لم أعد ذاك العاشق، ولم أعد بعد اليوم عسكريا أو ثوريا أغوته كلمة “ارحل” الجميلة، المعقدة، المدميّة. صحيح أعرف أسماء الذخائر وأنواعها ومصدرها، أعرف أنواع الأسلحة التي نملكها، وثمنها في السوق السوداء، و طريقة تفكيك أجهزتها المتحركة بسرعة مدهشة، أعرف كمان تجهيز الكمائن وحفر الخنادق، وأسلوب الكرّ والفرّ المباغت للعدوّ، كثيرة هي الأساليب الحربية الناجعة التي تدربت عليها للإجهاز على العدو. هكذا افتقدت بجدّ لفراس الحلبي، الآدمي الذي كنته، المهووس بالجمال والشعر و التجوال في الحدائق العّامة و الموسيقى، ضاع فراس العاشق في المسار المتعرج الطويل، من خندق لآخر، من كمين لآخر. في كلّ يوم أكتشف جديدا وبؤسا، كلّ عتمة تفضي بنا إلى عتمة أخرى. في الخندق المظلم تفاجئني حبيبتي خلود ليلا، تمسح عرقي وبقع دم ملتصقة بجبهتي أو بخدي” شو هذا يا حبة غيني؟” لا أجد الكلمات المناسبة لقولها، فقط، كنت أرتعب من وجهها، إذ تكتشفني كأي مجرم قتل أبرياء بدعوى أننا في ثورة. هل كنت سأقول لها لكل ثورة ضحاياها و أخطائها و أبطالها؟ هل تصدقني خلود، أنتَ، أمي وردة؟
أستيقظ من الحلم، حيث القبو النتن يعج بالسوريين مثلي أو من يدري من أين قدموا بتلك الأحقاد والضغائن؟ الصمت قاسمنا المشترك لإعطاء فسحة لحوار الأرواح، في الجهة المقابلة أو خلفنا مباشرة، خنادق أخرى تعج بسوريين آخرين مثلنا، بالإيرانيين و الروس والألمان، السّود و الشقر، اللبنانيين بالمئات، و العراقيين، جنسيات كثيرة في بقعة صغيرة، ولغات كثيرة، و لهجات ورايات بيضاء و حمراء وخضراء وسوداء… في غالب الأوقات كنا نمثل فيلما خياليا مركبا، يزداد تعقيدا كلما اختفى المخرج لسبب أو لآخر. نشبه اليتامى، أو نبدو كعميان في سوق عائمة غائمة موحلة. تباغتنا نيران صديقة بين الفينة و الأخرى، نتبادل التهم و الأخبار و الإشاعات و الذخيرة و السبايا و الأسرى.
وصلت إلى “حي صلاح الدين” الشّهير بأعجوبة، هذا أقل ما يقال عن خط السير، بدايته ليلا ونهايته ليلا، بدايته هروبي من كتيبتي و رصاص رفاقي يلاحقني، حواجز كثيرة تابعة للنظام و أخرى للمرتزقة، وأخرى لا أدري من أين جاءت؟ غارات جوية، راجمات الصواريخ تدكّ مواقع للمسلحين ومواقع مأهولة بالمدنيين، لا فرق. بين الحين و الآخر تدك المدافع موقعنا الجديد في هروبنا الطويل، كان الموت يقترب من أماكن اختبائنا أو نقترب منه في تقدمنا غير مبالين بالنهاية الأكيدة، لم نعد نشعر بشيء يستحق منا العناء والتشبث بالأرض، كنا نجالس الموت كأصدقاء، ألفنا قدومه اليومي، بل في كل ساعة، صرنا نعرف لحظة مجيئه حتى ولو بشكل مباغت، في النهاية ينام معنا، أحد جنودنا من “محافظة إدلب” فارق الحياة و هو يضحك عند حديثه المستفيض عن خطيبته التي كانت في مكان ما، يروي لساعات عن العرس الكبير الذي سيقيمه بعد النصر” زهرة تستحق ذلك، أيه وعدتها بليلة من ألف ليلة و ليلة، كلكم مدعوين يا شباب” بينما الزعيم يستمع بنصف اهتمام، إلى أن فارق الحياة بسلام، آه بكيت رحيله بصمت، ليس من حقنا البكاء على موتانا، هذه من الممنوعات.
