونون أصدقاء حميمين لو لم يعيشوا في ذلك البعد الشاهق، منها التنويه بنشاط ما، الكتابة عن هم مشترك، ومنها التسلية حين تصادق أشخاصا يقلصون من صرامة الحياة بما يملكونه من حس فكاهي.
لكن ثمة سلبيات أكيدة أيضا، تلك السلبيات التي لا يقدر فيها الحابل، النابل الذي صادقه جيدا، أو العكس حين يفهم النابل، أن الحابل هذا الذي يختلط به، مجرد اسم افتراضي بلا كيان، فيستفزه، أو يكون يعرف قيمته جيدا، ويخاطبه بلا احترام لمجرد أن هناك حابلا اختلط بالنابل في فضاء الإنترنت.
ليس المطلوب بلا شك ممن لديهم ما يقولونه، أن يتعاملوا بجفاء مع الذين ليس لديهم ما يقولونه ويدخلون لاكتساب المعرفة، أو الصداقة الافتراضية أو التسلية أو حتى التلصص، بالمقابل على الذين يدخلون إلى صفحات متخصصة، قد تهمهم وقد لا تهمهم، أن يراعوا خصوصية تلك الصفحات، ولا يرجموا أصحابها بحجارة الافتراض لا لشيء، سوى أنهم موجودون ويريدون أن يظلوا موجودين ولافتين للنظر.
حقيقة أفرزت مسألة الحابل والنابل هذه، معلقين غاية في السلبية، أو فلنقل غاية في رفض كل ما هو إيجابي، هم لا ينظرون للجزء الممتلئ من الكوب، لكنهم لا يبصرون الكوب أصلا.
وخلال سنوات من المتابعة في موقع فيسبوك واجهت كثيرا من الذين لا يعرفون شيئا مما قدمته، ويعلقون بعبارات بعيدة تماما عن اللياقة، من دخلوا إلى صفحة كاتب ولا يودون أن يصبحوا قراء لكاتب، من يتسللون إلى صفحة رسام ولا يطالعون اللوحة بل يطالعون ما لم تقله اللوحة وما لم يرسمه الرسام. وهناك من يبحث عن أسماء نسائية، ليسعى لصداقتها الافتراضية. ومن يشدد على أهميته من دون أن يملك أهمية معينة، وكنت حتى وقت قريب أستغرب من وجود الألقاب الكبرى التي يتقدم بها البعض، من ضمن أدوات التعارف أو الصداقة، لكن ذلك لم يعد يلفت النظر.
في إحدى المرات كتبت عن موقف حدث معي في إحدى رحلاتي القصيرة التي أقوم بها من حين لآخر، للمشاركة في فعالية أو مؤتمر يهمني، وفوجئت بمن يعلق قائلا: أنت تكذب وتكتب مواقف لم تحدث. راجعت بروفايل من يتهمني بالكذب واكتشفت بأنه صبي في الثامنة عشرة، ما زال يدرس في مدرسة ما. كانت صدمة للحابل أنه اختلط بنابل أصغر كثيرا من أن يقدر موقفا لصاحب تجربة كبيرة.
كتبت للحابل أو النابل الصغير رسالة خاصة، قلت له: نعم أنا أتخيل حين أكتب رواية، لأن الرواية قائمة على شيء من الواقع وأشياء من الخيال، لكني لا أكذب حين أتحدث عن مواقف ضاحكة أو فاجعة صادفتها في حياتي، فلم يرد علي، أكثر من ذلك قام بحظر الصداقة.
من مشاكل الحابل والنابل المميزة، تلك الذكريات التي بعضها صحيح وبعضها مختلق، التي تتقاطر على الصديق من أشخاص صادفهم في حياته يوما، ولم يكن يدري أن هناك مساحة افتراضية ستجمع الحابل بالنابل ذات يوم ويكونون فيها، ذكريات مثل أن هناك من كان يعيرك ملابسه، ومن أدخلك مطعما راقيا لأول مرة، ومن كان يعدل لك القصائد الركيكة التي كنت تكتبها أيام مراهقة الكتابة الأولى، وحقيقة كنت أجلس ساعات أنحت ذهني بشدة محاولا استعادة صورة لشخص كان يعدل قصائدي، وملحن لحن بعضها، وحتى صورة فتاة أدركتها في مساحة الحابل والنابل وقالت إنها كانت ملهمة أولى لك في زمن بعيد وفي الغالب لا أعثر على شيء.
برغم ذلك كله نحن في حاجة لهذه المساحة، تلك التي أوجدتها الإنـــترنت، الذي أعتبره أعظم إنجازات العصر كلها.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *