إذا صدق واضعو تاريخ كرة القدم بإرجاع معرفة هذه اللعبة الشعبية العالمية إلى الإنجليز، فمن البداية تبدو بدايات هذا التاريخ سيئة أو سادية، إذْ يقول موثّقو مراحل ظهورها إن الإنجليز كانوا يلعبون برؤوس وبقايا جثث الجنود الدنماركيين خلال احتفالاتهم بإجلاء الدنماركيين عن بلادهم، وذلك في العام 1016 أي قبل أكثر من ألف عام، غير أن السلطات البريطانية منعت هذه اللعبة لتتحول إلى شكل آخر وفقاً إلى قوانين موضوعة تحكم اللعبة.
قبل الإنجليز، الذين أنشأوا أقدم وأوّل نادٍ رياضي «نادي شيفيلد» في العام 1862، تقول الموسوعة الحرة إن تاريخ لعبة كرة القدم يعود إلى أكثر من 2500 سنة قبل الميلاد، ومارسها الصينيون القدامى.. «… كانوا يقدمون الولائم للفريق الفائز ويجلدون الفريق المنهزم..»، كما عرفها، وفقاً للموسوعة اليونانيون واليابانيون و المصريون قبل 600 سنة قبل الميلاد، أما الاتحاد الدولي لكرة القدم فيفا فقد أنشئ في العام 1904، ومن ذلك الوقت وحتى اليوم، وكأي نظام سياسي أو اقتصادي أو دولي شهدت اللعبة مجموعة قوانين جديدة ألغت القوانين القديمة أو طورتها من حيث مسلك الكرة، أو ركلها، أو مساحة الملعب، أو طول المرمى، أو عدد لاعبي الفريق الواحد… وإلى آخره من إضافات أو حذوفات في قوانين هذه اللعبة التي يشاهدها اليوم الملايين سواء مباشرة في «الملاعب» أو يشاهدونها عبر شاشات التلفزة التي أصبحت هذه الأخيرة محكومة إلى نظم اقتصادية.
(1)
هذا النمو المضطرد والسريع أو المتدرج في لعبة كرة القدم منذ ظهورها المنظم في أوائل القرن العشرين واكبه نمو آخر في الاقتصاد، والسياسة، والثقافة وفي حين ظهرت الدادائية على سبيل المثال بوصفها حركة فنية ثقافية في الفترة من 1916 وإلى 1921 لتجتاح العقل الأوروبي بالمفردات الأولى للحداثة، كانت كرة القدم تتطور وتتجدد وتستقطب الجمهور ونجوم الكرة مثل البرازيلي بيليه (مواليد 1940)… أسطورة كرة القدم، وبعده العشرات بل المئات من اللاعبين النجوم الذين كانوا موضع إلهام للشعراء والكتّاب في العالم، كما كانوا أبطالاً في أعمال سينمائية كبيرة، كما هم أبطال الكرة في الملاعب، وفي مقالة له حول عدد من الشعراء والروائيين البريطانيين الذين حرّكت كرة القدم مخيّلاتهم يقول الكاتب جاد الحاج… «… في قصيدة = مشاهدة كأس العالم في المشرب = ل: كيفن هولمز ثمة تصوير يرقى لثقافة كرة القدم في بريطانيا حيث يؤكد المؤرخون أن اللعبة موروثة في تلك البلاد منذ ما قبل شكسبير، علماً أن شكسبير نفسه تحدث عنها في «كوميديا الأخطاء»، وفي «الملك لير»، ولو على سبيل الفكاهة والمقارنة الساخرة».
(2)
يذكر الكاتب المصري أشرف عبدالشافي في كتابه «المثقفون وكرة القدم» أن الروائي الفرنسي «البير كامو» كان حارس مرمى لفريق كرة القدم في جامعة وهران في الجزائر في العام 1930، ويضيف عبد الشافي في كتابه الممتع هذا أن «كامو»… «كان يتأمل جنون كرة القدم ومتعتها، وخفقان القلب فرحاً كلما نجح في إنقاذ مرماه من هدف محقق..». غير أن جدة كامو كانت تمنعه من لعب كرة القدم لأنها تراه «استهلاكاً للحذاء بلا طائل»، لكن أغرب بل من أهم ما أشار إليه أشرف عبدالشافي في كتابه حول المثقفين وكرة القدم أن ألمانيا قبل تنظيم كأس العالم في العام 2006 انتبهت إلى توظيف الأدب في عملية الترويج الإعلامي لأهم بطولة… وَ.. «جرى توجيه الدعوة لعدد من أهم أدباء العالم لحضور المونديال، ولم يتردد منظمو البطولة في تخصيص قسم خاص في المونديال تحت عنوان «أدب الأقدام في المونديال».
ويروي عبدالشافي أن محمود درويش أحيا أمسية في المغرب وتزامن وقت الأمسية مع وقت مباراة بين فرنسا وإسبانيا فقال درويش للجمهور.. «.. أنا من جهتي أفضل متابعة المباراة حتى لو كان من سيحيي الأمسية هو المتنبي..».
(3)
عدد دول العالم غير متفق عليه، فثمة دول تحت الاستعمارات أو الوصايات، وثمة دول غير معترف بها، ولكن سنرسو على معلومة أن دول العالم تراوح من 168 إلى 254 دولة، ومع هذه الأرقام الكبيرة إلا أن هناك ثماني دول فقط تستحوذ على بطولات مونديال كرة القدم منذ انطلاق دورته الأولى في الأوروغواي
في العام 1930، وقد عدت إلى تاريخ مونديالات العالم ووجدت أن هذه الدولة فازت بكأس العالم في كرة القدم مرتين.. إيطاليا 4 مرات، ألمانيا 4 مرات، البرازيل 5 مرات، إنجلترا مرة واحد، فرنسا مرة واحدة، الأرجنتين مرتان، وإسبانيا مرة واحدة.
ليس لقطبي العالم اللذين كانت تدور بينهما الحرب الحارة والحرب الباردة، وأقصد بهما أمريكا وروسيا أي نصيب في كرة القدم، فالدولتان الكبيرتان خارج الملعب ولم تحظيا بلمس الكأس الأممية العالمية.
العرب أيضاً لم يحصلوا على كأس العالم وكذلك لم تحصل على الكأس الصين واليابان وكندا أو دول قوية في كرة القدم مثل هولندا وبعض الدول الإفريقية ذات الفرق الكروية القوية مثل الكاميرون.
ولكن.. ما سر «الأوروغواي» هذه الدولة «العالقة» في خريطة أمريكا الجنوبية؟.. أقصد ما سرها الكروي؟ فأول دورة في تاريخ المونديال جرت فيها، وهي دولة أيضاً رغم فقرها وعدم مركزيتها وصغرها ونأيها في أمريكا الجنوبية حملت الكأس مرتين.. فهل نجد تفكيكاً للسر الأوروغواي عند كاتبها المعروف «الفاشل في كرة القدم» = إدواردو غاليانو،1940 – 2015، صاحب الأجزاء الثلاثة من كتابه المذهل «ذاكرة النار» لكن هذا الكاتب الرشيق، الصحفي ورسام الكاريكاتير وضع ما يشبه تاريخاً آخر لكرة القدم في كتابه الأشبه بالشعر «كرة القدم في الشمس والظل»، وهو يعترف من أول الكتاب أنه مثل كل الأوروغوائيين كان يرغب في أن يصبح لاعب كرة قدم وهو يقول ساخراً من نفسه إنه كان لاعباً جيداً، ولكن في الليل فقط… وفي أثناء نومه أما في النهار «فأنا أسوأ قدم متخشبة شهدتها ملاعب الأحياء في بلادي».
يضع أدواردو غاليانو تاريخاً «سرديا» شفافاً للمونديال، ولكنه قبل ذلك، يعرّف تاريخ كرة القدم «هو رحلة حزينة من المتعة إلى الواجب، فكلما تحوّلت هذه الرياضة إلى صناعة، كان يجري استبعاد الجمال الذي يتولد من متعة اللعب لمجرد اللعب…» ولكن ماذا بشأن اللاعب؟.. إنه.. «يركض لاهثاً على شفير الهاوية، في جانب تنتظره سماوات المجد، وفي الجانب الآخر هوة الدمار..»، وأيضاً: رجال الأعمال يشترونه، يبيعونه، يعيرونه، ويسلم هو لهم مقابل الوعد بمزيد من الشهرة، ومزيد من المال.
نسأل ادواردو غاليانو… صف لنا حارس المرمى؟.. يقول.. «يسمونه كذلك البوّاب، والغولار، وحارس الحاجز، وحارس القوس، ولكننا نستطيع أن نسميه الشهيد، الوثن، النادم، أو المهرّج الذي يتلقى الصفعات، ويقولون إن المكان الذي يطأه لا ينبت فيه العشب أبداً».
نسأل مرة ثانية.. من هو المشجّع؟
– إنه يفضّل أن يأتي إلى هذا المكان (يقصد الملعب)، حيث يمكنه أن يرى ملائكته بلحمهم وعظمهم وهم يتبادلون الركل ضد شياطين هذه النوبة.
– من هو المتعصب؟
– المتعصب هو المشجع في مشفى المجانين.
– من هو الحكم؟
– إنه الطاغية البغيض الذي يمارس ديكتاتورية دون معارضة ممكنة، والجلاد المتكبر الذي يمارس سلطته المطلقة.
– كيف تدرّجت صناعة كرة القدم؟
– كانت كرة الصينيين مصنوعة من الجلد ومحشوة بالقنب، والمصريون في زمن الفراعنة صنعوها من القش أو من قشور الحبوب، ولفّوها بأقمشة ملونة.
وكان الإغريق والرومان يستخدمون مثانة جاموس منفوخة ومخيطة. أما أوربيو العصور الوسطى وعصر النهضة فكانوا يتنازعون في ما بينهم كرة بيضوية مملوءة بشعر أعراف الخيول.
(4)
هذه «سردية» تاريخية يضعها لنا «إدوارد غاليانو» حول تاريخ المونديالات… ويخبرنا أن الشاعر والقاص خورخي لويس بورخيس ألقى محاضرة في الوقت الذي كان فيه المنتخب الأرجنتيني يخوض مباراته الأولى في مونديال 1978.. «… احتقار الكثير من المثقفين المحافظين لكرة القدم كان يستند إلى اليقين بأن عبادة الكرة هي الشعوذة التي يستحقها الشعب، فالغوغاء المصابة بمس كرة القدم تفكر بأقدامها..».
هل توصل حمى كرة القدم إلى الانتحار؟.. يروي «غاليانو» أن لاعب نادي ناسيونال واسمه «أبدون بورتي» انتحر بإطلاق النار على نفسه في منتصف الليل وفي منتصف الملعب الذي كان محبوباً فيه» لم يسمع أحد الطلقة… كانت الأضواء مطفأة.. أما لماذا انتحر؟.. «.. كان يُقابل بالتصفيق دائماً، وبالهتاف أحياناً إلى أن أفل نجمه..».
هل تعرف كرة القدم «العنصرية؟».. بعض «اللعّيبة» الأفارقة اليوم تشتريهم الأندية بملايين الدولارات. بعضهم مسلمون، والكثير من اللعّيبة من أصول عربية تقوم على أكتافهم (أقصد أقدامهم) كرة القدم الأوروبية.
(5)
بقى الكثير من «مونديالات» إدواردو غاليانو. اللعب في المستطيل الأخضر يوازيه لعب في المستطيل العالمي السياسي أو الدبلوماسي أو العسكري. «لعّيبة» من العشرينات والثلاثينات في النصف الأول من القرن العشرين، مروراً بالحربين العالميتين.. الأولى والثانية.
مهاجمون، و «لعّيبة» وسط وأجنحة ودفاع، عالم مملوء بالدفاع والهجوم.. ولا مجال للأخطاء أبداً في ملعب الحياة.. ملعب السياسة تحديداً، كما لا مجال للأخطاء في ملعب كرة القدم.