طريق الحكمة، طريق السلام: كيف يفكّر “الدالاي لاما”؟ (1)

*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

 

    يُعدّ الدالاي لاما إحدى أكثر الشخصيات أهمية في عالمنا المعاصر، وتأتي أهميته من كونه يطرح مفهوماً للدين هو أقرب إلى النسق  المجتمعي – السايكولوجي – الثقافي المغاير للمنظومة اللاهوتية الفقهية المتداولة ؛ وعليه سيكون أمراً مثمراً الإستماع إلى آرائه التي يطرحها في شتى الموضوعات المهمة على الصعيدين الفردي والعالمي .

   أقدّم في هذا القسم ( وأقسام أخرى لاحقة ) ترجمة لأجزاء منتخبة من بعض فصول الكتاب المسمّى ( طريق الحكمة، طريق السلام ) الذي أوشك على إتمام ترجمته . الكتاب في الأصل هو محاورات عقدها ( فيليزيتاس فون شونبورن Felizitas von Schonborn ) مع الدالاي لاما، مع تقديم للكتاب كتبه ( وي جينغشينغ Wei Jingshing )، وترجم الكتاب عن الألمانية ( كريستين إم. غريم Christine M. Grimm ) .

   نُشِر الكتاب للمرة الأولى عام 1994 عن دار نشر ( فيرلاغ هيردر ) في فرايبورغ / ألمانيا، أما في الطبعة الثانية الجديدة فقد أضاف ( شونبورن ) محاورات إضافية مع الدالاي لاما، كما عمل على تحديث النصوص المنشورة سابقاً، ونُشِرت النسخة الجديدة المعدّلة للمرة الأولى عام 2012 عن دار نشر ( Quintessenz Verlags – GmbH. Berlin ( .

   اعتمدتُ في ترجمة هذا الكتاب على النسخة الإنكليزية التي نشرتها دار نشر ( Crossroads Publishing Company ) عام 2004 .

                                                   المترجمة

 

                                          تقديم

 

   إنّ تقديم وصفٍ للدالاي لاما من خلال أهميته الدلالية الكاملة لهو مسعى يلامس  حدود الإستحالة على نحو التقريب ؛ ومن هنا يعدّ كتاب الحوارات هذا غاية في الأهمية لأنّه يوفّر الفرصة أمام الدالاي لاما لتناول موضوعات بشأن حياته، والبوذية  التبتية، والحوار الثنائي بين البوذية والعالم الحديث، والعلاقة بين السياسة والدين، والأزمة الروحية وسط بيئة الوفرة المادية، والأفكار المتعدّدة الخاصة بالسعادة،،،، الخ .  تعدّ الأهمية الإعتبارية للدالاي لاما بمثابة ظاهرة عالمية ؛ فهو –  باعتباره القائد الديني والسياسي للتبتيين – لاينفكّ يوجّه مساعيه وأفعاله لتكون مكرّسة بكاملها من أجل رفاهية شعبه، ولاأظنّ أنّ ألوف صفحات الكتب ستكون كافية لوصف الأوجه المتعدّدة من دوره المميّز  .

   على الرغم من إتصالنا المديد منذ سنواتٍ عديدة خلت فقد أتيحت لي فرصة اللقاء الشخصيّ بالدالاي لاما قبل ثلاث سنوات، وجَمَعَنا تفهّم مدهشٌ منذ لحظة اللقاء الأولى كما لو أننا كنّا رفقاء عهد ضارب في القدم . الميزة الأولى التي أدهشتني أكثر من سواها هي عمق حكمة الدالاي لاما : أنت ترى في الرجل – أكثر ممّا يمكن أن تراه في أيّ شخصٍ  سواه – مصداقاً للمقولة الصينية القديمة التي ترى أنّ الكائنات البشرية التي أصابت حظاً وافراً من التنوير الداخلي غالباً ماتعرض نفسها أمام جموع العامة في أكثر الأشكال بساطة وبعداً عن التكلّف والحذلقة والمبالغات الرقيعة . إنّ التقوى المتواضعة وروح البساطة للدالاي لاما، مع إنشراحه الطفوليّ وانفتاحه الطلق هي مايقود بعض الناس في أحايين بعينها ليدركوا الطبيعة الإستثنائية المميزة التي تنطوي عليها شخصيته، وبرغم أنّ الدالاي لاما نشأ معزولاً عن العالم الخارجي بين جدران قصر ( بوتالا ) فهو قادر بأعلى درجات القدرة على التعاطف مع ضربات القدر التي جعلت شعبه المسالم والطبيعي  يعاني أقسى أشكال المعاناة  وأكثرها إمعاناً في التنكيل وسلب الحقوق الطبيعية .

