*أنطوان جوكي
نعرف جيرار فيستر ناشراً فرنسياً لأصوات شعرية فرنسية وأجنبية كبيرة، لكن معظمنا يجهل أنه أيضاً شاعر كبير، وذلك لسبب بسيط: عدم اكتراثه لاحتلال موقع متقدّم في الساحة الشعرية الفرنسية، لاقتناعه بعدم جدوى مثل هذا الطموح الذي يأتي غالباً على حساب العمل الشعري نفسه الذي يتطلّب العزلة والصمت، وبالتالي المحافظة على مسافة من العالم لتأمّله بشكلٍ أفضل وولوج أسراره. وهذا ما برح فيستر يفعله في دواوينه العديدة، وآخرها «ما يقوله السَنتور» الذي صدر حديثاً عن داره Arfuyen، ويتابع الشاعر فيه التأمّل ذاته، دافعاً به إلى أفقٍ جديد.
في مقدّمة هذا الديوان، يحذّرنا فيستر من خطورة الكلمات التي يمكن أن تسبب العمى والجنون والعنف، كما يتراءى ذلك يومياً لنا، ويطرح القصيدة كعلاج ووسيلة للتحرّر من أوهام اللغة. وفي هذا السياق، يقول: «منذ دائماً، اللغة خدّاعة. بادّعائها بلوغ الواقع بنا، تبعدنا عنه وتسجننا مجدداً في عالم خرافي. ولذلك، لا سبيل أمام الإنسان سوى الاستعانة بالكلمة التي تمنح نفسها كتمثّلٍ كي تنكشف، تحت ضوء الأسطورة، مأساة تلك القوى فينا التي تستدعيها اللغة دائماً، ودائماً تضيّعها، دائماً تخيّب أملها».
بعبارة أخرى، يرى فيستر في الشعر قوة تحرّر الإنسان من الارتهان والعبودية التي تفرضها لغة تم تقليصها إلى وسيلة تواصُل وهمية: «على الكلمة أن لا تبقى مخدوعة أو منتشية برونقها الخاص، بل أن تكون، بعد تعريتها من هذا الرونق، بمثابة تمثّلٍ وكشفٍ لخرافتها الخاصة. بهذا الثمن فقط يمكن للشعر، المتخلّص من بهرجته وملامحه كساحر عجوز، أن يكون جديراً بالإدراك البشري المنير والمحرِّر».
عنوان المقدّمة، «مسرح كلمات»، يعكس الطموح الدراماتورجي لقصائد «ما يقوله السَنتور» حيث تتشخصن قوى الكلام وتتبارز وتتصارع، قبل أن ينتصر النشيد على سديم كلمات تهاجمنا وتميل إلى إلغائنا. هكذا ينطلق الشاعر في مهمة الإصغاء إلى نفسه، «عند حدود اللاوعي»، فيرصد أصوات متواترة، ذات طابع استحواذي، تتماثل مع وجوه أسطورية لن يلبث أن يُصعِدها على خشبة مسرحه الشعري ويمدّ صوت كلّ منها بموسيقى خاصة، مشيّداً ديوانه على شكل «أوبرا» من فصول ثلاثة تلعب أدوارها شخصيات مجازية ثلاث: الزمن، حلم اليقظة والنشيد.
ما يتمّ تأديته على هذه الشبة، تحت ضوء الكلمات، هو تراجيديا ميتافيزيقية تبدأ برؤية فردوسية للطبيعة التي تحضر كـ «اسمٍ آخر للزمن». ففي المشهد الذي يفتح الديوان، ولا يتألف سوى من شجرة كزر ومرجٍ وجبلٍ وغيمةٍ معلّقة في سماء صافية، ثمة سعادة مستشعَرة في تلك الكينونة داخل الزمن. مشهد لن يلبث أن يلجه عصفورٌ يحطّ على غصنٍ وينطلق في الغناء. ولأنه يجهل مصدر ذلك «النفَس الذي يملأ صدره»، و«لا يهاب العدم الذي يتربّص به» (الموت)، يبدو الزمن له مثل حلم طفلٍ، أي لعب ولا مبالاة، بينما يصوّر الشاعر هذا الزمن، تماما كما فعل هيراقليط، أي كسيلانٍ أو عبورٍ، نصغي إليه أكثر مما نراه.
