كلّ الأشياء تغيّرت ؛ النّاس ، المنازل و الأصدقاء . هنا تمشي وحيداً بلا رفيق . ظلّك صديقك يُلاحقك أينما حللت . لحكمة جدّي وشعره الأبيض الكثيف الشبيه للكاتب الإيرلندي جورج برنارد شو . يردّد لي دائما : العقل السليم في الجسم السّليم . وهو لم يقرأ حرفاً واحداً من مسرحيّاته . له سليقة وتركيبة مختلفة ، تعلّم أبجديّة الحياة من الطبيعة وقساوة مناخها .
جدّي عاش بين تلفازه السوني الأبيض والأسود تعيد تشغيله بضربة واحدة حينما تضيع الصورة على الشاشة . يُصاحبه الرّاديو في كلّ مكان ؛ في البيت ، وواحة النّخيل . تراه يلامسُ ابرة تعديل الإذاعات ليتابع برنامجه المفضّل للمذيع البشير رجب .
يغيّرُ بطّاريات المذياع بجذل صبيّ أهدته أمّه قطعة من الحلوى . حكايات وخرافات جدّي من قصص روائيّة وتاريخيّة لا تنضُب . هو االرّاوي والحكواتي البارع تسافر بي أحاديثه وأحجياته البديعة إلى زمن غابر ، غرائبيّ وعجائبي كأنّه يتحدّث من صندوق عجيب . روايات لم تُكتب وقصائد لم تُدوّن وأفلام لم تصوّر . جدّي الأسطورة المنسيّة ، المتروكة مثل معجم عتيق في رفّ مكتبة .
أصبحت الحياة لا تُطاق ، حياة عابرة بلا معنى أو مغزى . حياة باهتة الألوان . اخترقنا الفيسبوك والأنستغرام واليوتيوب . كلّ الأشياء مباحة ومتاحة عبر وسائل اتّصال غزت البشر وأغوت العقول أفقدت فينا روح البحث . هكذا صارت الحياة بلا ألغاز وأسرار . تُرى يا جدّي أبكي فقدانك أو غياب حكاياتك الرّمزية التي تواسي تيه الشّريد في ظلمة الصّحراء. عزائي الوحدي ان اقتفي أثرك بين الكلمات التي لم تلتقطها الكاميرا ، وانّما الذّاكرة المبعثرة .