   حصل حتى أثناء لقائنا الأوّل أن تبادلنا الأحاديث بشأن القدر العظيم من المعاناة التي يلقاها التبتيون والصينيون الهان* على يد الحكّام  الصينيين القمعيين ؛ ولكن برغم هذا فقد أبدى الدالاي لاما تعاطفاً عظيماً هو الآخر إمتدّ ليشمل كثرة من الشعوب المقموعة في كلّ العالم، والرجل في هذا الأمر إنّما هو مخلص كلّ الإخلاص لإلتزامه الذي كرّس له حياته بتحرير كلّ الشعوب التي تُسلَبُ حرياتها على يد الدول التوتاليتارية ( الشمولية )، وبالطبع فإنّ هذا الموقف يُعدّ شيئاً أكبر من محض  إبداء تعاطف غير مكرّس تجاه تلك الشعوب وإن غلبت عليه النوايا الطيبة .

   أودّ التعبير هنا عن فائق إحترامي المبجّل لشخص الدالاي لاما الذي أرى فيه كائناّ بشرياً إمتلأ بروح التنوير الداخليّ، وغدا مثالاً للبصيرة الرؤيوية النفّاذة، والفضيلة المثالية في أكثر تجلياتها وضوحاً، والحكمة في أعظم ذخائرها .

   نيويورك، نوفمبر ( تشرين ثان ) 2001

                 وي جينغشينغ

 

                                مقدّمة

 

                       الدالاي لاما يعيشُ طبقاً لتعاليمه

 

   سواءٌ كان المكان باريس، أو فيينّا، أو  لندن، أو زيورخ فإنّ الناس يندفعون أفواجاً متى ماشهدوا الدالاي لاما يطلّ أمام الأبصار ؛ وبرغم أنّ دوافع المستمعين له قد تختلف فإنّ كلاً منهم يمكن أن يغترف شيئاً من كلمات حكمته وتعاطفه – تلك الكلمات التي يعبّر عنها الدالاي لاما بطريقته الواضحة، القابلة للفهم، والمفعمة بروح الفكاهة والدعابة . يبدو الدالاي لاما الرابع عشر نسيج وحده الذي لايشبهه كائن آخر من حيث قدرته الفريدة على تجسيد الحكمة الشرقية ومنظور الحياة البوذية وعرضها على العامّة، وتظهر أهمية هذه القدرة الفريدة بخاصة في عصرنا هذا الذي غدا مسكوناً بأخبار النجوم والمؤثّرات الحسية وبات مفتقداً للنماذج الإنسانية المعيارية الحقيقية والشخوص القادرة على تجسيد القيم الإنسانية ( طبقاً لكلمات السايكولوجيين ) . يعيش القائد الدينيّ لشعب التبتيين طبقاً لتعاليمه : هذا هو  الشعور السائد لدى كلّ فرد من أفراد شعبه التبتيّ . ” تجنّبوا كلّ شرّ، إفعلوا كلّ ماهو طيّب وخيّر، واجعلوا قلوبكم  نقية خالية من كلّ شائبة : هذا هو ماعلّم به بوذا ” .