لكن فجأةً يتهدّد هذه السعادة خطرٌ: «دوى الكلام مثل رعدٍ»، يكتب فيستر. فها هو حلم اليقظة، الذي هو لغة في كل عنفها، يقتحم هذا المشهد الذهني ويقول: «أُسمّي/ فيحضر/ كل شيء/ لا يمكن لشيء/ أن يتوه/ لا شيء/ ينطفئ/ كل شيء أفلت/ من الزمن/ من النهر». ولا عجب في ذلك، فالإنسان الفاني يحمل ويغذّي داخله حلماً بالخلود. ولمقاومة سيلان الزمن، لمنع مائه من التسرّب من بين أصابعه، يلجأ إلى تسمية الأشياء والكائنات، إلى تثبيتها بواسطة الكلمات. وكان يمكن اللغة أن تتواطأ مع الطبيعة وتتقبّل أن تكون في سيولة الزمن، لولا تلك الإرادة التي تسكننا وتحثّنا على التحكّم بكل شيء بواسطة الفكر الذي يتكوّن من كلمات. إرادةُ قوةٍ مدمّرة في طبيعتها لأنها لا تعرف سوى التملّك. فبسعيها إلى انتشال الأشياء من مستقبلها الخاص وتحويلها إلى مفردات لغوية لفائدتنا، لا تفعل سوى إجبارها على المثول من دوننا، محيلةً إيانا إلى غيابٍ عن العالم، هو بديل بائس من الخلود.
في ديوان فيستر، يتصاعد تدريجاً عنفُ حلمِ اليقظة، محمولاً بمفردات اللغة، إلى أن يتجسّد في صورة السَنتور، ذلك الكائن الخرافي الذي نصفه رجل والنصف الآخر حصان، وفقاً للأسطورة، والذي يندفع إلى ساحات المعارك، عطشاً للدم، ومدفوعاً بإرادته في الذهاب أبعد وأبعد بحلم بالمجد الذي يحمله، وهو حلم يقظة يتسلّط عليه وتتراءى داخله كل ملاحم التاريخ الأكثر عنفاً ودموية.
لكن ثمة إمكانية خلاص من هذا الحلم القاتل، وفقاً للشاعر، وتكمن في مصالحة هذا الحلم مع الزمن، وفي مصالحة الطبيعة مع اللغة، على يد النشيد، الشخصية المجازية الثالثة في الديوان. هكذا تعثر السناتير العنيفة على صورتها المثالية في السَنتور «شيرون»، الملقّب بـ «الحكيم» نظراً إلى سعة علمه واطّلاعه بتربية تيزي وهيراقليط وعوليس وأشيل في الأساطير الإغريقية. وهكذا أيضاً يتمكّن النشيد، الذي يشكّل أورفيوس أفضل مؤدٍّ له، من الارتقاء باللغة وتحويلها إلى زمنية صافية، إلى «ارتجاج الأيام في الجسد».
هذه هي الحكاية المثيرة التي يقترحها فيستر علينا في ديوانه الأخير، موضحاً: «على خشبة هذا المسرح، الكلمات مجرّد كلمات، وما تؤدّيه ليس سوى قصّتها. لكن سعادتنا هي في ذلك التمثيل وذلك الكشف اللذين يحرّراننا من وهم اللغة»، حين تتقبّل الكلمات نفسها كخرافة- أو خلقِ أساطير- وحين تتحرّر الخرافة نفسها داخل النشيد.
يبقى أن نشير إلى أن في «ما يقوله السنتور»، كما في جميع دواوين الشاعر السابقة، ثمّة شعرية مذهلة في شفافيتها، تعود من دون شك إلى اقتصاد فيستر الكبير في كلماته، وبالتالي في سعيه إلى اقتضابٍ في القول الشعري يتجلى في جميع فقرات الديوان التي لا تتجاوز أبداً أبياتٍ ثلاثة قصيرة يتألف كلٍّ واحد منها من كلمة إلى أربع كلمات كحدٍّ أقصى. فقرات تستحضر إلى أذهاننا قصائد الهايكو بحجمها وطريقة تسلسلها مثل حبّات مسبحة، لكنها تختلف عن هذا النوع الشعري بمقصدها التعزيمي.
_________
*الحياة