انضممت إلى كتيبة أبي توفيق قائد اللواء المقاتل الثوريّ، همّهُ تحرير البلد في بداية الثورة، أبو توفيق، كان واحدا من بين المتظاهرين الحاملين لشعار “ارحل يا بشار.” يقال إنّه من اللاذقية، كان رقيبا في الجيش السوري، انشق في شهر مايو مع مجندين آخرين، بعدما رفضوا إطلاق النيران على شباب يتظاهر في ليلة مقمرة. لا أعرف أكثر من هذا، معظم عناصر اللواء خريجوا السجون المختلفة، تعرفنا على بعضنا بسرعة لا وقت لدينا لشرح تفاصيل الحكاية و الظلم، كنا نقدم أنفسنا بأسماء رمزية، حركية، أعرف جيدا سجناء “سجن حلب المركزي” لا يقل عددنا عن سبعة ضحايا، هذه ليست شتيمة، كنا ضحايا نظام بائس وظالم. يومها قدمت الولاء للقائد، قلت مأساتي الشخصية ككل الرّفاق. عن ظروف سجني، عن التفاصيل التي عرفتها عن بعض القادة الأمنيين الذين زرعوا الرّعب في البلد لسنوات. بالتحديد، تحدثت عن أذناب العقيد فواز أو المجرم بشكل أصح، و رفاقه المجرمين، أضفت قائمة مصادري الموثوقة في صحّة كل كلمة تفوهت بها. لقيت خطبتي القبول والاستحسان و الصّدق أيضا لاسيما بعض الرفاق الذين كانوا معي في سجن حلب المركزي.
تاريخ هذه الكتيبة في ثورة التغيير كان مشرفا جدّا في الأيام الأولى، أبدينا حماسا كبيرا، للتخلص من سنوات القهر، ليست لنا خيارات كثيرة، إما أن تقتل أو تُقتل، شخصيا اخترت الدفاع عن نفسي و عن سوريا، فكرتي كانت رومانسية جميلة، وبسيطة، رفاقي يقاسمونني هذه الشطحات الشعرية في استسهال التقدم نحو العاصمة وفرار الزعيم المبجل كنا نتخيل السناريو الأجمل مع المدّ الشّعبي كما فعلها زعيم تونس “بن علي هرب” ليأتي بعدها ما يأتي. صراحة فقدت أية صلة بالواقع، نادرا ما أخلو بنفسي لأغني أغنياتي القديمة، لألوم خلود عن غيابها.
أبو توفيق القائد أشرف على تدريبنا لمدّة أسبوعين، كنا نستيقظ باكرا للتدريب البدني الشّاق، ثم التدريب على فكّ قطع السلاح القليلة و تركيبها من جديد ثم الرماية و المناورة، الحقّ كان شجاعا، و قويا، هو أكثرنا انضباطا و تحكما في أعصابه، كنت ضمن فرقة الاستطلاع، أما الفرقة الأولى هي مشكلة من رفاقه المقربين جدا، أصلا هم عسكريين فارين أو سابقين، لهم نظام خاص و تدريب خاص أيضا، و أسلحة نوعية، كنا نحسدهم على ظروفهم المتميزة و يعاملهم القائد كفرقة نخبة. في أول كمين قاده ضد فرقة من الجيش النظامي كان ناجحا بامتياز، غنمت فرقة الكومندوس عددا من القطع و الذخيرة. على ذكر الغنائم، تسليح كتيبتنا كانت أقل بكثير من الجيش الحرّ، لكننا أكثر هم حماسا وتنظيما و انضباطا، كنا نستهدف ضباط الجيش و الشبيحة، من خنادقنا، من نقاطنا القليلة المتحركة حسب الأهداف ورغبات أبي توفيق. إذن، لسنة ونصف أجتهد في تحسين وضعي داخل الكتيبة التي تشبه النسيج المتهالك، ثم لي مخططات حربية للإطاحة بفيالق وقادة كنا على تماس معهم، مع ذلك لم يهمهم أمري، ولأبي توفيق رأي آخر في شخصي، سهولة إلصاق تهمة الخيانة لجندي ما ليست بالأمر الغريب أو المستحيل أو المستبعد، للتاريخ فقط كنت في الأيام الأولى ضمن الخط الأول المقرّب من أبي توفيق، كان يستمع بحماس لحديثي، يسألني عن كلّ صغيرة و كبيرة، ثم تراجع موقعي إلى الصف الثاني ثم الثالث، ثمّ كلفت بأشغال الطبخ والحراسة الليلية، عندما تشتد المعارك أُزج في الصّف الأمامي.
أحسست في لحظة ما أننا انحرفنا، على الأقل البعض من رفاقي في اللواء، تحولوا بقدرة القائد إلى قتلة حقيقيين. لم أعد أتفهم قراراتهم الفجائية الغريبة التي تصدرها قيادتنا، من أبي توفيق في أغلب الأحيان، يتصرف كجنرال منتصر قريب من القصر الجمهوري، ثم لا نكاد نراه إلا وهو محاط بشلّة مجرمين يزدادون ضراوة، تفهم رفيقي طارق قلقي كان يردد همسا خافتا“طول بالك حبيبي فراس” تبلور في داخلي موقف عدائي تجاه كتيبتي المسماة “فيلق النصر” لأسباب كثيرة، آخرها يوم أسرنا سبعة شبان أكبرهم بلغ العشرين من عمره، اتهمهم أبو توفيق بتقديم معلومات للجيش النظامي، ربما، يفعلون شراء لحياتهم لا أكثر. ربما المعلومات غير مؤكدة.