   سافر الدالاي لاما لكلّ أنحاء الأرض، والتقى السياسيين القادة وشخصيات مؤثرة أخرى إلى جانب أناس بسطاء للغاية، وانتهى إلى القناعة الحاسمة المرّة تلو الأخرى بأنّ الإنسانية هي في أساسها عائلة كبيرة واحدة . هل هو حلم قديم ؟ هل هي يوتوبيا مثالية غير قابلة للتطبيق ؟ إنّ هذا المنظور بالنسبة إلى الدالاي لاما إستحال مسألة بقاء على قيد الحياة بسبب تعاظم دور الشبكات العالمية المتنامية بالإضافة للتهديدات العالمية التي باتت تواجه الإنسانية . ” الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا إلى الأبد ” : تلك هي عبارة ( روديارد كيبلينغ ) التي كثيراً مايُستشهَدُ بها ؛ غير أنها تبدو في طريقها إلى التفنيد والأفول على يد الدالاي لاما .

   إنّ مفهوم التفاعل السلميّ بين الكائن البشري ونظيره، ذلك المفهوم الذي يبشّر به الدالاي لاما من خلال تعاليمه، هو مفهوم مؤسّس على حقيقة غاية في البساطة : حتى لو كانت الفروقات الثقافية طاغية وعديدة الوجوه فنحن لانزال – وسنبقى – كائنات بشرية فانية توّاقة للسعادة وراغبة في تفادي التجارب والمعاناة غير الطيّبة .

   وكما يقول الفرنسيون ببلاغة فائقة فإنّنا كلّنا واقعون تحت سطوة الحالة الإنسانية condition humaine، والمقصود بها الظروف الإنسانية للوجود البشري . هذه ليست محض كلمات تُقال على لسان سياسيّ مسكون بحمّى إعادة انتخابه، أو شخص حامل لرسالة ذات مضامين كبرى ؛ بل هي كلمات جاءت على لسان سفير حامل لقاعد ذهبية يمكن أن تعيش بمقتضاها الإنسانية، وتتموضع رسالته في الدعوة إلى سلوك صائب من الناحية الأخلاقية يسلكه واحدنا تجاه الآخر : ” إفعل للآخرين ماتحبّ أن يفعلوه بك ” . إنّ الوصايا البوذية هي قواعد موجّهة تسعى لبلوغ أسلوب حياة يُقصَد منه جعل كلّ فرد سعيداً، وذاك هو ( المسار الأوسط ) الذي يجاهدُ لتجاوز كلّ أشكال المبالغات، والمسار الأوسط هذا هو مزيج من الإنفتاح والشكّ .

   ثمة طنين مثل خلية نحل في القاعة الكبرى في أحد الفنادق العالمية بمدينة جنيف، كما ثمة أحاديث وهمهمات هنا وهناك بلغات عدّة هي بمثابة فاتح شهية ؛ فقد تجمّع مئات من الضيوف المدعوّين للإستماع إلى كلمات قداسة الدالاي لاما الرابع عشر على مائدة الغداء . تعقّب سيدة أمريكية بصوتٍ عالٍ : ” الدالاي لاما ….. إنه شاب صغير يبعث الفكاهة والمرح “، ثمّ تحكي عن الكيفية التي تتوهّج فيها روحه حباً بالحياة، وكيف يحكي المزحات الظريفة على نحوٍ لاينقطع، ولايتردّد في الضحك على حاله !! . بعد بضع خطابات متخمة بكلمات جميلة فارغة المحتوى راحت سنّة من النوم تحوم فوق رؤوس الحاضرين في غرفة الفندق ؛ غير أنّ الكلّ صار في كامل إستيقاظه وحواسه المنفتحة لأقصى مدياتها عندما بدأ ( الإنسانيّ البوذي ) – كما يدعو الدالاي لاما نفسه – في الكلام . إنّ مايقوله الدالاي لاما والكيفية التي يقوله بها هو شيء يلامس شغاف قلوب الناس على الدوام .

*  الصينيون الهان Han Chinese : هم أحفاد السلالة الملكية الصينية التي حكمت الصين منذ 206 قبل الميلاد وحتى 220 للميلاد، وخلالها توسّعت الصين وصارت الكونفوشيوسية الفلسفة الرسمية للبلاد . تشير لفظة ( هان ) في العادة إلى المجموعة العرقية السائدة التي ينتمي لها أكثرية الصينيين . ( المترجمة )
__________
*المصدر: المدى    

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *